الدبلوماسيّة الثقافيّة والتوجُّه العربيّ نحو البلطيق

Views: 240

د. محمود عزّت عبد الحافظ*

باتت السياسات الخارجيّة للعديد من دول العربيّة تقوم، في إطار تطوير أدائها، على “الدبلوماسيّة الثقافيّة” كنهجٍ جديد في العلاقات الدوليّة. فالدبلوماسيّة الثقافيّة تعتمد بالأساس على جاذبيّة الثقافة والفنون والآداب والمخزون التراثيّ والحضاريّ وعلى رموزٍ اعتباريّة في الرياضة والغناء والشعر والمسرح والسينما والرسم والرقص. هذا النَّوع من الدبلوماسيّة بات طريقةً جديدة للمزيد من دعم فُرص التعاون والاستثمار الاقتصاديّ والترويج للوجهات السياحيّة وتعزيز العلاقات الاستراتيجيّة بين المُجتمعات والدول.

تُعتبر المنطقة العربيّة منطقة تثاقفيّة وتواصليّة، وإذا قلّبنا بعض صفحات من تاريخها السياسي وعلاقاتها الخارجيّة، فإنّنا لا محالة سوف نقف على عراقة دبلوماسيّتها، وحان الوقت ليستفيد الخليج من تاريخه الدبلوماسي ومن رصيده الحضاري والثقافي والتراثي حتّى تتوخّى وبشكلٍ واضح نهج الدبلوماسيّة الثقافيّة من خلال استراتيجيّة جديدة وتوجّهات نحو مناطق جغرافيّة جديدة تسعى دول وقوى إقليميّة أخرى للسيطرة عليها ثقافياً وتصدير صور ذهنيّة ثقافيّة مُخالفة للثقافة العربيّة الصحيحة.

ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا، من الدول العشر التي تطلّ على بحر البلطيق، ولكنّها مثَّلت مثلّثاً اشتهر دائماً بمسمّى “دول البلطيق”. وتتمتّع تلك الدول الثلاث بخصوصيّة ثقافيّة متميّزة عن باقي الدول الأوروبيّة، فهي من ضمن دولٍ انفصلت عن جمهوريّات الاتّحاد السوفييتي في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي. وهي الدول التي حرصت حتّى بعد الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي على الحفاظ على موروثها الثقافي وخصوصيّتها المُجتمعيّة والثقافيّة. وهو ما يدعو إلى ضرورة العمل على تكثيف الدبلوماسيّة الثقافيّة العربيّة وتوجيهها إلى تلك الدول، لما تمثّل من أرض خصبة للتواجد الثقافي العربي، الأمر الذي سيؤدّي بلا شك إلى تحسين الصورة الذهنيّة الثقافيّة العربيّة المشوَّهة لدى شريحة كبيرة من شعوب تلك الدول والتي نُقلت من خلال وسائل الإعلام التي تعمَّدت تشويه تلك الصورة أو من خلال تجارب مبنيّة على الاحتكاك بفئات من الجاليات العربيّة المتواجدة هناك والتي قد عكست صورة سلبيّة نوعاً ما؛ ما يستدعي التدخّل السريع والفوري من خلال تكثيف التواجُد الناعم في تلك الدول من خلال إقامة العديد من الفاعليّات الثقافيّة بأنواعها المُختلفة، وكذلك التعاون وبناء شراكات مع المؤسّسات الثقافيّة والفنيّة المُختلفة في تلك الدول في ظلّ تنامي دورها كقوى مؤثّرة داخل الاتّحاد الأوروبي.

الدَّور النّاعم الدبلوماسيّة الثقافيّة

حيث إنّ الدبلوماسيّة الثقافيّة ودورها الناعم في دعم تلك العلاقات مع دول البلطيق ليست وظيفة خاصّة بوزارات الخارجيّة أو الثقافة، بعدما أصبح للمؤسسات الثقافيّة والتعليميّة داخل الدولة الواحدة أدوار غير محدودة النطاق في ظلّ العولمة، تطوَّرت أدوار المؤسّسات الثقافيّة داخل الدولة وأصبحت غير تقليديّة وذلك من خلال: الترويج للسياحة من خلال إقامة مؤتمرات ومهرجانات تُشارِك فيها أجناسٌ مُختلفة، فضلاً عن التبادُل الشبابي الذي تقوم به مؤسّساتٌ ثقافيّة والذي يُسهم في خلْق فُرص معرفة جديدة وعلاقات دبلوماسيّة غير مباشرة بين الدول من خلال المؤسّسات الثقافيّة. فالمؤسّسات الثقافيّة يجب أن توجِّه البرامج والمنتجات الثقافيّة العربيّة التي ستعمل على صناعة الصورة الذهنيّة البديلة إلى القاعدة الشعبيّة العريضة في المُجتمعات الغربيّة بدل الاقتصار على الساسة وصنّاع القرار فقط.

نذكر هنا بعض الأمثلة من ضمن العديد من الفاعليّات والمشروعات التي نُظِّمت بالفعل وكان لها مردود إيجابي كبير على ما نُنادي به من توجُّه ثقافي عربي في تلك الدول، مثل احتفاليّة “أيّام الثقافة العربيّة”، للتعريف بالثقافة العربيّة والتي شاركت فيها دولٌ عربيّة عدّة وهو ما كان غائباً عن الثقافة الجماهيريّة اللّيتوانيّة. فكان أن أُقيم عددٌ من الندوات والمحاضرات في جامعة فيلنوس والبرلمان اللّيتواني وكذلك في العديد من المنظّمات الثقافيّة، انطلاقاً ممّا يُمكن تسميته “صناعة الصورة الذهنيّة الصحيحة”. وقد تمثّل الحافز الأوّل باقتحام نطاقٍ إقليمي وجغرافي جديد، والتخلّي عن حجّة أنّ تلك الدول لا تهمّ العرب أو أنّها خارج دائرة السياسة الخارجيّة … وما شابه.

كما تمّت ترجمة دستور جمهوريّة “أوجوبيس” إلى اللّغة العربيّة، وهو حيّ يقطنه العديد من الفنّانين البوهيميّين، ومُسجَّل في منظّمة اليونسكو باسم “جمهوريّة أوجوبيس”، وهي جمهوريّة رمزيّة وليست جمهوريّة مستقلّة، وستجد بها رئيساً لتلك الجمهوريّة ووزيراً للخارجيّة وجيش وشرطة، ولكنّها كلّها كيانات رمزيّة، كما أنّ لها دستوراً رمزيّاً أشبه بدساتير المدينة الفاضلة ومسجّل في منظّمة اليونسكو أيضاً. كذلك مشروع “التعليم بلا حدود” عام 2017 الذي تمّ تنفيذه في جمهوريّة إستونيا وشاركت فيه دولٌ عربيّة وإفريقيّة وأوروبيّة والغرض الأساسيّ منه دعم عمليّة التعليم غير الرسمي وتطويره في أوروبا والوطن العربي من خلال المؤسّسات الثقافيّة المُختلفة ومنظّمات المُجتمع المدني بعيداً من عمليّة التعليم الرسمي بصورته المعتادة.

ومن ضمن الفاعليّات المهمّة التي تمتزج فيها الثقافة بالإعلام والرياضة، ثمّة البطولة الدوليّة لكرة القدم المُخصَّصة للصحفيّين والإعلاميّين، والتي تُقام في القارّة الأوروبيّة منذ العام 2005 بمشاركة العديد من الدول الأوروبيّة ومن ضمنها بالطبع دول بحر البلطيق. وكانت مُشاركة مصر ولبنان والإمارات والسعوديّة والسودان بتلك البطولة منذ العام 2013 وحتّى الآن مُشاركة في غاية الأهميّة لما تمثّله تلك البطولة من تجمُّعٍ ثقافي وإعلامي كبير للصحفيّين والإعلاميّين من أنحاء العالَم كافّة.

نحو بناء صورة ذهنيّة إيجابيّة

من هذا المنطلق، ظَهرت الحاجة إلى وضْعِ تصوُّرٍ للاستراتيجيّات والآليّات التي يجب إتباعها من خلال المؤسّسات الثقافيّة العربيّة بشكلٍ سليم لبناء صورة ذهنيّة إيجابيّة معبِّرة عن ثقافة أُمّتها؛ فعمليّة بناء صورة ذهنيّة إيجابيّة لدى الغير مهمّة للغاية، إذ كلّما كانت هذه الصورة الذهنيّة سلبيّة مالت العلاقات نحو الصراع، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي أم الثقافي. كما أنّ العلاقة الوثيقة التي تربط بين الاتّصال الثقافي، بمُختلف قنواته، وبين الصورة الذهنيّة، هي علاقة تبادليّة على اعتبار أنّ الاتصال الثقافي بين الشعوب والمجتمعات هو العامل الأساس في بناء الصورة الذهنيّة. وتبدو العلاقة بين مفهوم الصورة الذهنيّة والاتّصال الثقافي أكثر وضوحاً عند استعراض وسائل الاتّصال الثقافي التي تُعَدّ في الوقت ذاته من أهمّ عوامل بناء الصورة الذهنيّة المُتبادلة بين الشعوب والمجتمعات. وعليه فإنّ المؤسسات الثقافيّة غير الحكوميّة بأشكالها كافّة هي الصيغة الأكثر فاعليّة في تبنّي وتنفيذ البرامج والاستراتيجيّات التي تستهدف تصحيح المفهوم الغربي للثقافة العربيّة بالتنسيق مع المنظّمات الوطنيّة الأخرى التي لا يُمكن تجاهُل أنشطتها. ولا بدّ لتلك الاستراتيجيّات المستقبليّة أن تراعي الأسس التالية:

أن تعتمد نظرة المؤسّسات الثقافيّة العربيّة الاستراتيجيّة للتغيير على ما يمكن تسميته “صناعة الصورة البديلة” بدلاً من الانشغال بردود الأفعال ومحاولات الترقيع. فبدلاً من الإغراق في تفنيد المغالطات وملاحقة مروّجيها في أيّ شكل أو صورة أو مُنتج ثقافي، ينبغي تقديم المعلومات الصحيحة وفق منظومة متكاملة ومستمرّة غير منقطعة. وكما ينبغي أن تسلك المؤسّساتُ الثقافيّة سياسة النَّفس الطويل وألّا ترتهن للعمل المؤقّت أو البرامج الثقافيّة قصيرة الأجل الذي قد تنجح نجاحاً مؤقّتاً وغير مُستدام. ولا بدّ كذلك من أن تتوجّه البرامج والمنتجات الثقافيّة العربيّة التي ستعمل على صناعة الصورة الذهنيّة البديلة إلى القاعدة الشعبيّة العريضة في المجتمعات الغربيّة وألّا تقتصر أو تركِّز على الساسة وصناّع القرار. فالشعوب الغربيّة تُبدي – كما رأينا – استعداداً وقابليّة للتغيير ومعرفة الجديد عن الثقافة العربيّة ومستجدّاتها وكذلك تاريخها السليم مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التنوُّع الجغرافي وعدم إهمال نطاقات إقليميّة وجغرافيّة. وسنجد أنّ العديد من منظّمات المجتمع المدني في المجتمعات الغربيّة توفِّر لنا ساحةً ملائمة لإيصال رسالاتنا الثقافيّة إلى قطاعات متنوّعة من الأفراد والجماعات.

كما يجب على الدبلوماسيّة الثقافيّة العربيّة أن تستند إلى عمليّة ثقافيّة في غاية الأهميّة، ألا وهي عمليّة صناعة الإبداع، وتعزيز القوّة والإيجابيّات التي يرجع لها الفضل في تجنّب الانهيار والفشل، وهي المنظومة الاجتماعيّة والثقافيّة، وفي الوقت نفسه قراءة التراث والتجربة التاريخيّة لاستدراك أخطاء الماضي واستدعاء ما يحصِّن المجتمع. وبطبيعة الحال ستتعزَّز المناعة الفكريّة، أي تزويد الأفراد والمجتمعات بالمهارات والمعارف التي تمكّنهم من التفكير الصحيح وتجنُّب الخطأ والانحراف والتطرُّف، المسبِّب لعدم الاستقرار والهجرة والفقر والهشاشة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

فمن أجل بناء الاعتدال والتسامح لا نملك سوى أن ننشئ بيئة مناسبة من أجل الإبداع والتفكير الحرّ والناقد والسؤال والتوق الدائم إلى المعرفة، وإطلاق الخيال وكلّ أدوات المعرفة للاقتراب من الصواب. ففي عمليّة الإبداع العربي المُشترك نُقِرّ بأنّنا على حَقّ جزئيّ، بينما المعنى هو عمليّة تنشئة اجتماعيّة تستغرق وقتاً واهتماماً وتواضُعاً للإبداع معاً. وباستثمار ذلك الوقت والاهتمام، نستحدثُ مساحةً حيث يمكن للناس الشعور بالأمان والثقة والجرأة على إطلاق الإمكانات. والنتيجة هي صورة مُبدَعة على نحو مُشترك. فالدول العربيّة لديها القدرة على بناء سوق ثقافيّة وإبداعيّة، بالقدر الذي يجعلها استثماراً ناجحاً لا يحتاج إلى دعمٍ حكومي مباشر، إذ قد تُلحق الحكومات بدعمها ضرراً فادحاً بالثقافة والفنون يفوق إهمالها ومحاربتها. ومن هنا يمكنها الانطلاق من خلال غزو ثقافي ناعم لمنطقة دول بحر البلطيق التي تُعتبر بيئة خصبة لنقل صورة ذهنيّة صحيحة للثقافة العربيّة.

وأخيراً، يُمكن ملاحظة التقدّم والفشل في ذلك، في مستوى المشاركة العالميّة الثقافيّة والاجتماعيّة في الاتجاهَين (الاستيراد والتصدير)، وفي القدرة على تقبُّل العالم وأن يتقبّلنا العالم أيضاً.

المنطقة العربيّة لا يزال ينتظرها الجهد المكثّف والاستراتيجي من أجل بناء نهجها الجديد في علاقاتها الدبلوماسيّة الثقافيّة بخاصّة مع منطقة البلطيق. ويبقى الرصيد الثقافي والحضاري كنزَ الخليج الأبدي وجسرها الذهبي نحو البلطيق، “فالثقافة تبقى عندما يفنى كلّ شيء”. والدبلوماسيّة الثقافيّة، هي الأكثر تأثيراً في الرأي العامّ، إذا ما أحسنت صناعتها وتقديمها. عندئذٍ تكون قادرة على تغيير قواعد التعامل المؤثِّر إيجابيّاً في المُجتمعات الخارجيّة.

 ***

*باحث- مكتبة الإسكندريّة

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال جميل و مفيد
    هل الطوابع البريدية لها دور الثقافي في دبلوماسية الثاقية