إدغار موران: أنا فيلسوف مُتوحّش

Views: 427

ترجمة وتقديم حسّونة المصباحي*

الحدث الثقافيّ والفكريّ المُهمّ الذي شغل فرنسا في العام 2021، هو بلوغ المفكّر الفرنسيّ الكبير إدغار موران سنّ المائة. وعلى الرّغم من ذلك لا يزال حاضر البديهة، مُتابعاً لأحداث بلاده، وأحداث العالَم، مُدلياً حولها بتصريحاتٍ وتعليقات. وقبل ثلاث سنوات، كانت دار “فايار” المرموقة قد نَشرت سيرته الذاتيّة في كِتاب تحت عنوان: “الذكريات تأتي لمُلاقاتي”. وفيها يروي بطريقة أدبيّة ساحرة ومُثيرة تفاصيل مَسيرته الفكريّة المديدة هو الذي اخترقَ القرن العشرين بأكمله تقريباً ليعيش جلّ أحداثه الكبيرة والصغيرة، وحروبه، وكوارثه ومباهجه أيضاً.

وقد يكون إدغار موران المولود في العام 1921 آخر عمالقة الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع في فرنسا. تدلّ على ذلك مؤلّفاته الغزيرة في المجالات المذكورة، وإسهاماته المتعدّدة والمهمّة في إذكاء الصّراعات المتّصلة بها على مدى عقودٍ طويلة. وكانت حياة هذا المفكّر الذي نذر الشّطر الأكبر من حياته للدّفاع عن الحرّيّة، وعن المبادئ الإنسانيّة السامية، سلسلسةً من المُغامرات المُثيرة في البحث، وفي التأليف، وفي النّضال الاجتماعي، والسياسي حيث شارك في المقاومة ضدّ الاحتلال النّازيّ لبلاده. وبعد الحرب الكونيّة الثانية، انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي؛ غير أنّه انفصل عنه في العام 1949 ليكتب نقده الذّاتي مندّداً بالستالينيّة، وبمُعسكرات الاعتقال في ما كان يسمّى بالاتّحاد السوفياتي. وعن ذلك كَتَبَ يقول: “ربّما يُفهم انتسابي للحزب الشيوعي كما لو أنّه بحثٌ عن حماية، وعن غطاء، وعن عائلة جديدة، وكأملٍ في أن تعود والدتي لعالَم الأحياء من جديد”.

كما دأب إدغار موران على المُشارَكة في كلّ الصّراعات التي شهدها العالَم منذ منتصف القرن العشرين وحتّى هذه السّاعة. وفي سيرته المذكورة، يتحدّث عن مختلف مراحل حياته، وعن المعاني العميقة لأفكاره، ومواقفه، ومؤلّفاته. ويقول إنّ أوّل مأساة صدمته كانت وفاة والدته وهو في التّاسعة من عمره. وقد قادته تلك الفاجعة مبكّراً إلى قراءة أعمال الكبار في مجال الفلسفة والأدب من أمثال مونتاني، وباسكال، ودستويفسكي، وتولستوي، وغيرهم. وعن اختياره الانتساب إلى حركة المُقاومة يقول: “كنتُ في العشرين لمّا احتلّ النّازيّون بلادي. وكنتُ أرغب في أن أتعرّف إلى الحياة، وأن أجرّب الحبّ والمُغامرة. كنتُ أريد أن أعيشَ الأحداثَ بقوّة وكثافة.. وكنتُ أرى أنّه إذا ما أنا أردتُ الحفاظ على حياتي، فإنّه يتوجّب عليّ أن أتخفّى. والحال أنّ الحياة تعني بالنسبة إليّ أن أرمي بنفسي في تلك المغامرة الهائلة المتمثّلة في الحرب الكونيّة الثّانية. وفي ذلك الوقت كنتُ أكتب يوميّات عن حياتي الخاصّة والسرّيّة. وذات مساء، سمعتُ سمفونيّة “الباخرة الشّبح” لفاغنر فكانت بمثابة النداء الذي يدعوني للالتحاق بالمُقاومة. عليّ أن أنطلق إذن. فالريح تهبّ، ولا بدّ من أن نحاول أن نعيش. عندئذ كتبتُ في يوميّاتي: “عواصف الباخرة الشّبح، احمليني معك”. والجملة تقليد لجملة شاتوبريان التي يقول فيها: “انهضوا بسرعة، العواصف الرّعديّة المرغوبة”. ويشير موران إلى أنّ سنوات المقاومة كانت رائعة من حيث العواطف الإنسانيّة، والصداقات بين المُقاوِمين. وكانت بحقّ “كنزاً ثميناً” بحسب عبارة الشاعر الكبير رنيه شار الذي شاركَ في المقاومة هو أيضاً، ومن وَحيها كَتَبَ مجموعته الشهيرة: “أوراق هيبنوس”. غير أنّ ما حدث بعد الحرب كان مؤلماً جدّاً. فقد تمَّت مُعاقَبة نساء ضاجعن جنوداً ألمانيّين بحلق رؤوسهنّ. كما حدثت مظالم أخرى عديدة، وانتهاكات بشعة. وهذا ما عبّر عنه رنيه شار حين كَتب يقول: “أخشى الهيجان، كما أخشى البؤس اللّذَيْن سيعقبان الحرب. أستشعر أن الإجماع المريح، والجوع للعدالة سوف ينتفيان بسرعة حالما ينحلّ رباط معركتنا الذي كان يجمع بيننا”…

ومن وحي تجربة المُقاومة والحرب، أصدر إدغار موران كِتابه الفكريّ الأّوّل الذي حمل عنوان: “الإنسان والموت”. وفيه ظلّ “وفيّاً ” لماركس بحسب تعبيره الذي يربط الفلسفة بالتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، مُضيفاً إلى تلك العناصر ما يتّصل بالخيال، والأسطورة، والرمز المكوِّن لأبعاد الإنسان في المُجتمع من دون أن يعتبر ذلك من “البنى التّحتيّة”. ويشير إدغار موران إلى أنّه استفاد عند صياغته رؤيته الفكريّة هذه من كِتابٍ ألّفه عن السينما بعنوان: “الإنسان الخياليّ”، وفيه يُبرز غزو الخيال لآلةٍ مهمّتها تصوير العالَم الواقعيّ، ويُظهر أحلامنا. وفي السبعينيّات من القرن الماضي، أَصدر إدغار موران كِتابه المهمّ الذي حمل عنوان: “الطريقة”، وفيه يرسم صورة عميقة لمنهجه الفكريّ مُستفيداً من الفلاسفة الكبار، خصوصاً هيغل. وفي هذا الكتاب يُدافع عمّا يسمّيه “الفكر المُركَّب” الذي لا يعني التعقيد وإنّما الطّموح إلى الكمال الفكري الذي يُحرِّرنا من الفكر المُجزَّأ، والمقسَّم، والمُختزَل. وملخِّصاً مضمون كتابه المذكور، يقول: “الطريقة ليست برنامجاً للمعرفة، وإنّما هي استراتيجيّة المعرفة التي على كلِّ واحدٍ مُمارستها”. وفي هذه الفترة نفسها، أي السبعينيّات، انطلق إدغار موران إلى كاليفورنيا ليعيش تجربةً فكريّة أخرى. ففي ذلك الوقت، كان الشباب الأميركي يعيش تجربة “الهيبّبي”. وكان أدب ما أصبح يسمّى “البيل جينيراسيون” رائجاً ومؤثّراً في الحياة الثّقافيّة، والفنّيّة، والفكريّة عاكساً نمطاً وأسلوباً جديداً في الحياة داخل المُجتمعات الرّأسماليّة والاستهلاكيّة. ومن وحي تجربته الكاليفورنيّة، كتبَ يوميّات فيها جمْعٌ بين الفكر والأدب. وعن الاهتمام العالَمي الذي أصبحت تحظى به أفكاره حتّى أنّ بعض الجامعات في جنوب أميركا أطلقت اسمه عليها، يقول إدغار موران: “لماذا يهتمّ الطلبة والأساتذة والمثقّفون في جنوب أميركا بأفكاري؟ والجواب هو أنّ المعرفة هناك ليست مقطوعة عن الحياة الاجتماعيّة كما هو الحال في فرنسا. ويبدو لي أنّ هناك حيوّيّة تراجيديّة رائعة في تلك البلدان التي وَسَمَتْها جراح مؤلمة وعديدة. وعلينا أن نضيف إلى كلّ هذا، التنوّع الجنسي، والثقافي، والعرقي، والذي يُحرِّض على الانفتاح الفكري، وعلى الثقافات الأخرى. وأعتقد أنّ روايةً متعدّدة الأصوات والأساليب مثل “مائة عام من العزلة” هي في الحقيقة نَوع من “الفكر المُركّب” الذي عنه تحدّثت… إنّ المعرفة الحقيقيّة هي تلك التي تقودنا إلى لغز الأشياء…”.

هنا مقاطع من حوار مُسهب أجرته “المجلّة الفلسفيّة” الفرنسيّة في عددها رقم 151 الصادر في شهر آب – أغسطس من العام 2021.

– احتفلتَ في الثامن من شهر يوليو – تمّوز بمرور مائة سنة على ميلادك… هل أثقل عليكَ هذا القرن الذي عشته؟

(ضحك)… أعتقد أنّه كلّما ظهر هذا الرمز للعشريّات فإنّه لا يكون خالياً من الاضطراب. تذكّروا بلوغكم سنّ العشرين أو الأربعين. ألَم تكنْ تلك مرحلة خاصّة إلى حدٍّ ما؟ تصوّروا ماذا يكون شعور المرء عند بلوغه سنّ المائة… لماذا نشعر بالاضطراب أمام هذا الرقم؟ لأنّ الصفر يوحي في الوقت نفسه بالعدم وبالولادة. وهو يُكثّفُ فكرة عيد الميلاد نفسها. ما معنى عيد الميلاد؟ إنّه موت – وولادة جديدة، إذ نحن نحتفل بموت سنة انقضت من عمرنا، وفي الوقت نفسه نحتفي بالسنة الجديدة من عمرنا. لكن عندما نبلغ المائة عام، فإنّ الولادة الجديدة تبدو مستحيلة. ونحن بالأحرى نرى بالخصوص الوجه الآخر، وجه نهاية الحياة… 100 عام ليس رقماً، وإنّما هو رقم مشؤوم.

– أيّ علاقة يُمكن أن نربطها مع المستقبل؟

نحن نسبح في عصرٍ غامض، ومُشتبه به بحيث لن يكون بإمكاننا أن نتوقّع ما سيحدث. علينا أن نفكّر انطلاقاً من هذا الغموض عوض أن نحاول تجاوزه. وها أنّنا نعيش التجربة مع الكوفيد19، ومع أزمة كشفت أنّه من المستحيل أن نقضي على فيروسات مُحيطنا وجراثيمه لأنّها تمتلك قدرة خارقة على التجدُّد والتحوُّل … ومثلما كان حالنا مع النووي، نحن ليس باستطاعتنا أن نجنِّب أنفسنا أحداثاً أليمة وفواجع قاتلة، إذ كلّما تطوَّر العالَم على المستوى التكنولوجي، ارتفعت درجة توقُّع ما هو أسوأ. وأمام هذا الغموض الأساسي، علينا أن نجمع في أذهاننا سيناريوهات مُتناقضة. والأفضل من كلّ هذا، يتوجّب علينا أن نتوقّع أنّ التطورات العلميّة، والتكنولوجيّة، والاقتصاديّة، خلقت احتمالات ظلّت مجهولة إلى حدّ الآن مثل الاحتمال القاتل لدمار العالَم كما حدث في هيروشيما، أو احتمال تدهور المُحيط الحيوي للأرض، وانهيار حضاراتنا، وفي الوقت نفسه علينا أن نفكّر أيضاً في احتمالٍ تقني وفيزيقي لانفجارٍ سكّاني، وليس روحيّاً أو أخلاقيا. هذا السيناريو المُضاعَف هو في طور النشوء، لكنّنا نواجهه بعماء ومن دون وعي. ويُمكن القول إنّنا نعيش مغامرة مجهولة كالسائرين نياماً…

– اسمكَ، موران، هو الاسم المُستعار الذي اخترته خلال مرحلة المقاومة مُفضّلاً إيّاه على اسمك الأصلي ناحوم. من أين جاء هذا الاسم، موران؟ ولماذا احتفظتَ به بعد الحرب الكونيّة الثانية؟

كان العمل السرّي في حركة المقاومة يتطلّب اسماً مُستعاراً. وعندما يتعرّف “الغاستابو” على الاسم المُستعار، فإنّه يتوجّب تغييره فوراً. وكذا كان حالي أنا. ففي البداية اخترتُ اسم “مانين”، بطل رواية “الأمل” لمالرو، والذي كان أيضاً اسم رئيس جمهوريّة فينسيا في العام 1848، والتي كانت لها مواجهة بطوليّة مع الجيش النمساوي إلاّ أنّ أمدها كان قصيراً. غير أنّ الصديق الذي كشفت له عن اسمي المستعار عند وصولي إلى مدينة تولوز لحضور اجتماع سرّي، قدَّمني على أنّ اسمي هو “موران”. وهكذا احتفظتُ بهذا الاسم لدى رفاقي وأصدقائي. وعندما شرعتُ في إمضاء مقالاتي بعد الحرب، سعيتُ إلى تغيير اسمي في الحالة المدنيّة مثلما فعلَ الكثيرون من الفرنسيّين، مختاراً موران. وأنا أعيش جيّداً مع هذه الهويّة المزدوجة، على الرّغم من المُشكلات التي تتكاثر خلال حملات المُراقبة، والتحقُّق في الهويّات. ومُحتفظاً بهذَين الاسمَين، شعرتُ بأنّي “ابن والدي”، وفي الوقت نفسه “ابن أعمالي الفكريّة”.

– عشتَ بكثافةٍ وقوّةٍ تحريرَ باريس في 26 أغسطس – آب 1944. وبالعبارات نفسها أنتَ تتحدّث عن الغليان الجماعيّ للثورة الطلابيّة في ربيع العام 1968… ففي مثل هذه الأوقات نحن نشعر بـ “القيمة الشعريّة للحياة”، وهو إقلاع للحياة داخل الحياة نفسها…

عشتُ بالفعل تحرير باريس من الداخل مُخترقاً المدينة بالسيّارة برفقة صديقَي: مارغريت دوراس وديونيس ماسكالو، رافعين العَلَم بألوانه الثلاثة، ومُتّحدِّين الطلقات الأخيرة للمُتعاونين مع النازيّين، والذين كانوا مُتخفّين في السطوح. وأنا هنا لا أستعمل كلمة “إقلاع”، بل أفضّل “تفتُّح” في الهدوء وفي الكثافة والقوّة أيضاً. المُشارَكة في الاحتفالات الكبيرة يُمكن أن تكون حالة سعيدة، إلّا أنّها يُمكن أن يكون لها جانب مُظلم. وانطلاقاً من ذلك، كنتُ قد أشرتُ إلى “أشكال الانتشاء الأسود لدى إيروس”، وفي الوقت نفسه إلى الاحتفالات المُخيفة بالفوهرر، وبالدوتشي، وبستالين، وإلى كلّ التجمُّعات المُتعصّبة.

– على مدى عشر سنوات، انتسبتَ إلى الحزب الشيوعي، غاضّاً الطرف عن جرائم الستالينيّة وأكاذيبها؛ إلّا أنّك كنتَ من أوائل المثقّفين الفرنسيّين الذين حاولوا فهْمَ طبيعة العقيدة الشيوعيّة… فعلتَ ذلك في كتابك: “النقد الذاتيّ” (1959)…

الشيوعيّة دينٌ للخلاص الأرضي تمنح السذّج من المؤمنين بها وهْماً هائلاً، ولغير السذّج ترضياتٍ مُقْترنة بالرضوخ والهَيْمنة. إنّها التجسيد الأخير للرسالة اليهوديّة – المسيحيّة أعاد لها ماركس الحياة بطريقة لائكيّة، وطبّقها بالحيويّة الأخيرة كلٌّ من لينين وتروتسكي، وفُرضت في روسيا على مدى ستّين عاماً اعتماداً على أسطورة كاذبة ومُلفّقة. ومثل كلّ الديانات الكبيرة، كان للشيوعيّة أبطالها، وشهداؤها، وجلّادوها، وبهلاؤها، وأغبياؤها. وانحراف ديكتاتوريّة البروليتاريا إلى ديكتاتوريّة الحزب الواحد كان سبباً في ظهور العديد من الانحرافات الثقافيّة والفكريّة. وفي جميع أنحاء العالَم غرَّر الحزب الشيوعي بأناسٍ كانوا في البداية مدفوعين بالأخوّة ليكونوا في النهاية مُتعصّبين ودوغمائيّين. وهؤلاء تمّ اختيارهم من قِبَلِ الحزب لكي يكونوا في المَراكز العليا للسلطة.

– بعد الحرب شكَّلتَ مع مارغريت دوراس، وزوجها السابق روبير أنتالم العائد بأعجوبة من محرقة المُعسكرات النازيّة، وعشيقها الجديد ديونيس ماسكولو، وزوجتك فيوليت، مجموعة طوباويّة عاشقة. ما هي طبيعة تلك المجموعة في الفكر، وفي الحياة؟

في العام 1945، بعد الحرب، كنتُ قد أمضيتُ مع زوجتي فيوليت، سنتَيْن في ألمانيا كملحقٍ عسكريّ في الجيش الفرنسي الثالث، ثمّ كمسؤول عن الدعاية. ومن وحي تلك التجربة، ألّفتُ كتاباً بعنوان: “ألمانيا، السنة الصفر”. وعند عودتي إلى فرنسا، مَنحتنا مارغريت دوراس غرفةً في شقّتها التي كانت تتقاسمها مع روبير أنتالم الذي كان عشيقها ديونيس ماسكالو قد جاء به من معسكر “داخاو”، إذ إنّه كان صديقاً حميماً له. وعلى مدى عامَين كوَّنا مجموعةً رائعة لنتقاسم متع الحياة، والأفكار، والقراءات، وكلّ أشكال التسلية والعبث واللّهو الجميل. وفي المساء كانت مارغريت دوراس الضيفة الطبّاخة، تعدّ عشاءات احتفاليّة كان يحضرها باستمرار الكاتب رايمون كينو وزوجته، والفيلسوف مارلو بونتي، والشاعر والمفكّر والروائي جورج باطاي، ورنيه كليمان. وكنّا نتناقش ونتجادل من دون انقطاع، ثمّ نخرج أحيانا لنرقص، أو لنستمع إلى بوريس فيان، أو إلى جولييت غريكو. وتلك المجموعة تفرَّقت وتشتَّت بعدما حملتْ كلّ من مارغريت دوراس وزوجتي. والحقيقة أنّها كانت تجسِّد بشكلٍ بديع الانسجام بين “الأنا” والـ “نحن”. وقد عشتُ مثل تلك التجربة أكثر من مرّة. وأحيانا ينجلي الانسجام والتوافق فكما لو أنّ قوى التشتيت أشدّ فتكاً من قوى الصداقة والرفاقيّة. لكنّي عشتُ في الوقت نفسه أشكالا من العشق والأخوّة لم تنجلِ إلّا بسبب الموت، وهي لا تزال حيّة في ذاكرتي.

– فكرك الفلسفيّ يتمحور حول مفهوم “التركيب”… كيف تُحدِّد ذلك؟

فكرتي الأساسيّة تقوم وتنهض على ما يلي: عندما نُقسّمُ الواقعَ إلى أجزاء، بحسب المعيار المتّصل بتقسيم العمل العلمي، فإنّ المنطق الأرسطي (نسبة إلى أرسطو) يكون ناجعاً. وعكس ذلك، حالما ننصرف عن الاهتمام بأجزاء الواقع التي تَصْطفيها الفروع العلميّة، ونُركّزُ على الإمساك بالمجموع والسيطرة عليه، فإنّنا نُواجه فوراً تناقضات، وأوضاعاً حرجة، بحيث نجد أنفسنا مُجبرين في النهاية على خرْق المنطق من دون أن نتمكّن من إيجاد منطق آخر أفضل منه. ومن دون أن يتجاوز هذه الوضعيّة، يحاول فكر “التركيب” أن يجد الحلَّ المُناسب. وهو يعترف بالثنائيّات المكوِّنة للتجربة الإنسانيّة: الانسان العاقل الذي هو أيضاً الإنسان غير العاقل، والإنسان التقني الذي هو أيضاً الإنسان المتديّن، والإنسان الاقتصادي الذي هو أيضاً الإنسان اللّاعب والحرّ. وفكر “التركيب” يقوم أيضاً على أنّ الفرد، والمُجتمع، وما هو حيّ، مرتبطون ببعضهم بعضاً، الواحد فوق الآخر: فالمُجتمع يوجد داخل الفرد، والفرد يوجد داخل المُجتمع… كلّ هذا يجعلنا نُلامِس قلب القضيّة الإنسانيّة، هذا النسيج من التناقضات الذي كان باسكال قد وصفه بطريقةٍ جيّدة. الانسان مُخترَق بقوّةٍ هي في الوقت نفسه خارجيّة وداخليّة تدفعه لكي يعيش من دون أن يُدرك هو نفسه معنى ذلك. وأمّا الوعي فهو ظاهرة سطحيّة فقط. وكما يقول هيراقليطس: “مستيقظون ونائمون”.

– احتفظتَ من هيراقليطس بطموحِ إدراك توتّرات وتناقُضات المصير البشريّ بدلاً من تجاوزه…

كوريثٍ لهيغل وماركس، كنتُ قد اعتقدتُ لوقتٍ طويل أنّ مهمّة الفكر ليست في التراجُع حين تعترضه تناقضات، وإنّما يتوجّب عليه أن يُواجهها، وأن يحاول تجاوزها. لكنْ مع هيراقليطس، تمكّنتُ شيئاً فشيئاً من التحرُّر من هذه الفكرة، فكرة التجاوُز. ومثلما هو الحال في “الطاو” الصيني، يؤكّد هيراقليطس على وحدة التناقضات وتكامل المضادّات. “الشقاق/ الوفاق هُما الأبّ والأمّ للشيء نفسه” كان يقول. ولأنّي اخترقتُ قرناً مزّقته الصراعات والنزاعات، النازيّة، والشيوعيّة، والتعصُّب الديني، فإنّ هيراقليطس ساعدني على أن أُدرك أنّه ليس من الضروريّ تجاوُز التناقض للخروج منه، وإنّما بإمكاننا أن نعيش التوتّرات المتواصلة من دون أن نكون في الخطأ أو في الصواب.

– باسكال كان له هو أيضاً تأثيرٌ عليك؛ فهو يرى أنّ تمزُّق الإنسان بين طموحاتٍ متناقضة تجعل منه في النهاية “وحشاً غامضاً”؛ أمّا أنتَ فلا تعيش ألمَ مثل هذه التّوترات. كيف تعمل على مُصالَحةٍ بين فكرةٍ إنسانيّة ممزَّقة وبين مسألة احتمال السعادة؟

باسكال يوضح أكثر من أيّ مُفكِّر آخر تمزُّق المصير البشري بين العقل والعقيدة، وبين ما هو كَوني، وما هو داخلي. لكنّ التمزُّق ليس كلمته الأخيرة، لأنّه يدعونا من خلال الرهان إلى أنّ هناك خلاصاً. ثمّ إنّه يعلم أنّه محكوم علينا بأن نعيش بهذه التناقضات. فلا هو مُتشائم، ولا هو مُتفائل، بل هو يسعى إلى أن يكون واعياً بتراجيديّة مصيرنا.

– أنتَ ظللْتَ متعلّقاً بماركس، حريصاً على الإمساك بمختلف الجوانب الماديّة للحياة الاجتماعيّة، إلّا أنّكَ تُضيف بُعْدَ الخيال، أي أنّكَ تدعو إلى قراءة التاريخ بحسب ماركس، وبحسب شكسبير أيضاً…

تكوَّنتُ اعتماداً على فكرة أنّ الظروف الماديّة هي البنى التحتيّة للحياة الاجتماعيّة، لكنّني اكتشفتُ في ما بعد الجانب الكَوني للأساطير والمُعتقدات، وأنا بصدد تأليف كتابي عن الموت. ليس هناك مُجتمع من دون دين… والولايات المتّحدة الأميركيّة التي هي أكبر بلد مادّي في العالَم، وضعتْ إشارةً إلى الله على الدولار. وفي ما كان يُسمّى بالاتّحاد السوفياتي، لم يفلح الشيوعيّون في اجتثاث الدّين من عقول الناس ومن قلوبهم. بل إنّهم منحوا المسيحيّة هناك قوّة جديدة. باختصار، أقول إنّه يتوجّب علينا أن نربط بين القوى المُنتِجة عند ماركس، وبين هذيان الخيال عند شكسبير إذا ما نحن أردنا أن نفهم التاريخ: “الحياة حكاية يرويها معتوه، مليئة بالصخب والعنف، ولا معنى ولا مدلول لها” (شكسبير).

– تعرَّفتَ إلى هايدغر والتقيتَ به مراراً، ومنه استقيتَ مفهوم “العصر الكونيّ”… بماذا احتفظتَ منه؟

التقيتُ بهايدغر في ألمانيا بعد الحرب عندما كنتُ في القيادة العسكريّة. وقبل ذلك، كنتُ قد قرأتُ “الكينونة والزمن” في العام 1940. وقد فَتَنَني الكتابُ على الرّغم من أنّي كنتُ ماركسيّاً. وحينما علمتُ أنّه في فريبورغ، ذهبتُ لملاقاته. وكانت تجربة مُثيرة. ففي ذلك الوقت كان هايدغر يشعر بالخوف والحَذَر كلّما رأى زيّاً عسكريّاً فرنسيّاً بسبب علاقته بالنظام الفرنسي. وعندما وصلت، بدا لي مُتوجّساً. لكنْ حين أخبرته بأنّني جئتُ للتحدّث إليه، تغيَّر كلّ شيء. وقد التقيتُ به بعد ذك مرّاتٍ عدّة في بيته الخشبي في “الغابة السوداء”. وكان يتمتّع بالمَهابة في هيئته الريفيّة التي كان يُفاخر بها. وفي ما بعد استقيْت منه مفهوم “العصر الكوني” مانحاً هذا المفهوم بُعداً تاريخيّاً وليس ميتافيزيقيّاً فقط. بالنسبة إلى هايدغر يعني هذا المفهوم “هَيمنة التكنولوجيا على العالَم”. أمّا بالنسبة إليّ، فهو يرتكز على ثلاثة أحداث تاريخيّة: كوبرنيك واكتشاف أنّ الأرض ليست مَركز الكون، كريستوف كولومبس واكتشاف أميركا، وماجلّان الذي قام برحلةٍ حول الأرض. انطلاقاً من تلك اللّحظة أصبحت كلّ أجزاء الأرض مرتبطة بعضها ببعض. وكلّ هذا أدّى إلى العولمة، أي إلى الوحدة التقنيّة – الاقتصاديّة لهذا الكون. و”العصر الكوني” هو ما يسمح بالتفكير حول العولمة من وجهة نظر تاريخيّة وميتافيزيقيّة في الوقت نفسه.

– كان للأدب أيضاً تأثيرٌ كبير عليك… ماذا تعلَّمت من دستويفسكي ومن بروست؟

أنا فيلسوفٌ مُتوحّش، ولستُ فيلسوفاً مُحْترفاً. ومع الكتّاب شرعت في التفكير في “التركيب” البشري؛ فالكتّاب يُمرِّرون لنا أفكاراً غامضة، لا يُمكن إدراك معانيها بـ “وضوح ودقّة” مثلما يقول ديكارت، إلّا أنّها تخترقنا بقوّة أكثر من المفاهيم. ورواية “الأمل” لمالرو هي التي دفعت بي للانخراط في المُقاومة. وهذا ما يحدث أيضاً مع الموسيقا. في تقديم واحدة من سمفونيّاته، كَتَبَ بيتهوفن يقول: “هل يُمكن أن يحدث هذا؟ لا بدّ أن يحدث هذا”. كلمة حاملة للتناقض لكنّها ضروريّة. كيف يُمكن أن نعبِّر بشكلٍ أفضل عن التمرُّد ضدّ المصير ونحن نتقبّل هذا المصير في الوقت عَينه؟ هذه فكرة أشعر بها في أعماق أعماقي، قبل أن أسمعها، وقبل أن أقوم بصياغتها.

– قلتَ: “الكوفيد أزمة مفهوم الحداثة القائمة على فكرة تقول إنّ مصير الإنسان يتمثّل في التحكُّم بالطبيعة، وفي أن يكون سيّد العالَم”. هل علينا أن نعدل عن هذا الطموح؟

عشتُ هذه الجائحة كأزمة مُتعدّدة الجوانب، فريدة من نوعها في التاريخ، لأنّها تمسّ كلّ فرد في حياته البيولوجيّة، والشخصيّة، وفي علاقاته مع الآخرين، وفي حياته الاجتماعيّة. وهي تمسّ أيضاً كلّ الأُمم بنسبٍ متفاوتة، وهي بالأخصّ أزمة إنسانيّة لم تتمكّن بعد من أن تكون إنسانيّة. ويُمكن للإنسانيّة أن تكون مُساعِدة للطبيعة – إنّه “الطريق الجديد” الذي أقترحه، والذي يمرّ أوّلاً بأن نكون واعين بالمَخاطر والتحدّيات التي هي مخاطرنا وتحدّياتنا. وأنا لا أؤمن بانهيارٍ شامل للحضارات، بل أؤمن بالأحرى بانهياراتٍ مختلفة، وبكوارث متعدّدة. وأعتقد أنّنا مُهدَّدون بمستقبلٍ يحدث فيه في الوقت عينه تقدّم علمي وتكنولوجي هائل، وكارثة بشريّة شاملة. وهناك الآن ظواهر تشير إلى هذا: صواريخ تتوجّه إلى كواكب أخرى. والراصدة الفضائيّة “هوبل” يُمكنها أن تلتقط الأشياء على بعد 11 مليار سنة ضوئيّة. وتعيش الشعوب في الوقت نفسه الاستغلالَ، والهيمنةَ، والإذلالَ، والمهانة، وهي مهدَّدة بأنظمةٍ استبداديّة جديدة. والإنسان الذي يرتقي بالعِلم وبالتكنولوجيا لكي يكون إنساناً أعلى، يفعل ذلك على حساب الذي يُمكن أن يكون أفضل بالوعي، وبالصفاء الذهني، وبالطيبة والمحبّة.

***

*كاتب من تونس

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *