مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 12: الدكتور جان توما- لبنان: “جميل الدويهي حامل” الكشّة” من ورق”

Views: 654

 

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في ما يلي  الورقة الثانية عشرة: الدكتور جان توما- لبنان: “جميل الدويهي حامل” الكشّة” من ورق”.

 

 

عرفته زميلًا في التعليم الجامعيّ في جامعة سيدة اللويزة، فكان إذا جالسته ترى إلى يمينه المتنبي، وإلى يساره أبا فراس، وأمامه وخلفه رفّ من وجوه الشعر العربيّ، في مختلف عصوره، تتساير على إيقاع المعلّقات والقصائد، فلا تخرج معه إلى فضائه، إذ تخشى أن تتوه في ملاعبه، وهي فسيحات تحتاج معها إلى بوصلة كي لا تعثر عيناك بقصيدة، ولا تقع على سطوح أبيات الشعر لئلا تصير مثله، حسب وصف عمر بن أبي ربيعة:

أَخا سَفَرٍ جَوّابَ أَرضٍ تَقاذَفَت           

بِهِ فَلَواتٌ فَهوَ أَشعَثُ أَغبَرُ

كان صعبا على جميل الدويهي أن ينسلخ بين قارتين، آسيا واستراليا، وأن يترك وهاد لبنان والضباب المتصاعد من وادي القديسين الذي عاش فيه إلى تلّة إهدن، كأنّك تطلب من التهجئة أن تغادر أيك حروفها، أو كأنّ تطلب من حروفيّة الخطّ العربيّ أن تتغاضى عن حفافي الجمال، أو كأنّ تخلع الليالي عباءات النور الذي يتسلّل إليها من كبكوب صوف الأمّهات المصلّيات عند الفجر لأحبّة غادروا وما عادوا.

حين حمل جميل الدويهي “الكشّة” وارتحل إلى استراليا، لم يخجل من نقطة تفتيش الجمارك حين لم يعثروا فيها على ألبسة وأطعمة من حواضر البيت اللبنانيّ العتيق التقليديّة، بل عثروا على سبحة من لغة تعلّق بها المغادر إليها في كل آن. حمل معه قاموسه الشعريّ، وطاف به في استراليا. حاول بلسان عربي مبين أن يقول كلمته، فقالها شعرًا وندوات وطباعة ونشرًا، حتى صار للكتاب العربيّ مرقد عنزة هناك، وساد الألق الذي يستحقه في ديار الاغتراب. لكن جميل الدويهي لم يقل كلمته بعد، شأنه شأن العارفين بخوابي اللغة التي لا تنضب، بل تبقي الإنسان قائمًا في ” المَلْهَم”، وهو المكان المعاصر الذي يستسيغه أهل القلم، فيما كان قديمًا هو” عبقر”، لكن الدويهي المعاصر للكلمة، وإن ساد في خزائن عقله وألباب قلبه شِعْرُ العصور العربيّة، لا يرى شياطين عبقر في الُملْهَمين، بل يرى بركات المولى ومداد الفكر المعبّر عن تلك المواهب المنحدرة من فوق، تسكن الحبر فيحيلها الكاتب إلى ما يخدم البشريّة في رقيّها، وفي سعيها إلى الأفضل والأجمل والأحلى.

لقد استطاع جميل الدويهي أن يؤسّس لجمهوريته الفاضلة، أو أورفليسه البحريّة، تلك التي يسعى إليها المثقفون العابرون حدود القارات ليستقروا كالأحرف في بادية الألف والياء، حيث واحات الكتابة متوافرة، وحيث قام الدويهي بما عجزت عنه مؤسسات في رعاية المواهب النابضة بلاغة وإبلاغًا، فإن قاربْتَ صفحته تجد عليها الأقلام المتنوّعة المشارب والألوان والانتماءات، في وحدة قول مكتوب أو منطوق ترافقه، تتقاسم معه كسرة الخبز، ولا يتنازل عن حبّة ملح منها، بل بقيت اللغة عنده كاملة السنّ، راشدة، تغرف من تجربته الأدبيّة، فيعبّر عنها بنصوص يطبعها يوزّعها، كما يطبع لكثيرين غيره، إيمانًا منه أنّ النصّ العربيّ مُعلّم ومُلهم، وأنّ النصّ متى صدر عن يراع الكاتب خرج ولم يعد، إذ يصير حقيبة سفر تائهة، أو ” كشّة” بين مطارات العقل ومؤانى القلوب.

ما بال جميل الدويهي، كما تشير الكلمات فيه من متابعيه، ينصب خيامه في حواضر عواصم العالم، يرفع حرف ألف البداية في مواجهة التحدّيات؟ وما باله يرسم الجدول والتلّة وبيادر الزجل وسهول الشعر ووروابي النثر ناقلا أغاني فلاحيّ بلاده وصياديّ شاطىء لبنانه إلى أصقاع الدنيا؟  كأنّه يريد أن يقول: هذه بلادي وجمالها فجئني بمثلها. هو وطن الضلوع وأغاني الربوع،  سقاه، كما المغتربون، بالشوق والدموع في غربة طالت عند كثيرين لأنّ الوطن ما زال يعاني، كأنّ قدره أن يبقى متوجّعًا من عدم استقرار، فيما إنسانه يعاني في خضّم تقلّبات الأحداث المتواترة.

هي نهضة اغترابيّة شافية، ولكنها من قلب الوطن المجروح، فالكلام من الكلم، والكلم هو الجرح، وستبقى الكتابة، كما الأوطان، جرحًا مفتوحًا ينزف منه الكتّاب، فيعبّرون بدم القلوب عن معاناتهم وأوجاعهم وآلامهم فيما ينظرون إلى نور القيامة وإليها يجنحون.

جميل الدويهي يضيء فتيلًا في وجه الريح، من آخر الدنيا، ليدفأ العالم.

***

*غداً ورقة الشاعرة فرات إسبر – نيوزيلاندا

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *