مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” /  الورقة 8: الناقد ابراهيم مشارة – الجزائر: “الأدب المهجري ودوره في إغناء الثقافة العربية”

Views: 865

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في ما يلي  الورقة الثامنة: الناقد ابراهيم مشارة – الجزائر: “الأدب المهجري ودوره في إغناء الثقافة العربية”.

 

 

في أواخر القرن التاسع عشر كانت البلاد العربية ترزح تحت وطأة التخلف ويخضع بعضها لنير الاستعمار والعبودية، ولا عجب فالاستبداد العثماني سيؤول إلى رجل مريض تقتسم الإمبريالية الصاعدة تركته، وفي الشمال نهضة صناعية وعلمية ورخاء وتناغم سياسي واجتماعي فقد كان الغرب يجني ثمار ثورته الصناعية ويسعى إلى توسيع مناطق نفوذه جلبا لليد العاملة واستيلاء على الثروات الطبيعية.

هكذا تجلت خارطة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ينضاف إلى ذلك جدلية الالتقاء بين الشرق والغرب والصدام الحضاري بين غرب قوي تضخمت أناه واعتبر نفسه متنا وغيره (الآخر المختلف) هامشا وذيلا ، وشرق ضعيف، ما انفك يكتشف حجم الهوة الفاصلة بينه وبين الغرب منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ولكنه مع شعوره بالضعف إلى حد العجز والإحساس بالضآلة والهامشية سعى بكل ما أوتي من قوة إلى تدارك النقص والأخذ بأسباب الرقي بالاستفادة من منجزات الغرب العلمية والصناعية والعسكرية والفكرية عبر البعثات العلمية والترجمة وإنشاء دور العلم والجامعات ومباشرة الإصلاح السياسي والاجتماعي بإشراك المرأة في النهضة والقضاء أو تقليل الفوارق الطبقية ما أمكن. هكذا إذاً كانت السيرورة التاريخية  والجدلية الحضارية بين الشرق والغرب قوة وهيمنة من قبله وهبة وإفاقة من السبات لاستدراك النقص وردم الهوة الفاصلة بينه وبين الغرب من قبل الشرق.

يمكن تمثل هذا الهاجس الحضاري في نهضة الأدب العربي الحديث بشعره ونثره، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت في مصر ولبنان خاصة بشائر نهضة أدبية لها سياقاتها التاريخية، فمن جهة هناك الحملة الفرنسية على مصر ثم إرادة محمد علي باشا والي مصر في تمدين البلد والنهوض به علميا وعسكريا وصناعيا مما حدا به إلى إنشاء “الوقائع المصرية” لمواكبة عمل الحكومة وإرساله لبعثة علمية إلى فرنسا بمعية رفاعة رافع الطهطاوي للدرس والترجمة، وهناك تجربة الشوام في النزوح إلى مصر بعد ظهور الصحافة للمساهمة في نهضة الأدب الحديث.

تخلص النثر نسبياً من أسجاع وحذلقات العصر الوسيط واندغم في الهم  السياسي والاجتماعي والحضاري بل والواقعي، وكانت المقالة باصطلاحها الفني ثم القصة والرواية والمسرحية ثمرة هذا التطور في النثر، وتخلص الشعر رويدا رويدا من شعراء التكلف والتقليد وشعر المناسبات، فقد كانت هذه هي الثورة الثانية على عمود الشعر بعد ثورة أبي تمام والمتنبي الأولى.

ها قد حل القرن العشرون والثورة العربية مشتعلة ضد الأتراك والمشانق تنصب للأحرار وجمال باشا ينكل بهم، وها إن الواقع السياسي يرزح تحت وطأة الاستعمار أو الاستبداد، وها إن الواقع الثقافي اجترار وتقليد – لكن النواة التجديدية في طور التكوين- وها هو الواقع الديني واقعه جمود وباب الاجتهاد مغلق بمرسوم فقهي، وهذا كله انعكس على الواقع الاجتماعي فوسمه بميسم التخلف وسعة الفوراق الطبقية، وإهمال دور المرأة والطفولة والآفات الاجتماعية وأخصها الفقر والإملاق والتشرد والبطالة وغياب الحريات، طابور من المشاكل الاجتماعية يتزاحم على باب كل وطن عربي وألوان من مشاعر اليأس ومشاعر العجز والإحباط تصطلح على عقل المرء  وروحه.

تحت وطأة هذه الظروف بدأت طلائع الهجرة من قبل الشوام أولا إلى العالم الجديد بقسميه الشمالي والجنوبي، وقد كانت هجرة اضطرار ذات بعد نفعي يهدف إلى ترقية المهاجر لحياته ولظروف عيشه بعد أن استعصى العمل في الوطن، ولم لا تكوين ثروة والعودة إلى حضن الوطن في الغد البعيد بعد أن يتحرر هذا الوطن من نير الاستعمار أو الاستبداد وترتقي حياته عمرانيا وعلميا وصناعيا واجتماعيا، فلا شيء يعوض شمس الوطن وحضن الأم ومهاد الصبا ومراتع الطفولة!

وقد كان أولئك المهاجرون الأولون من خيرة أبناء لبنان وسورية من حيث الذكاء والألمعية والحس المرهف والحاسة الجمالية، لولا أن تربة الوطن لا تساعدها على النمو والازدهار بفعل التاريخ والسياسة معا.

بل إن مصطلح (الهجرة) ذاته يحيل على معان عديدة لعل أهمها الاكتشاف، النقد الذاتي فصلاح عبد الصبور يقول لأهل بلده : أباعدكم لأعرفكم ، فبتغيير المكان يقترب المرء من حكم موضوعي على نفسه وعلى وطنه وناسه بخلاف النظرة من الداخل التي تعتريها الشكوك والهواجس والنزوع إلى تفخيم الـ(نحن) برغم الواقع المتردي، إن المرء من الداخل ومن موقعه لا يستطيع أن يعرف ويميز تضاريس الجبل ووهاده وشعابه ومجاريه المائية ومناطقه المعتمة والمتصحرة وغاباته وأحراشه ومكامن الجمال والخطر فيه، لكن النظر إلى الجبل من مكان مختلف وزاوية أخرى يتيح النظرة البانورامية، هكذا يقدم ميخائيل نعميه المثال وهو يتحدث عن الحكم الموضوعي والحكم الذاتي والنظر من مختلف الزوايا.

إن هجرة يسوع من الناصرة إلى مصر ثم  الجليل وهجرة محمد من مكة إلى المدينة مثلاً، أحدثتا نقلة كبرى في تاريخ الديانتين المسيحية والإسلامية، ولمَ لا يتمثل أدباء المهجر بهما ويستلهما تجربتيهما في الهجرة ويقتدون بهما فهما رمزا التسامح والعالمية والعمل على سعادة الإنسان في كل مكان وزمان.

يظل الوطن ساكنا في المرء متشعبا في تلافيف مخه وحنايا روحه وسراديب ذاكرته، فالمرء يتنفس الوطن مع قهوة الصباح، ويشهق ذرات ذكرياته عند الخلود إلى النوم ويتمثله أينما حل وارتحل، في سعيه إلى عمله وفي علاقاته الجديدة وعلاقاته الأسرية تتمثل له الذكريات الغائرة في بئر العمر، تنز تحنانا ووفاء، رواء الطفولة وجمال الأهلة في الشهور القمرية في ليلة تتراقص فيها النجوم فرحا ببهاء الكون وهدير الساقية وإغفاءة تحت العريشة ، ثم هذا الحب الطفولي في سريته وغضاضته ولذاذاته المقموعة والمكبوتة، ولكنه في ذات الوقت وقد اندغم في وطنه الجديد مع ناسه ومشاكله الجديدة والطارئة واكتسب علاقات جديدة وخبرة مستحدثة، ورأى بأم عينيه النهضة العمرانية والصناعية والرخاء الاجتماعي، والمساواة الاجتماعية، وفاعلية دور المرأة في ترقية المجتمع والمساهمة في نشاطاته المختلفة  لا يستطيع غض الطرف عن هذه الثورة الكوبرنيكية في الحياة الغربية الجديدة والطفرات العلمية والصناعية والأدبية التي أحدثتها، فهو حينئذ يجنح إلى تثمين أحسن ما في  الوطن الأم  تاريخا وإنسانا، وكذا أنفع ما في الغرب الحديث المتطور ويسعى للمزج بينهما عبر تركيب عقلي للوصول إلى المبتغى وهو إحداث نهضة عربية هي المنشودة.

من المفيد  الإشارة إلى أن كل المهجريين والمستوطنين للعالم الجديد قد نجحوا في حياتهم المادية بعد مقاساة وكدح ومعاناة، وهذه حال كل مهاجر في كل زمان ومكان، فليس الطريق مفروشا بالورد، وليست المهاد طنافس ونمارق وحشايا مخملية بل أشد وطأة  من شوق القتاد وكأن الشاعر القديم يعنيهم حين قال:

فبت كأن العائدات فرشن لــــي

هراسا به يعلى فراشي ويقشب

 ولكن رسالتهم الحضارية هي التي نذروا أنفسهم لها ، فالوطن هو القريب البعيد الحاضر والغائب في كل حين.

هكذا نشأت “الرابطة القلمية” في نيويورك عام 1920 وضمت لفيفا من نوابغ لبنان وأدبائه  مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ووليم كاتسفليس وعبد المسيح حداد وأمين الريحاني وأمين مشرق ونسيب عريضة وغيرهم. وأنشأ إيليا أبو ماضي جريدة السمير في نيويورك لتكون سميرا ثقافيا وأدبيا للمهاجر في سماء العالم الجديد، وهذا كله بهدف احتضان الإبداع الجديد ونشره والأخذ بيد من يبتغي مساعدة أدبية في التعريف بأدبه ومواكبة للنهضة الأدبية القائمة في الشرق والتفاعل الإيجابي معها قراءة ونقدا وتمثلا في الاتجاهين. وبالموازاة مع المهجر الشمالي نشأت “العصبة الأندلسية”  لجمع شتات الأدباء شعراء وكتاب في البرازيل والأرجنتين وضمت إلياس فرحات ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وجورج صيدح وغيرهم وكان حصيلة هذا التلاقي بين الأدباء في الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية هذا الزخم الإبداعي بإخراج عشرات الدواوين الشعرية الجيدة والجادة والمجددة والروايات والقصص والكتب الفكرية والنقدية التي كانت زوابع وتوابع في المشرق مثل “الغربال” لميخائيل نعمية ، و”زاد المعاد” و”همس الجفون” و”العواصف “و”الأجنحة المتكسرة” و”النبي” و”الجداول والخمائل” و”تذكار الماضي” وغيرها.

لقد أضافت الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية لبنة جديدة في صرح الأدب التجديدي بل حجر الزاوية منه نثرا وشعرا وامتلكت بفعل الاطلاع الجاد على الثقافتين العربية والغربية الرؤية والأدوات الفنية والمعمار الفكري والجمالي مثلها مثل جماعة الديوان وأبولو في مصر.

ومن المفيد أن نعرض هنا إلى وجه التمايز والتباين بين الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية فجماعة العصبة أمتن لغة وأجزل عبارة وأفخم لفظا وأحرص على تمثل البلاغة العربية في عصورها الزاهرة وجماعة الرابطة القلمية أغزر معنى وأجرأ على الثورة والتمرد والخروج عن المألوف والنمطي وأكثر تساهلا مع اللغة دون الخروج على قواعدها مع الحرص على المعنى مع البساطة والسلاسة والانسيابية في التعبير (السهل الممتنع).

وفي الأخير كيف أغنى الأدب المهجري الأدب العربي؟

إن الإجابة  على هذا السؤال تفضي بنا إلى التعريج على ثنائية الشكل والمضمون والمعنى والمبنى والموسيقى الداخلية والخارجية ولن نعتمد المماحكات البلاغية الجديدة التي ترى أن الشكل هو المضمون وأن الأسلوب هو المعنى ذاته بل ننظر في  الشكل والمضمون مرتئين ثنائية الشكل والمضمون وهما المشكلان لمعمار النص وحمولته الفكرية والأيديولوجية وبعده الجمالي والفني.

لقد أرسى أدباء المهجر بتأسيس الرابطة القلمية  وبظهور كتاب “الغربال” لميخائيل نعيمة مدونة نقدية جديدة في تجديد الأدب شعرا ونثرا وجعله ألصق بالحياة والراهن وجدت لها أتباعا كثرا في المشرق ولا تختلف هذه المدونة النقدية الهامة عن مدونة جماعة الديوان وكانت بهذه الآراء نقطة ارتكاز في صوغ دينامكية الشعر والنثر معا كقضايا الصدق الفني والتجربة الشعورية والذاتية والاختيارات اللغوية والبيانية، وفي عملية الخلق الفني والإبداع الأدبي تخلصت اللغة من التكلف والتقليد والفخامة على حساب المعنى والسلاسة وروح العصر المتميز بالتقنية والسرعة والفاعلية والمضمون، كما انفسح الخيال على آفاق رحبة من استعارات خلاقة وتشبيهات بديعة تظهر أثر التأمل والطبيعة والكون برمته في عقل ووجدان المهجري. وفي الشعر ركز المهجريون على الموسيقى الداخلية وانحازوا  إلى البحور القصيرة والخفيفة كالمديد والرمل والمجزوء، ويعزى إلى  محمد مندور تسمية الشعر المهجري بالأدب المهموس نظرا لخفوت الصوت وبعده عن الخطابية والجماهيرية ومنزعه التأملي .

وفي المضمون ركزوا على مبدأ الأدب للحياة فمنها استلهموا إنتاجهم الأدبي وإلى الحياة يتوجه به ممثلة في الناس والوطن والراهن ولهذا انشغلوا بهواجس فكرية كالحرية الفردية، والتثاقف، والعدالة الاجتماعية ودور المرأة في النهضة، والطفولة وضرورة التسامح الديني بين أبناء الوطن بوجود الاختلافات الإثنية والدينية والطائفية حتى لا يفني أبناء الأمة أنفسهم في الاحتراب الداخلي والتدمير الذاتي، وعرجوا على المشاكل السياسية من تنديد بالاستعمار والاستبداد وانفتحوا بذلك على عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة دون أن نغض الطرف عن ترجماتهم لعيون الأدب الغربي شعرا ونثرا، وحرصهم على التواصل مع أدباء المشرق وصحافته، ولا أدل على تأثيرهم في الأدب العربي فكرا ومضمونا من تجدد طبع ونشر مؤلفات كثير منهم إلى اليوم ووجود قراء معجبين بهم على تباعد العهد بهم  وتنائي  الديار، وخاصة مؤلفات جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة والقروي وجورج صيدح وغيرهم. وهذا راجع لبعدها الفكري ومنزعها الجمالي وراهنيتها مما يؤدي إلى تحقيق متعة النص كما يقول رولان بارت.

يأبى لفيف من أدباء لبنان اليوم الذين اتخذوا من أقصى الأرض موطنا جديدا لهم ومستقرا إلى حين إلا مواصلة الطريق الذي اختطه الرواد الأوائل، وهكذا نشأت فكرة الأدب المهجري “من أجل نهضة ثانية” يرعاها الشاعر المبدع والأديب المتألق الدكتور جميل ميلاد الدويهي مع عصبة مبدعة مقيمة هناك، تتواصل مع لفيف من مبدعي لبنان، من  شعراء وكتاب أمثال جورج طرابلسي منشئ مجلة “ألف لام” في لبنان والكاتبة المتألقة كلود أبو شقرا صاحبة مؤلفات جدية وشاعرية وصاحبة صفحة ثقافية بهذا الاسم، وشعراء كثر من الشباب ونقاد وكتاب. وهذه الرابطة الجديدة التي يتعهدها  ويرأسها الدويهي ما تنفك تنشر المؤلفات الشعرية والنثرية للأدباء الشباب كما تعقد المؤتمرات الأدبية في سيدني وبيروت، وتكرم المبدعين وتنشئ الجوائز الأدبية بحسب السعة والطاقة والإمكانيات، وهي خليقة فعلا بأن تطمح إلى نهضة أدبية ثانية بعد نهضة الرواد الأوائل وثورتهم التي كانت فتحا جديدا في عالم الإبداع الأدبي

***

*غداً 18-1-2022 ورقة د. فوزي عساكر

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *