الكبير نزيه كبّارة أغلقَ كتابه… وخرج

Views: 637

د. جان توما

قلتُ فيه يومًا: “نزيه” في مسالكه، “كبّارة” في كتاباته، ومضى باقيًا على عهده. نزيه كبارة فارسُ الكلمة الأنيقة، وحارسُ الذاكرة وبواباتُ طرابلس العتيقة.

تراه متأهبًا، بلباسه الحقوقيّ، في حضرة معاجم اللغة العربية مدافعًا عن التذوّق البلاغيّ والفهم الإبلاغيّ في عشق آتٍ من فضاء قوس محكمة إلى فلك هيكل لغة محكّمة أحبّها ، وأبحر في قواميسها عارفًا أنّ القاموس في اللغة هو البحر ، فكان جامعًا لعلمِهِ، بحّاراً في اللغة، وربانًا في القانون؛  فلا يستقيم منبرٌ من دونه، ولا  مجلس بغيابه، لكأنّ حضوره رويّ القصيدة ونجوى توازن الموسيقى نثرًا.

اشتغلَ بالكلمة كما يعملُ الفلاحُ في أرضه، والصائغُ في ذهبه، والعاشقُ في ضَفْرِ خصائل شعرِ حبيبته. هكذا كان نزيه كبارة عاشقًا لفيحائه، يقمّشُ في النقوشِ المتروكةِ على خشب أبوابِ البيوتِ العتيقةِ، وعلى منمنماتِ المشربيّات والشبابيك “المجروحة بالحبّ، المفتوحة ع الصدفة”.

إن مشى نزيه في أسواقِ الفيحاء رافقه تاريخ المدينة. يراقبه حرّاسُ القلعة وإنكشاريّة ُالأسوار، وعسكرُ المداخل. يقرأُ في سجلّاتِ المدينةِ المتألق، فيعملُ لاستعادةِ زهوها، وتظهيرِ مسرى حضارتها، فينكبّ على ورشِ التربيةِ والتعليمِ مدركًا أنّ بيتّ القصيد هنا في التعلّم  في دور المعلّمين، في إبقاءِ غطاءِ المحبرةِ مفتوحًا على الأمداء، وفي رفعِ الريشةِ في وجهِ الرياحِ تمسّكًا بالانتماء إلى وطنٍ، درسَ نظامَه وآلياتِ حكمه، فرأى الطائفيّةَ داءه، والمذهبيّةَ نزفه، وأنّ بعصبيّة المواطنة المسؤولة، قيامه.

رحلَ نزيه كبارة في زمنِ الجرح والألم، يرسم بعينيه وجعَ المواطنين، يقرأ في كتبِ البائسين، وقد كثروا وخرجوا إلى العراء. تعبَ نزيه من لململةِ أوراقِ الإضباراتِ المتطايرة، ما عاد يذهبُ إلى التصنيفِ، خربطتِ الأوضاعُ المُتعِبةُ حالَ الناس، بلبلتِ الأحوالُ أبجديّةَ الحياة، تلمّسَ نزيه حقيقتَها، دخلَ مكتبته، أغلقَ أوّلَ كتابٍ التقاه… وخرج .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *