قصّة قصيرة… ثلاث نكِرات غير مقصودة

Views: 416

سامي معروف

  كانت الطـَّرَقات على باب الكوخ مضطربة سريعَة، حتّى أنّها أوقعَت الذّعر في قلب رامز،  قامَ وفتَح.. وإذا بأدال الخَوتا شاحبة الوَجه تهذي وتبكي! وهي تُرَبّتُ تارةً على بطنِها وتشيرُ طورًا بيدِها إلى البَعيد وراءَها.

“ما الذي جاءَ بكِ يا مَجنونة في هذا اللّيل؟!” قال رامز وهو يخبط على رأسِه.

ثمَّ غمغمَ، وهو يجرُّها من يدِها إلى الخارج وراءَ الكوخ، بكلماتٍ متقطّعة تَنمُّ عن قلقٍ وارتباك:

– ماذا أفعل بهذه المصيبَة الآن يا إلهي؟

ولكنّ الصَبيَّة أدال كانت تحاول بجسدِها أن تشرحَ للحارس اللّيليّ أمرًا ما، وأنّى لها ذلك وهي بنصف عقل، لا تلفظُ شفتاها غيرَ الأصوات المتشابهَة المتدافعَة. وكان رامز يعي تمامًا لـُبَّ القضيَّة، وهو يرى بأمِّ عَينَيه ثمرَة جموح غريزتِه في ساعةٍ منحوسَة في قبوِ الحَطَب التّابع للبَلديَّة.

وراحت أدال ترفع صوتَها والخوف بادٍ في رقصاتِ نظرَتها البَلهاء، كأنَّ جنـًّا ما يُطاردُها فلجَأت إلى رامز في كوخِه المنعزل، وكان قد أسلمَها جنونُها إليه ونداءُ الرَّغبَة لقمَةً سائغة في ليلةِ القَبو. لا يكترث رامز لما تريد أدال أن تقولَه، لا أهميَّة لمَضمون لغة الإشارات هذه، ولا قيمَة لها كإنسانٍ أصلًا! وإنّما التخلـُّص منها ومن الحياةِ الرَّديفةِ في بطنِها هو ما يدور في رأسِه في هذه اللّحظَة المَصيريَّة. وهو الوَحيد الذي يعلم يقينًا أنَّه غارسُ الثّمرَة المحرَّمَة في أحشاءِ الفتاة المَجنونة.

  وكان الحارسُ اللّيليّ في البلديَّة يجهلُ بداية فصول المأساة، ويجهل أنّه سيدوّنُ هو بالذّات الخاتمَة التي حضَرَته.. خاتمةً ستمحو الجريمَة وآثارَها. فالقصَّة بدأت منذ سنواتٍ بعيدة، منذ طفولةِ موسى الأبلَه وأدال المَجنونة. ومسَلسلُ مَشاهدِ الحكايَةِ الغريبَة المتناثرَة من شُبّاكِ منزلِ أدال وراءَ الدّكاكين، إلى بساتين اللّوز، حتى باحة كنيسَة مار نهرا، وعند مياه السَّبيل على طريق الابتدائيَّةِ الرّسميَّة، ثمَّ قرب مدافن آل دياب.. أقنعَ بعضَ الفضوليّين بأنَّ إكسيرًا غامضَ التّركيبَة يتألّفُ بين الأبلَه والمَجنونَة. وأمّا قصَّةُ حبٍّ بين مَعتوهٍ ومَجنونَة فليست بالمادّة الشَيّقة على فنجان قهوَة، ولا هي من الإثارَة لتُروى، فسرعان ما طوَتها الذّاكرَة، وبقيَ الحبُّ يدبُّ دبيبًا ككائنٍ طفيليٍّ.. ومسَوَّدةٍ عابثَةٍ على الهامش.

بيد أنَّ مَجيْءَ موسى، من وقتٍ لآخر في الأسبوع، ليجلس على السّورِ الواطِئِ قربَ نافذة أدال، ويبقى صامتًا لساعات، أقلقَ روكز أخاها كثيرًا.. خصوصًا مع بلوغِهما المراهقة. وصاحَ روكز بوجهِ موسى مرّاتٍ عديدة وطردَه! فيغيبُ موسى شهرًا من الزَّمان ثمَّ يعودُ بعدها ليَشتاقَ إلى مَجنونتِه الوَلوع، وهو يعلم بيَقينِ الغريزَةِ التي لا تُخطئ أنَّ أدال تحوّلَت عنه وأذعنَت لنَوَاهي أخيها روكز، حتى أدركَ أخيرًا أنَّها قد نسِيَته بالكامل. وعندَما جاءَ، في المرَّة الأخيرَة، أحضرَ موسى معه سلّة لوزٍ وتين، ووقف عند الشبّاك ينادي بهَمس:

– أدال.. أدال..!” ولكنّ أدال لم تظهَر.

فخرجَ عندئذٍ أخوها، وانتزعَ السلّة منه ورماها على الطّريق، وراحَ يضربُه ويشتمُه ويدفعُه إلى خارج الحَديقة. فجلسَ الأبلَه تحت السّنديانةِ مطرقًا والدّموع طافرَة في عَينَيه. وهكذا انتهَت دراما جنونِ الأبلَه بالمَجنونَة.

ولكنَّ ميلودراما المَجنونَة والحارس اللّيليّ: أدال ورامز، فلا أحدَ يعرف زمَنَ ولادتِها، ولن يعرفَ أحدٌ ساعةَ موتِها! وستبقى مدفونةً في واحدٍ من “المرَبَّعاتِ” الاجتماعيَّة منبوذةً منسيَّة.

وامتدَّت أنامِلُ هذه الحكايَة من وراءِ ستارَةِ الزَّمَنِ الضّائع، ولكَزَت بخجَل روكز أخا أدال، فاستيقظَ الشَكُّ وناطحَ عَقلَه، عندما بدأ الدُّوار ينتابُ الفتاة ثمَّ الغثيان فالتقيُّؤ. فعَنَّ له ذاتَ يوم أن يأخذَها إلى الطّبيب، وكانتِ الطّامَة الكبرى! قال له الطّبيب:

– الفتاة حامل.

فعادَ روكز بأختِه إلى البَيت، وانهالَ عليها بسَيلٍ من اللَّعْنِ والسُّباب، وكان يصرخ ويقول وهو يضربُها:

– الأبلَه والخَوْتا.. الأبلَه والخَوْتا.. الأبلَه والخَوْتا…

فتمكَّنَت أدال من الفِرار من سَورَتِه، وراحَت تعدو على الدّروب، واختفَت لشهورٍ ثلاثَة.

وفي هذه اللَّيلةِ الخريفيَّة، سمِعَ روكز جلبَةً خارجَ البيت، ففتحَ الباب.. ورأى أختَه شاحبةً هزيلة تجلس على الحجَر، والبَطنَ منتفخًا والعَينَين تائهتَين. فأدخلَها وأطعمَها، وقعدَ إزاءَها يفكّر في خلاصٍ من المصيبَة. نظرَ إليها بحَزم وقال:

– هل تريدين أن تتزوَّجي من موسى يا أدال.. أم أقتلُكِ وأرتاح منكِ إلى الأبَد؟

فهَمهمَت خائفةً مستنكرَة. ولكنَّه قامَ في نهاية المَطاف، وخرجَ إلى القابلة مارينا علَّها تُسقِط الجَنين في اللّيلةِ ذاتِها.. قبل الفضيحَة! وما إن تلاشَت قامتُه في العتمَة حتى قفزَت أدال من ورائِه وجاءَت إلى الكوخ.

وهكذا اندفعَت المَجنونَة نحو الحارس اللّيليّ، وراحت تضرب صدرَه بقبضاتِها الهشَّة، وكادَ صياحُها أن يصلَ إلى المنازل القريبة! حاول رامز احتواءَ حرَكاتِها الهستيريَّة، فتعثّرَت قدَمُها بالدَّرَجَة وهَوَت، وصدَمَ رأسُها حافَّةَ حوض الزّهور، وسكنَ جَسدُها مُطبقةَ العَينَين.

وجَثا فوقَ الفتاة.. وراح يتَلمَّسُ كرَةَ بطنِها ويرمي بصرَه كالثَّعلب يمينًا وشمالًا. ثمَّ حمَلَها وسارَ بها نحو البَرّيَةِ وراءَ الكوخ، لا يُثنيه صوتُ حشَرات اللّيل أو وَقعُ خطَواتِه فوق الحَصى والعُشبِ اليابس، ولا ظهورُ القمَرِ بَدرًا ساحرًا فوقَ الجبَل. حَطّ الجسَد على الأرض، وعادَ مسرعًا وأحضرَ إحرامًا من الصّوف ورَفشًا ومِجرفَة، فلفَّها بالإحرام ودفنَها وهو لا يعلم أكانت ميّتَة أم لا. وعادَ إلى الكوخ وصَبَّ لنفسِه قدَحًا وأشعلَ لفافةً وراحَ يمجُّ الدّخان بهدوء.

واستمرَّتِ الحَياة غيرَ عابئةٍ بغَرامِ الأبلَهِ المُحَطّم، أو اختفاءِ المَجنونة، أو جَريمةِ الحارسِ اللّيليّ.

كانون الثاني 2022

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *