محمّد صالح مكّيّة والعمارة الخليجيّة

Views: 329

سوزان عابد*

“الإنسان.. المكان.. الزمان”؛ فلسفة فكريّة عميقة انتهجها المعماريّ محمّد صالح مكّيّة، تعكس بوضوح فِكره المعماريّ ونَهجه في البناء والعمران؛ ولكنْ.. مَن هو مكّيّة، ولماذا هو بالذّات؟

محمّد صالح عبد العزيز مكّيّة مهندس معماريّ عراقيّ، يرجع لقبه “مكّيّة” إلى الجدّة – سيّدة العائلة – وليس الجدّ كما هو معتاد، التي تولَّت، كسيّدة بغداديّة، أعمالَ الغزْل والتجارة بعد وفاة زوجها، واشتهرت باسم مكّيّة وانتَسب أبناؤها بعد ذلك باسمها فخراً بها.

وُلد مكّيّة في العام 1916 في محلّة صبابيغ الآل، ولكي يتمكَّن من أداء الامتحانات والسفر لاستكمال دراسته اضطرَّ لأن يغيِّر التاريخ إلى العام 1914 ليكون مناسباً من ناحية السنّ. وبالفعل حصل على بكالوريوس الهندسة المعماريّة من جامعة ليفربول في إنكلترا في العام 1941، واستكملَ دراسته بالحصول على دبلوم تخطيط المُدن في العام 1942 ثمّ الدكتوراه من جامعة كامبريدج في العام 1945، عن أطروحته المميَّزة حول فنّ العمارة ومناخ البحر المتوسّط وأثره في مستقبل عمارة المنطقة العربيّة وتحديداً الشرق الأدنى، ثمّ تدرَّج في المناصب المُختلفة على المستوى المحلّي والدولي.

أمّا.. لماذا مكّيّة؟ وما علاقته بعمارة الخليج العربي وموروثه الفنّي والعمراني؟! الجواب هو أنّ هذا الرجل يمثّل العَيْن الواعية التي نُطلّ من خلالها على هذا الإرث المكنون. فللحديث عن الخليج العربي وعمارته، لم أجد أفضل من شخصيّة المهندس المعماري محمّد صالح مكّيّة الذي كان بمثابة عامل مُشترَك بين بلدان الخليج العربي وعماراته المُتنوّعة. فقد أَسهَمَ في بناء الكثير من المشروعات المعماريّة المتنوّعة في أكثر من بلد وعلى رأسها بلده الأمّ العراق، وبلدان أخرى منها السعوديّة، والبحرين، والإمارات، والكويت، وسلطنة عُمان، وقطر.

هَضَمَ مكّيّة الموروث العامّ للفنّ الإسلامي بطُرزه وأنماطه المُختلفة وبتنوّعه المحلّي أيضاً. فهو نَشأ بين إرث العبّاسيّين ونخيل العراق الشامخ، وكان على دراية تامّة بالموروث المحلّي الذي، بحسب اعتقاده، يختلف من مدينة لمدينة في البلد الواحد، وهو أمر صحيح أثبتته الشواهد المعماريّة الباقية من عهودٍ زمنيّة مُختلفة.

“الإنسان” هو لُبّ التصميم المعماري عند مكّيّة؛ فمن حوله تتمحور العمارة وله يُسخَّر العمران. والمُتعمّق في دراسة تصاميم مكّيّة المتنوّعة (دينيّة – سكنيّة – تجاريّة) يجد أنّ الأولويّة عنده هي خدمة الإنسان وتيسير حياته، وكان دائماً ما يَسخر من الفكر المُتمحور حول السيّارات والمركبات وتفضيلها على الإنسان في عمليّة التصميم المعماري. لذا احتلّت الفضاءات الشاسعة مكانةً مهمّة في مشروعات مكيّة المُختلفة، ولاسيّما منها المساجد الكبرى التي قام بتصميمها، وذلك إيماناً منه بأنّ العمارة يجب ألّا تنفصل عن ثقافة البشر وألّا تتعالى عليهم وتنفصل عنهم وعن موروثهم، فلا تكون صنماً جامداً لا روح فيه، أو استهلاكيّة تقوم بدَورها الوظيفي فقط. فالتصميم الناجح بحسب فلسفته يعتمد على العمران لا على العمارة بوصفه المُحيط الكبير أو المَوقع الجغرافي والبيئة والإرث الحضاري، والمستوى المادّي، وغيرها من العناصر التي تتضافر معاً لتُصبح مَسرحاً للبناء وخدمة الإنسان.

على سبيل المثال يرى مكّيّة أنّه من الأفضل أن تزداد الساحات المفتوحة في المُدن ذات الطقس الحارّ في أغلب فصول السنة، ولاسيّما في المنازل التي يُطلق عليها توصيف “الصحن المكشوف”؛ فـ “السماء سقفٌ للغنيّ والفقير على حدّ سواء”. وفي المدينة نفسها – المُدن الحارّة – فضَّلَ تصميم المساجد بقاعات صلاة مغطّاة، تقي المُصلّين حرارة الشمس الساطعة وقت الظهيرة على الأقلّ. وهنا تأتي القبّة المركزيّة كحلٍّ وسط يوفِّر مساحةً كافية للصلاة، ويَقي المُصلّين لهيبَ الشمس، وتُستخدم النوافذ كوسيطٍ جيّد للضوء الطبيعي داخل المسجد وللتهوية أيضاً.

وضع مكّيّة عناصر ووحدات معماريّة محدَّدة، وَجَدَ فيها أهميّة كبرى في التصميم المعماري مثل الرواق، الجدران، النوافذ، القبّة، المنارة/ المئذنة، الساحات والميادين، والأبواب، ولاسيّما أبواب المُدن التراثيّة ورمزيّتها. وكثيراً ما كان يستلهم من هذه الأبواب وحدات معماريّة يُعيد توظيفها من جديد في منشآتٍ جديدة في المدينة ذاتها.

بدأَ مكّيّة مشواره المعماري مبكّراً عندما قام، أوّلاً، بتأسيس شركة معماريّة مقرّها بغداد، وذلك قبل افتتاحه فروعاً أخرى في البلدان العربيّة ولندن. كما بدأ مشواره العَمَليّ مع شركائه بتصميمِ مسجد الخلفاء في بغداد في العام 1963، ومتحف مدينة الموصل في العام 1969 وغيرهما.

والآن نتجوّل بين بلدان الخليج العربي ومُدنه، مُستطلِعين مشروعات مكّيّة الشاخصة في مُدنٍ عدّة تشهد على فنّه المعماري . فمع مطلع السبعينيّات من القرن العشرين كان أوج النشاط المعماري لمكّيّة خصوصاً في بلدان الخليج المتنوّعة ومنها:

بوّابة مدينة عيسى، البحرين (1972)

من المشروعات المعماريّة المبكّرة التي صمَّمها مكّيّة بوّابة مدينة عيسى في البحرين، وهي بوّابة مدنيّة على الطريق الرئيس المؤدّي إلى مدينة عيسى. وجاء تصميمها بسيطاً يتناسب مع موقعها الجغرافي ودورها الوظيفي، وإن كانت من الناحية الجماليّة بسيطة نسبيّاً.

ترميم منزل الشيخ سعيد آل مكتوم في دبي

قام مكّيّة بعملٍ مهمّ للحفاظ على منزل الشيخ سعيد آل مكتوم في منطقة الشندغة في مدينة دبي، فقام بترميمه بالاستناد إلى الموادّ المحليّة المُتوافقة مع موادّ البناء الأساسيّة التي شُيِّد بها المنزل، مُحافظاً بذلك عليه كتراث محلّي يعكس نمطاً بنائيّاً للعمارة السكنيّة في مدينة دبي؛ إذ ترجع أهميّة المنزل إلى كونه المقرّ الرئيس لأسرة آل مكتوم، والذي يعود بناؤه إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر. وقد استمرّ المنزل في أن يكون مقرّاً سكنيّاً للأسرة حتّى نهاية الخمسينيّات من القرن العشرين، وبات يمثّل قيمةً حضاريّةً وإرثاً معماريّاً من تاريخ المدينة.

“مسقط”.. سلطنة عُمان (1972)

من النماذج المبهرة التي تبلورت فيها أفكار مكّيّة وفلسفته العمرانيّة، مشروع إعادة تخطيط مدينة مسقط وتطويرها في سلطنة عُمان. ومسقط مدينة ساحليّة لها إرث تاريخي وجغرافي واقتصادي مميَّز استطاع مكّيّة استيعابه وفهمه وإعادة توظيف أنماطه بحرفيّة ودقّة عالية؛ حيث يرى مكّيّة أنّ النجاح الحقيقي لا يتمثّل في إعادة إنتاج التراث أو تقليده وتكراره، بل في تفكيك عناصره وتفنيدها وإعادة توظيفها في ظلّ الإمكانيات المُتاحة في كلّ عصر.

عندما بدأ مكّيّة بدراسة مدينة مسقط أخذ بعَين الاعتبار الجانب الاقتصادي للمدينة بصفتها ميناءً كبيراً على بحر عُمان، فجَمَعَ الخرائط القديمة والرسومات الخاصّة بالمدينة وألحق بها تمهيداً تاريخيّاً يُحدِّد فيه شخصيّة المدينة وهويّتها المعماريّة.

مسجد الدولة الكبير في الكويت (1979- 1986م)

في مدينة الكويت، وعلى بُعد خطوات بسيطة من شاطئ الخليج العربي، نجد واحداً من أكبر المشروعات المعماريّة – من حيث المساحة – التي صمَّمها مكّيّة آنذاك، هو مسجد الدولة الكبير في الكويت، والذي بدأ بتصميمه في العام 1979 عقب إعلان فَوزه بالجائزة الأولى في المسابقة الدوليّة التي أَطلقتها دولة الكويت لتقديم مشروعات معماريّة لتصميم مسجد الدولة في العام 1977. وافتُتح المسجد رسميّاً للصلاة عام 1986 بحضور الشيخ جابر الأحمد الصباح، وبتكلفة بلغت ما يقرب من 14 مليون دينار كويتي.

مسجد السلطان قابوس (1992 – 2001)

يعود بنا مكّيّة من جديد، وبعد عشرين عاماً، وتحديداً في العام 1992، إلى مدينة مسقط في سلطنة عُمان للبدء ببناء مسجد السلطان قابوس، الذي تمّ افتتاحه رسميّاً في 4 أيّار/ مايو 2001 ليكون درّة مساجد السلطنة وأكبرها وأكثرها ثراءً فنيّاً ومعماريّاً. جاء المسجد لؤلؤةً معماريّة نابضة بفنون العمارة الإسلاميّة المتنوّعة، وبخمس مآذن، أربع منها يبلغ ارتفاعها 45 متراً فيما يبلغ ارتفاع المئذنة الخامسة 91.5 متراً، للدلالة على أنّها منارة تُنير وتُرشد وتنشر السلام في مُحيطها. كما اعتمد مكّيّة على الساحات المفتوحة والحدائق المُحيطة بالمسجد.

إنجازات معماريّة أخرى

وإلى جانب هذه المساجد المهمّة، قام مكّيّة أيضاً بتصميم مساجد أخرى منها مسجد أبي بكر الصدّيق في مدينة الدوحة في قطر، ومسجد الدولة في بغداد، فضلاً عن تنفيذه عدداً من المشروعات المدنيّة ومنها على سبيل المثال بنك الرافدين في البصرة والكوفة في العراق، وبوّابة مدينة والجات ومدينة زياب في مسقط في عُمان، وغرفة التجارة والصناعة في البحرين، والبنك الإسلامي في جدّة، ومبنى المَحاكم العليا في الرياض في المَمْلكة العربيّة السعوديّة. وفي دولة الإمارات العربيّة المتّحدة قام بوضع تصميم وزارة العدل والشؤون الخارجيّة والديوان الأميري في أبو ظبي، وبتصميم جامعة العَين، ومشروع سوق الجملة في مدينة دبي، وبيت الجزية في مدينة مسقط في سلطنة عُمان، وغيرها من المشروعات الثريّة معماريّاً التي تجاوزت نطاق الخليج العربي والجزيرة العربيّة وامتدّت إلى شمال إفريقيا، وخصوصاً تونس، وأوروبا، ولاسيّما روما.

ولحسن الحظّ أنّ محمّد صالح مكّيّة كان على وعي كافٍ بأهميّة حفْظ هذا الإرث الشخصي ورقْمنته. فقام بإهداء أرشيفه بالكامل لمؤسّسة الأغا خان في الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي كان عضواً مميَّزاً في لجنة منح الجوائز والمنح الخاصّة فيها منذ العام 1981.

رَحَلَ مكّيّة عن عالَمنا في العام 2015 تاركاً لنا فلسفة معماريّة وعمرانيّة مهمّة لكلّ معماري بشكلٍ خاصّ، وإرثاً أكاديميّاً محفوظاً في كُتبه وأبحاثه ولقاءاته العلميّة المتنوّعة.. فضلاً عن شواهد حيّة تعكس أسبقيّته في تبنّي القضايا التراثيّة التي تُنتهج اليوم، ولاسيّما في قضايا إعادة الإعمار وإشكاليّاتها، وبناء المُدن الجديدة، وتطوير المُدن التراثيّة، والترميم، وبناء المساجد.

رحل مكّيّة بعدما أسَّس مدرسة فكريّة ومعماريّة تبنّاها تلاميذه من بَعده؛ فساروا على نَهجه إيماناً منهم بإفادة هذا النهج للإنسان في المقام الأوّل، وللأبنية التراثيّة في المقام الثاني. وهو ما نسعى إلى تحقيقه اليوم في التصميمات العمرانيّة والمعماريّة المُعاصرة.

***

*باحثة في مكتبة الإسكندريّة – مصر

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *