“مطر خلف القضبان” رواية جديدة لميرنا الشويري عن دار نلسن

Views: 629

صدرت عن “دار نلسن” في بيروت رواية “مطر خلف القضبان” لميرنا الشويري. في ما يلي الفصل الأول في عنوان “أسمعك من دون أذنيّ”.

 

أسمعك، أسمعك أكثر من دون أذنيّ، وأراك أكثر من دون أن أراك. قل لي ياهذا، كيف لك أن ترحل، وتتركني أغرق في صمتي ووجعي وضياعي؟ من أنا؟

لم أعد أعرف، ربما أنا روح مبعثرة، أو أحلام منثورة على مهجة العدم، أو حواس من دون حواس… كيف لك أن ترحل، وتترك طيفك يشهد موتي مئات المرات؟ أرجوك خذه معك، أريد أن أموت في صمتي الأصمّ، فهو لا يسمع صرخاتي. أحببتك لأحيا، فقتلتني لتحيا، ولم تشعر بذنب جريمتك، تبرّأت منّي ويداك ملطّختان بدمي. والغريب أنّني أحبّك أكثر حتّى من دون حواسي. أعرف أنّ كلماتي لن تصلك، وأنّ حبي لك لم يعد يعنيك، ولكن العاشق لا يملك إلّا أن يأمل حتّى ولو لم يكن هنالك أمل.

أحدّقّ في دقّات المطر على زجاج السيارة ثمّ أفتح لها، لأسمعها على وجهي، فأغلق عينيّ، وأشمّ رائحة شتاء بيروت. كم تذكّرني بك!

فجأة توقّفت السيارة، نظرت إلى سائق الأجرة باستغراب، فرأيته يقول لي بغضب: “أغلقي النافذة، ألا تسمعين؟!”

“آسفة أنا صمّاء.”

تعاطفت مع أسفه الذي ظهر على وجهه “آسف، ولكن قلت لك عدّة مرات أن تغلقي النافذة، ولكنّك لم تردّي.”

أغلقت النافذة بسرعة، وأخرجت من حقيبتي الملفّ الذي سأقدّمه لمنظّمةTransnational Feminism  النسوية عبر الحدود، والتي ستعقد اجتماعها السنويّ اليوم في الجامعة الأميركيّة في بيروت.

تصفّحت الملفّ بسرعة، وأغلقته.

“ماري أنجيلا، أعتذر، ولكن سأتأخّر عشر دقائق بسبب ازدحام السير.”

قرأت رسالة زينب على الواتسأب فأجبتها: “لا بأس، سأنتظرك داخل حرم الجامعة.”

كم أنا شاكرة لصديقتي رنا عثمان التي عرّفتني إلى زينب، لأنّها بالتأكيد ستسهّل عليّ مشاركتي في المؤتمر، فتجربتي في المؤتمر الذي انعقد السنة الماضية في بريطانيا كانت مريرة. لم أستطع قراءة الشفاه عن بعد، والحوارات بين مجموعات صغيرة أرهقتني، فلم أستطع أن أتابع كلّ ما قيل حولي. لن أذهب الى أيّ مؤتمر من دون أن يرافقني مختصّ بلغة الإشارة.

نزلت من سيارة الأجرة، وركضت بسرعة إلى داخل حرم الجامعة حتى لا أتبلّل.

وإذا بالذكريات تأخذني إلى زمن الحبّ… تحت هذه الشجرة كتبنا في ذاكرة الزمن لقاء. ما أرقّ كلماته:

أحبّ المطر لأنّه يعزف موسيقى لها ملامح رقّتكِ، أحبّكِ، أصابعك موسيقى، شعرك الطويل الأشقر سمفونية من أشعة الشمس، لمعة عينيك روح لحن لم أسمعه بعد. أعدكِ بأنّني لن أعزف في حياتي إلّا لسحر عينيكِ.

مسحت دموعي بسرعة، وكأنّني أحاول أن أمحو الذكريات، ولكن أعرف أنّه لا جدوى.

“ماري أنجيلا!”

التفتّ إلى لمسة على كتفي لأرى باريا مهانتي، ناشطة هندية، يقف بقربها رجل أشقر.

“باريا، كم اشتقت إليك!”

ضممنا بعضنا.

“وأنا أيضًا، لم نلتقِ منذ المؤتمر الأخير السنة الماضية. هذا ديفيد نيوكوزيا، وهو من الرجال الناشطين في حقوق المرأة.”

“تشرّفت بك.”

“الشرف لي.”

“هذه هي المرة الأولى التي تدعو فيها المنظّمة رجالاً، وهذه خطوة رائعة.”

“نعم، أفرحتني دعوتهم لي. ماري أنجيلا، هل أنت بريطانية؟”

“نعم، والدي من بريطانيا ووالدتي لبنانية. هل عرفت من لهجتي؟”

“نعم، إذن أنت هجينة الثقافة، وهل هذا ما جذبك إلى هذه المنظّمة؟”

“نعم، هذا أكثر ما جذبني إليها، وماذا عنك ديفيد؟”

“أنا من جنوب إفريقيا.”

“ماري أنجيلا روائية أيضًا يا ديفيد.”

“جميل، وهل تناقشين قضية حقوق المرأة في رواياتكِ؟”

“نعم، وماذا عنك ديفيد، كيف بدأ اهتمامك بحقوق المرأة؟”

“عندما كنت أعمل في منظّمة للمعوقين، لاحظت أنّ المرأة المعوّقة تعاني أكثر من الرجل، ولاحقًا تعرّفت إلى منظّمة تتألّف من رجال يدافعون عن حقوق المرأة، وانتسبت إليها.”

“على فكرة – ديفيد- أنا صمّاء.”

“ولكن لم ألاحظ!” قال متفاجئًا.

“لأنّني تعلّمت في بريطانيا قراءة الشفاه ، فقط بعد أن فقدت سمعي اختبرت وجع النساء المعوّقات.”

“نعم، وجعهنّ لا يوصف، فهنّ مهمشّات.” قالت باريا.

“صحيح، خاصّة في الشرق، كلّ يوم هنا يذكّر المجتمع المرأة المعوّقة بإعاقتها.”

“وفي إفريقيا المرأة المعوّقة تعاني أيضًا. البحث الذي سأناقشه اليوم عن المرأة المعوّقة في عدّة دول في إفريقيا.”

“أنا متحمّسة لأقرأ بحثك، بحقّ هذه خطوة مفيدة للمنظّمة، أتمنّى أن يكون حضور كبير للرجال. الحركات النسوية متّهمة من الكثيرين بأنّها ضدّ الرجال، لأنّ أعضاءها فقط من النساء، لذلك تحقّق المنظّمة بمشاركة الرجال انتشارًا أوسع.

ماذا عنك يا باريا؟”

“سأقدّم بحثًا عن كيفية استطاعة النسويات المختلفة أن تستفيد من خبرات بعضها.”

“موضوع شائق، أنا سأقدّم بحثًا عن وضع المرأة السجينة في لبنان، وأحضّر رواية أيضًا عن هذا الموضوع.”

“أتمنّى أن تتبنّى المنظمة روايتك، لأنّ الأبحاث العلمية لا تصل إلى كلّ الشرائح في المجتمع بعكس الروايات.” قالت باريا.

“أتمنّى ذلك. أعتقد بأنّه حان الوقت للتوجّه إلى قاعة المؤتمرات.”

“نعم.”

بينما كنّا نتوجّه إلى قاعة المؤتمرات نكزتني باريا، فنظرت إليها: “أسمع موسيقى، هل يدرّسون الموسيقى في هذه الجامعة؟”

“نعم، لقد تخرّجت من هذه الجامعة من كلّية الصحافة، ولقد درست الموسيقى كمادّة اختيارية.”

نظرت إلى الغرفة التي أشارت إليها باريا باشتياق وحزن.

ماذا لو كان كيفين يدرّس الآن في الصفّ؟!

الموسيقى جمعتنا، والموسيقى فرّقتنا. عشقت العزف من أجله، ولكنّه تركني رغم حبّه لي فقط لأنّني فقدت سمعي. لم يستطع أن يتخيّل نفسه مع امرأة لا تسمع عزفه.

دخلنا إلى القاعة، وما هي إلّا لحظات حتى دخلت زينب، وجلست بقربي: “سامحيني على التأخّر.”

“لا عليك، لم يبدأ المؤتمر بعد.”

جلستُ مشوّشة في القاعة، حتّى إنّني لم أستطع أن أركّز على كلمات المشاركين على الرغم من محاولات زينب أن تنقل لي كلّ ما يقال.

“والآن جاء دورك.” قالت لي زينب.

توجّهت إلى المنبر، لأجلس بقرب المحاضرين الأربعة.

بعد أن عرّف بي رئيس الجلسة عرضت باختصار بحثي:

هنالك الكثير من المهمّشات، ولكنّني اخترت أن تكون السجينات محور دراستي، لأنّ صوتهنّ يكاد يختنق خلف جدران السجن. هنّ فئة أرسلن إلى السجن بهدف التأهيل أكثر من العقاب، ولكنّني أؤكّد لكم بأنهنّ يضطهدن داخل السجن وخارجه.

بعد أن عرضت أهمّ المشكلات التي تعاني منها السجينات في السجون اللبنانية ذكرت أنّني أحضّر رواية عن السجينات، وتمنّيت على المنظّمة أن تساعدني على نشرها في عدّة دول في العالم.

على الرغم من أنّي كنت مشوّشة، ولكن كان يومًا مفيدًا لي، فلقد التقيت بالكثير من أصدقائي في المنظّمة، كما أنّ الإداريين في المنظّمة شجّعن فكرة الرواية، وأكّدن لي بأنّهنّ بانتظار روايتي للاطّلاع عليها.

عندما كانت زينب توصلني بسيارتها إلى بيتي في جبيل أعطتني ملفًّا: “قالت لي رنا أن أعطيكِ هذا الملفّ.”

تابعت بعد أن رأت التعجّب في عينيّ: “هو يوميات سجينة في سجن زحلة.”

“شكرًا لك.”

“قالت لي رنا إنّها لم تستطع أن تجلب لك النسخة الأصلية، فصوّرتها لك.”

“لا بأس، المهمّ أنّها كُتبت داخل السجن، شكرًا لكما.”

كانت أمّي كعادتها تنتظرني على العشاء.

“أعتذر يا أمّي، لكنّني لست جائعة.”

ابتسمت لي: “كما تريدين.”

كم يؤلمني شعورها بالذنب تجاهي، لأنّني تركت بريطانيا وعملي مع والدي وأخي بيتر في إدارة مطعمهما من أجلها.

ولكن رغم كلّ أوجاع ذكرياتي، يسعدني تحسّن وضع أمّي النفسي بعد عودتي. 

فمنذ انفصالها عن والدي وهي تشعر بأنّني أقرب إنسان إليها.

جلست على كرسي أنظر إلى البيانو، وإذ بوالدتي تدخل لتعطيني فنجانًا من الشاي الأخضر.

قبّلتني، وانسحبت. أكثر ما أحبّه بوالدتي غير حنانها أنّها تتفهّم طبيعتي، وتعرف متى أفضّل أن أجلس وحدي.

أغمضت عينيّ، فرأيت عينيه الزرقاوين، ابتسمت، وعزفت لهما لحنه المفضّل، الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي. ومع أنّ أذنيّ لا تسمعان عزف أصابعي، ولكن روحي تسمعها، وتحلّق بعيدًا إليه. لا ليس بعيدًا فهو قريب منّي كقرب الروح لجسدها. 

فتحت عينيّ، فرأيت أمّي تقف بقرب البيانو تراقبني وعيناها تدمعان، فتوقّفت عن العزف.

“هل انتهيت من شرب الشاي؟” قالت لتخفي ارتباكها.

“نعم، شكرًا لكِ.”

وقفت بجانب الشباك لأشاهد الرعد والبرق ينبئان بالشتاء، ولأتذكّر لقاءنا تحت المطر هنا في حديقتنا.

أغمضت عينيّ ورأيتنا.

اتّصل بي ليقول لي إنّه ينتظرني في الحديقة، ولم تكن أمّي في البيت، فركضت إلى الحديقة، لأراه ينتظرني تحت شجرة.

“اشتقت إليكِ” نظر إليّ بحنان “تعالي نتمشّى.”

فجأة بدأت السماء تزخّ مطرًا خفيفًا. أمسك بيدي ومشينا والأمطار تلامسنا بكلّ حنان، وإذ به يوقفني، ويتأمّل شعري ووجهي وجسدي: “ما أجملكِ طفلة معمّدة بالأمطار…”

لمس شعري الرطب ووجهي، وأغمض عينيه، وقبّلني ثمّ خطفني إلى لوحةٍ رسمها في خياله.

“أريد أن أستلقي معك تحت المطر. هل تريدين؟” 

لم أكترث لثيابي أو لشعري، فقط كنت أريد أن أكون كما يرسمني في خياله، كما يمزجني بالتراب والأمطار، حملني، ووضعني على الحشيش الرطب، واستلقى قربي يحدّق بي ثمّ لمس شعري: “كم أنت جميلة ورطوبة الأرض والسماء تزيد من براءة ملامحك…”

لم يكن حلم المطر أن يتوقّف إلّا عندما سمعنا صوت أمّي تناديني من البيت.

“يا إلهي، هذه أمّي تفتّش عنّي، يجب أن أذهب.”

“لكن أنت ملطّخة بالوحل” قال وهو خائف. تأمّلت وجهه القلق، وضحكت كثيرًا.

“لماذا تضحكين؟”

“لأنّ الموقف مضحك، فنحن الآن خائفان، لكن قبل لحظات كنّا بغير عالم، ولم نبالِ بشيء.”

ضحك.

“لا تخف، سأقول لها وقعت.”

“ولكن شكلك…”

“أعرف ملطّخة بالوحل، سأقول لها وقعت مرتين.”

“ولكنك تحتاجين إلى مئة وقعة لتصبحي هكذا!”

“حسنًا، سأقول لها وقعت مئة مرة.”

ضحكنا حتى الثمالة.

تأمّلتني أمّي باستغراب، وسمعت نفسي أقول لها: “كنت أتسلّق الشجرة، ووقعت…”

عرفت أنّها لم تصدّقني، لكن ركضت بسرعة إلى غرفتي حتى لا يتبخّر حلم المطر.

لا أعرف أن أنسى احتفال أرواحنا وأجسادنا تحت المطر، وكيف كُتب الحبّ تحت المطر، وكيف احترق الشغف باتّحاد السماء والأرض في اتّحاد روحين وجسدين، وكيف لكلّ هذا أن يحدث ثمّ يُمحى كالرسوم على رمل البحر؟

كيف؟ لا أعرف!

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *