السديم والبعد الرابع في “فلسفة المصير”

Views: 767

وفيق غريزي

يتناول كتاب “فلسفة المصير” للكاتب الدكتور هاني نصري، ابراز الحراك الفلسفي العنيف على فكرنا في القرن الحالي، بين الفلسفات التي تصارعت في القرن العشرين الماضي بحروب عالمية كما كان بين الماركسية والبراغماتية والنفعية من جهة، والنازية والفاشية من جهة اخرى، وما اعقب ذلك من حروب وحروب باردة دمرت البراغماتية في نهايتها الشيوعية، بعدما قضت على الفاشية والنازية، لتظهر البراغماتية بسياسة القطب الواحد بما يسمى العولمة، ومن مشاريعها القضاء على الاسلام.

هذا الكتاب حوار فكري عميق مع الأسس الفلسفية للفكر الاسلامي، التي على كل من يحاول التصدي لها ألا يغفل مدى تجذرها في الفكر العالمي، كصخرة صلبة تشكلت من الفلسفات الاسلامية المصيرية المتعاقبة، التي لا يمكن تجاهلها في الفكر العالمي، او الظن بأنها مجرد ايديولوجيا فلسفية قابلة للتدمير، كما أغريت البراغماتية في نجاحها بتدمير ما واجهها من فلسفات القرن الماضي المؤدلجة. لذلك نجد أن موقعنا الفكري كأمة في صلب الحقيقة الفلسفية التي تعني مصير الانسان، يحتم علينا ابراز هويتنا بعد سقوط الايديولوجيات الاجتماعية، وتهافت البنيويات القاتلة الفردية، وهذه الهوية تدور حول مبادىء حقيقتنا الفلسفية حول مصيرنا ومعيقاتها بين فكرنا وعقلنا ووعينا.

 

دلالة الفلسفة والأدب 

نظرا لاستحواز الكتابة الأدبية على معظم ما يكتب باللغة العربية، جاء امكان ترجمة نتاج فكرنا المعاصر الى أي لغة أخرى في معانيه، كثير اللغو غير قابل لأن يوضع بلسان آخر. 

ويرى الموًلف أن محك خصوبة مضامين أي كتابة هو إمكان ترجمتها، وفي الترجمة تسقط مساحيق نصوص الأدباء. وآية ذلك أننا نعجز احيانا كثيرة عن أن نصف بعض الخواطر التي تخطر لنا، والعواطف التي تجفي صدورنا، لا نعجز عن أن ننقل خواطر واراء يراها الأوروبيون سهلة يسيرة، بل مبتذلة، وتضيق عنها الفاظنا واساليبنا، لأنها مقيدة بطائفة من القيود اللغوية والنحوية الثقيلة، التي لم نتفق بعد على طريق للتخلص منها، وآية ذلك أننا نضطر في احاديثنا وفي كتاباتنا الى ان نستعمل جملا اجنبية أو الى أن نستعير جملا من لغتنا العربية العامية”. مما يدفع المتحدث الى احضان العامية وصعوبة التعامل مع لهجاتها المختلفة باختلاف العقليات والاعتقادات التي شكلت هذا المنطوق المتنوع العامي “وظلت محتفظة بقوة وغموض رمزيتها فيه، مشعرة حاملها بمعرفة لا تكفي للتعبير عنه، معرفة اشبه ما تكون بمعرفة الحالم، فاذا اردنا أي تعبير جاء ركيكا غير قادر على كشف رموزه ، فاذا لجأ من يريد أن يكشف الى اللغة الام الفصحى، واجهه “سيبويه” المستعرب اكثر من كلة العرب”، هل على العقل أن يظل اسير النحو والصرف؟ وهو العالمي الكلي الذي لا يأبه بأي قيد اقليمي نحوي او لغوي. 

الفلسفة حسب اعتقاد الموًلف، لا تمت الى أي رومانسية ثقافية أو لغوية، وذات طبيعة شكلية ويقينية تختلف عن يقينية السفسطات الأدبية التي لا يهمها إلا الشكلة والضمة. فاذا تجاوزنا هذا الأمرنستطيع ان نتساءل عن اهم العوامل المؤثرة في التفلسف وهي اختلاف طبيعة اليقين الفلسفي عن يقين مستويات المعرفة الانسانية الاخرى.

 

الفلسفة بعد سقوط الايديولوجيات

لكل فرع من فروع المعرفة الانسانية طريق وهدف، وهدف الفلسفة هو البحث عن الحقيقة في كل مجالات ما نعرف، إلّا أن إعجاز الحق جعل الحقيقة وبمجرد أن نصل الى جزء منها تصبح عديمة الجاذبية من جهة، داعية للباحث الى الانتقال الى حقيقة اخرى تبرز منها او تقود اليها، مثلا اي حقيقة يقينية في مجال الفيزياء نجدها تقود الى سواها، “فمعرفة أن الماء مشكّل من غازين ملتحمين لا تزيد ولا تنقص في استعماله. ولكن الحقيقة تقود الى اخرى وهي بحث عن مخزون الطاقة فيهما، واليوم تفتش البحوث الفيزيائية عن بدائل للطاقة البترولية، مثلا، عن كيفية تحرر الطاقة من الماء، وبعبارة اخرى اشعال الماء”. 

إن العقل يريد ان يعلم كل شيء، ولكن هناك اولويات في سلم لا يحتاج أن يعلمه الانسان، وأولها ما يتصل ببقائه وحياته، كذلك لا يتفلسف الفكر الانساني إلا اذا اراد ان يخرج من ذاته نحومزيد من الانتشار، فالفلسفة اذن تفكير ثان، وليست تفكيرًا ثانويًا. يقول الموًلف “لا استطيع أن ابحث في الفلسفة في زحمة، بحثي عن حاجاتي الاساسية من مأكل ومشرب وملبس ودواء ومسكن، واذا عرفنا أننا نقضي معظم عمرنا تحت ضغط الحاجات، ادركنا لماذا يتغاضى معظم الناس عن الاهتمام بالحقيقة أو السير في دربها”.

إن العقل في سلم التطور اداة من ادوات البقاء، هو البديل عن مخلب النمر، بديل جعل مخلب النمر خنجرا، ومن جلد الدب رداء يقي الانسان تقلبات المناخ، وحين تطور العقل وأوجد بدائل القماش البترو كيماوي، الادفأ من كل جلود الحيوانات ولبسها، بدأ يفكِّر في ضرورة الحفاظ على الانواع الحيوانية من الانقراض تحت ضربات اسلحته المتطورة.. الفلسفة اذن تفكير ثان وليس ثانويًا، فلماذا نشهد اليوم كل هذا التراجع ازاء مستويات المعارف الاخرى من فن وعلم؟ 

 

الروح عند الفيلسوف ابن رشد 

لا تفهم فلسفة ابن رشد ولا المدرسة الرشدية بعد، إلا بفهم الظروف التاريخية – الاجتماعية التي افرزتها من جهة، وكم وكيف المعرفة الإنسانية المتراكمة في القرون الوسطى، أي الخلفًية المعرفية كلها في ذلك الوقت من جهة أخرى، والذي سمح لهذه الفلسفة بالبروز على ما هي عليه. وفي بحثه يحاول الموًلف تحديد ثوابت هذه الظروف والثوابت الفكرية التي تحكمها، ويخلص الى القول: “إن الأمر يتعلّق بثوابت الفكر الاسلامي حين احتكاكه بثوابت العقل الإنساني بشكل قبل ديني مطلق مع الاغريق”، وابن رشد، حسب اعتقاد الموًلف هاني نصري، لم ير أن هذه الثوابت تتعارض مع بعضها ولا بأي صورة من الصور، فكتب “مناهج الأدلة في الكشف عن عقائد الملة”، وفصل المقال بين الشريعة والحكمة من الاتصال، كما كتب مقالة هامة في اتصال العقل بالانسان. 

إن مفهوم خلود الروح من المفاهيم الميتافيزيقية، فهو من المفاهيم التي تبحث عن مصير الانسان، لا عن أصله واساس نشوءه، لذلك لا يمكن بحث هذا المفهوم انثربولوجيا، بل ميتافيزيقيا فقط. 

كذلك يقول الموًلف: “نجد كل البحوث الميتولوجية التي تطرقت الى هذا المفهوم، وبنت عقائدها على اساسه، اضطرت الى بحثه ميتافيزياقيا وحسب”. ولأن الميتافيزيقا بشقيها الانطولوجي والكوزمولوجي تبحث في حوامل مقومات الوجود ككل، أي تسخر العقل الانساني للنظر بما به يتقوم كل عيان ظاهر، أي بما وراء حوامل الوجود الفيزيائي، ولأن الروح أو القوة القادرة على تحريك الذات من دون محرِّك خارج عنها، تملك الحامل للوجود الانساني الحي، فهي ما وراء هذا الوجود وشرطه المحرك، لذلك تعد دراسة خلود هذا الشرط المحرك أو هذا الحامل إن اردنا، دراسة في حقل الميتافيزياء وحدها، من كل مستويات المعارف الانسانية، أنها ليست دراسة لاهوتية خبرية، ولا هي انتروبولوجية دوغمائية، بل دراسة ميتافيزياقية. الروح عند ابن رشد صورة عقلية واعية، وهذا العنصر العقلي الواعي هو الذي يضمن خلودها.

 

المصير عبر العقل العملي 

إن المصير كان ولا يزال هدف البحوث منذ فجر تاريخ الفكر الفلسفي والديني العملي، اعاد العلم الحديث عبر احدث منهجياته وتقنياته التساؤل حول بداية الوجود الاولية – الازلية، فقدمت الكيمياء إجابة وقدّمت الفيزياء إجابة اخرى، كما قدّمت البيولوجيا اجابة ثالثة، ولكن الاجابة الأساسية والأهم جاءت من علم الفضاء، واكتشافاته في هذا الكون الذي سبرته قدر ما تستطيع الاقمار الاصطناعية، وبهذا ولد من علم الفضاء علم الكوزمولوجيا.

العلم اليوم يؤكد أن “هذا الذي كان يُسمى لا شيء، هو شيء لطيف اسمه السديم، وهو يتكّون من آتومات كثافتها غير قابلة للقياس الا بعد أن تتلاحم وتتشكل، فكي تتكثف آتومات اساسية غير قابلة للقياس بآتوم هيدروجين تحتاج العملية الى مليون سنة ضوئية أي كل (١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠) سنة في الكون تتشكل ذرة هيدروجين واحدة، وعبارة 

 تتشكل هنا عبارة مضللة وضرورية للفهم، اذ في الواقع تتكثف آتومات لتشكل ذرة (h2) مما يبدو انه لا شيء، لنجد ولادة ذرتي (h2) هي بداية ما يمكننا أن نسميه الغبار الكوني.

 

البعد الرابع 

إن في الدهر الذي تعيش البشرية فيه برهة واحدة فقط، ازمان لا زمن واحد، أي لكل حيز زمانه، الفضاء المحيط بسرعة الضوء غير الفضاء المحيط بسرعة هذا القلم على الورق، كذلك غير الحيز المحيط بسرعة نبضي حين الجري ٨٠ نبضة في الثانية، غير الحيز المحيط بهبوط نبضي حين النوم ٥٠ نبضة في الثانية، مما يعني أن زمن التوتر غير زمن الاسترخاء، في الأولى تتجلى الرغبة والارادة، وفي الثانية الرغبات والاحلام. حتى ما نسميه بالواقع يتغير بتغيرهما. 

“الزمان المكاني المتحرك كالنور، غير الزمان المكاني المتحرك كالسيادة، أي أن البعد الرابع في الطاقة غيره في تكثفها المادي لكنه قايم يتمتع بوجود وتواجد”. 

إن البعد الرابع هو جوهر الأبعاد الثلاثة لكل جسم، والمقوم لها، يتجلى مع الدهر اللانهائي عند الله، ومع النهائي بالانسان بمكان زماني مشخص، يشعرنا بإمكان الانتقال الى مجردات لا نهائية. 

ويوًكد الموًلف أن الأبعاد الثلاثة لكل جسم تتحوّل بتحوّل البعد الرابع فيه، والمتأثر نسبيا بكل الازمنة المكانية في كل الوجود، والتي من تفاعلها تتحرك الصيرورة، بجذب اللانهائي نحوها، ثم دفعه ثانية الى اللانهاية، وفي هذا الجذب والدفع محنة لكل الوجود الانساني، وهذه الحتمية التي نتجت عن كشف علم الفيزياء “أنا” عن معنى البعد الرابع….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *