جابر عصفور.. أقفلَ البابَ ورَحَل

Views: 19

د. عبد الله إبراهيم*

ما إن بَلَغَني نبأ وداع جابر عصفور للدنيا قبل الإعلان عنه بصورة رسميّة – إذ كنتُ أتابع حالته الصحيّة الحرجة من إسطنبول – حتّى كتبتُ أنّه بوفاته “أقفل الباب، ورحل”. ما الذي قصدتُ إليه بتلك الجملة القصيرة؟ عن ذلك سأجيب باختصار قبل الخوض في استدعاء تلك الشخصيّة الثقافيّة الإشكاليّة: فقد توفّي جابر عصفور في آخر يوم من العام 2021، فيكون أَقفل بوّابة تلك السنة بمَوته.

غير أنّني قصدتُ من قولي، فضلاً عن ذلك، إلى ما هو أهمّ؛ فمن قبيل الجراءة القول إنّه بمَوته قد أغلق ملفّ المثقّف العضوي الذي انخرط بجسارةٍ في صنْع ثقافة الحداثة العقليّة بأدواره المتنوّعة أستاذاً في جامعة القاهرة، وأميناً عامّاً للمجلس الأعلى للثقافة، ثمّ رئيساً للمجلس القومي للترجمة، ووزيراً للثقافة في مصر، ومُستشاراً فاعلاً لعددٍ وافرٍ من مراكز البحوث والدوريّات الأكاديميّة، وبكَونه كاتباً نشيط الهمّة في الدّفاع عن ثقافة التنوير العقلي في غير مكان، بدءاً من المقالات الأسبوعيّة في الصحف الفاعِلة، مروراً بالشهريّة في المجلّات المؤثّرة، وصولاً إلى تأليفِ عددٍ وافرٍ من الكُتب في شتّى حقول المعرفة الثقافيّة مُرفقة بترجمةِ بعض مَصادر الفكر المنهجي الحديث.

ولا أحسب أنّ مثقّفاً عربيّاً قد ضارعه في أدواره الثقافيّة المؤثّرة في الشأن العامّ، وفي التعبير عنه بالتأليف المُتواصل مدّة طويلة، فقد تفرّد جابر عصفور بنزعةٍ إنسانيّة شديدة الثراء، وشخصيّة وافرة العطاء، ومع عظم مسؤوليّاته التي تقتضي وقتاً وجهداً، كان منفتح العقل والقلب على مَن حوله. ولعلّه من بين أكثر المثقّفين المصريّين حضوراً في خارطة الثقافة العربيّة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمره؛ وبالقطع، فهو الأوّل من بينهم الذي اجتذب إلى القاهرة مئات من المثقّفين العرب ممَّن تفاعلوا مع أقرانهم المصريّين في مؤتمراتٍ فَتحت مسالك الثقافة العربيّة التي أوصد الساسةُ أبوابها بقصدٍ وعمد. وبغيابه، فقد انغلقَ ملّف المثقّف الفاعل الذي أدام التواصُل مع الآخرين من دون تهيُّب في حقبة تاريخيّة كان التفكُّك، والتفرُّق، وليس الترابُط، والانسجام، عمادها، فإنْ لم يكُن حدثُ وفاته قد أغلق هذا الملفّ الثري، فماذا يكون؟

من الصعب عليّ الحديث عن جابر عصفور من دون الخَوض في ثقته بالآخرين، ثقة اكتسبها، إمّا بالمراس الطويل في شأن الثقافة وأهلها، وإّما بذكاءٍ مُضمَر يفصح عن نفسه بعفويّة محبَّبة تُشعر الآخرين بالألفة بدلَ النفور. وأزعم أنّ عدداً كبيراً ممَّن عرفه، يُشاطرني الرأي في ذلك، وقد ينكره عليّ آخرون في حال عدم مُعاشرتهم له، فهو قادر على وهْبِ ثقته للآخرين أو حبْسها بطريقةٍ لا تتأتّى إلّا لقلّةٍ قليلة من الرجال الذين عرفتهم، وأقول ذلك عن تجربة، ولا أرمي بالأحكام المُطلقة، كوني أبتغي الحقيقة في ما أكتب. وأوّل ما لفتني إلى ذلك، موقف جَمَعَني به في القاهرة في العام 1995، إذ دعاني، حينما كنتُ أستاذاً في إحدى الجامعات اللّيبيّة، إلى ندوة عن محمّد حسين هيكل، قدّمتُ فيها بحثاً عن رواية “زينب” شكّكتُ فيه بريادتها شكّاً كاملاً، وجعلتُ ريادة السرد الحديث للشاميّين، وليس للمصريّين، بل وأَعدته إلى أكثر من نصفِ قرن قبل ظهور “زينب”، وكما يعلم كثير من قرّاء هذه الشهادة، فذلك أقرب إلى التجديف في حقّ الرواية المصريّة خلال تلك الحقبة؛ إذ جرى التسليم بأنّ “زينب” هي فاتحة السرد العربيّ الحديث، والارتياب في ذلك أشبه ما يكون بإنكار حقيقة مقدّسة، ومع ذلك قلت قولي معزَّزاً بالأسانيد، وأكّدته في ما بعد بكتابي “السرديّة العربيّة الحديثة: تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة” الذي اندرج في الحلقة الرّابعة من مخطّط “موسوعة السرد العربي”.

ومع أنّ صديقي د. صلاح فضل، وكان مُشاركاً في المؤتمر، قد أنكر عليّ سحْبَ ريادة الرواية من المصريّين، ومنْحها للشاميّين، وعلّق بدعابةٍ مقصودة بأنّ العراقيّين حازوا ريادة الشعر الحديث، والشاميّين ريادة السرد الحديث، فماذا أبقى عبد الله إبراهيم للمصريّين؟ فإنّ الحقائق الثقافيّة لا يُمكن إنكارها في وسطٍ شفّاف ينقّب عنها، ويبحث فيها بحيادٍ لا قصد فيه. وكان جابر عصفور مثلي مشغولاً إبّان تلك المدّة بموضوع الريادة السرديّة، ولا يعلم كلّ طرف منّا بما كان يقوم به الطرف الآخر، فأعمالنا التي استغرقت وقتاً طويلاً في ثقافة القرن التاسع عشر، لم تكُن قد ظهرت للعيان، آنذاك. وعلى الرّغم من ذلك، فقد ابتهج جابر عصفور بما صرّحتُ به في محفلٍ كبير كانت الغاية منه الاحتفاء بهيكل وبأعماله، فمن حيث أردتُ أو لم أرد، أصبح هيكل، في قضيّة نشأة الرواية العربيّة تابعاً بعدما كان متبوعاً مدّةً قارَبت قرناً من الزمان، حتّى أنّ ريادته أمست مسلَّمة غير قابلة للمُناقشة. قابلَ جابر عصفور ذلك الرأي، الذي مضيتُ فيه إلى نهايته بعد ذلك، بثقةٍ كاملة، فقد أدرك أنّ تلك الأقوال لا تُلقى على عواهنها، إنّما مُسندة بكثيرٍ من حقائق البحث وأساليب التدبّر، وسرعان ما فُتح ملفّ ريادة الرواية بعد ذلك، واحتلّ فيه هيكل موقعاً متأخّراً جدّاً، بعدما كان رائداً أوّل في ذلك. لا غاية في النيل من هيكل، ولا الانتقاص من الدَّور المصري في الكتابة الروائيّة، فهي المحضن الأكثر ملاءمة لها، إنّما الإقرار بالحقائق الثقافيّة يفوق أيّ هوىً غايته الانتصار لهذا الطرف أو ذاك.

مُحاكاة طه حسين

لا يفي المثال الذي أتيتُ على ذكره في تأكيد ثقة جابر عصفور بالباحثين من أقرانه، فلديّ أمثلة وفيرة تدعم ذلك، أنتقي منها مثالاً أشدّ وقعاً على النَّفس من مثال هيكل، ويخصّ، هذه المرّة، طه حسين؛ ومعلوم أنّ جابر عصفور من مُريدي عميد الأدب العربي، بل هو مَثَلُهُ الأعلى، ومُلهمه، ومُعلّمه، وقد سعى إلى مُحاكاته في أدواره، ونجحَ في معظمها، بل فاق معلّمه في بعض ما قام به من دَورٍ جليل في ترسيخ الفكر العقلاني في الثقافة العربيّة الحديثة. ومع ذلك، فلم يحجب رأياً مُخالِفاً لما يريده عن طه حسين. ففي أثناء دعوة غداء لضيوف “ندوة هيكل” التي أتيت على ذكرها، وكنّا على مائدة واحدة، ناولته بحثاً موسّعاً كَتبته بخطّ اليد عنوانه “طه حسين وتفكيك مبدأ المُقايسة”، وطلبتُ إليه نشْره في مجلّة “فصول” التي كان يرأس التحرير فيها. نَظَرَ في العنوان، وكَتَبَ على صفحته الأولى “يُنشر في العدد المُقبل” من دون أن يتصفّح البحث، فذلك من الثقة النقديّة التي تنأى بنفسها عن الوصاية.

وأزعمُ بأنّ ذلك البحث، الذي جعلْته فصلاً أوّل لكتابي “الثقافة العربيّة والمرجعيّات المُستعارة” أحد أكثر الأبحاث جذريّةً في نقْدِ أثر المرجع المنهجي الغربي في صَوغ وعي ولا وعي طه حسين، ففيه ذهبتُ إلى أنّه كان يُقايس آداب العرب بآداب الأوروبيّين، فيُعالِج فيها ما عالجوه هُم في آدابهم، فالمُقايَسةُ ركنٌ أساسيٌّ من أركان تفكيره، فلا يُثيره سؤاله في أدب قومه، بل سؤال الآخرين في آدابهم، فيتنبّه إلى ذلك، ويمضي به، كما مضوا هُم من قبله، مثل قضية الانتحال وسواها. وبلغتِ الحال بطه حسين أن دعا إلى أن يكون المصريّون كالأوروبيّين في التفكير وفي التدبير، كما صرَّح بذلك في كِتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الذي كتبه حينما كانت بلاده تئنّ تحت وطأة الاستعمار الإنكليزي، إذ قال ليس أمامنا إلّا أن نتّصل بأوروبا “حتّى نصبح جزءاً منها لفظاً، ومعنىً، وحقيقةً، وشكلاً”، بل ينبغي أن “نُشعر الأوروبي بأنّنا نرى الأشياء كما يراها، ونقوّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما حكم عليها”؛ فالرغبة في محاكاة المستعِمرين أحد أهمّ معالِم تفكير المُجتمعات المستعمَرة.

لم يتوجّس جابر عصفور من فرضيّة استبداد مبدأ المُقايَسة بتفكير طه حسين، فقد جعلت مؤلّفاته تنطق بها في غير قضيّة، وحلّلتها تحليلاً استقصائيّاً، ولم يرتبْ في أُسسها، كما يفعل المريدون عادة، إنّما بإلقاء نظرة على عنوان البحث أجاز نشره، حتّى كدتُ أعترض على ذلك قبل الاطّلاع عليه. والآن، وبعد مرور مدّة طويلة على تلك الواقعة، فلا أجد غير أنّ ثقته بي باحثاً مستقلّاً هي التي جعلته يُسارع إلى نشْر ما لم يقرأ، وهو الضليع بأفكار طه حسين، وأرجّح أنّه أقام ثقته على ما نشرته لي مجلّة “فصول” من بحوثٍ قليلة قبل ذلك، وربّما اطّلع على بعض مؤلّفاتي الأولى، وليست الغاية ممّا ذَكرت تضخيم أهميّة رأيي في منهج طه حسين، ولا النَّيل من قامته المديدة، بل بمَوقف مُريده الأمين من باحثٍ شُغل بتفكيك الأصول المنهجيّة للمعلّم من دون تهيّب، فلم يتمهّل جابر، ولم يدّقق في ما كتبت، ولم يعترض، ويطلب تعديلاً هنا وهناك، إنّما أعطى موافقة بالنشر أشبه بالأمر لهيئة التحرير.

لستُ أقصد بالذي أتيتُ على ذكره، بأيّ شكلٍ من الأشكال، الإعلاءَ من شأني باحثاً، إنّما تأكيد ما اتّصف به جابر عصفور من رؤيةٍ ثاقبة جَعَلَتْه يمحض ثقته لباحثين تجرّأوا على النبش في ما كان يُعَدّ من مقدّسات الثقافة العربيّة، وحيثما التقينا، بعد ذلك، في غير مكان من القاهرة إلى الكويت، ومن الدوحة إلى بيروت، وغيرها، كان جابر عصفور يتّقد ذكاء، ويشعّ بالألفة، فلقد رأيته في أوجّ حيويّته في القاهرة في التسعينيّات من القرن العشرين، ورأيته، بعد ذلك، بربع قرن، وقد حاق به الإرهاق في الكويت، وهو يعتمد على مَن يُقدّم له العون في أسفاره وإقامته، ولكن ما لفتني انحسارٌ في توقّده الفكري، ولا في إيمانه بالثقافة العقليّة التي ينبغي أن تكون معتمداً لكلّ أمّة تروم الذهاب نحو المُستقبل.

آخر المثقّفين الإنسانيّين العرب

يعرف كثيرون الأدوار الثقافيّة التي تولّاها جابر عصفور في مصر إبّان انغلاق آفاق الثقافة المصريّة، ووقوعها أسيرة في براثن العتمة المُتنامية في غير مكان، ولكن لا يعرف إلّا المدقّقون من القرّاء والباحثين، الجهود التي بذلها في التأليف، ولطالما سمعت من الذين أعجزهم الإلمام بالقضايا التي أثارها طوال أربعين عاماً، بأنّه فَقَدَ التركيز في ما كان يكتبه، وصار له قول في كلّ قضيّة، ما جَعَلَ رأيه فيها، لكثرتها، شبه مكرّر. ذلك صحيح من ناحية، وخطأ من ناحية أخرى. صحيح بالنسبة إلى الذين يجدون في حضور المثقّف العضوي في كلّ محفل موضوعَ ازدراء، فيعجزون عن مُتابعة جهده، والإلمام بأفكاره، ويوجّهون إليه سهام الازدراء، وإلى هؤلاء لا أكتب هذه الشهادة التي لن تزيد إلّا في عنادهم وجحودهم، وخطأ، لأنّ جابر عصفور كان آخر عنقود “المثقّفين الإنسانيّين العرب” الذين يبسطون ظلالهم على ثقافة عصرهم، فلا يحدّهم حدّ أكاديمي أو ثقافي، فهو يجد في الثقافة التي عاصرها موضوعاً للتفاوُض والتباحُث والحوار والنقد بهدف تخليصها ممّا تسرّب إليها من آثارٍ سلبيّة، أو أنّه كان يُغذّيها بما يفيدها من الثقافات المُعاصرة لها، ولهذا اتّسعت مروحة مشروعه الثقافي، وتشعّبت القضايا التي استأثرت باهتمامه، كالحداثة، والتنوير، والتراث، وغير ذلك كثير.

يذكّرني جابر عصفور بمونتاني وإيراسموس في القرن السادس عشر، فبإزاء غموضٍ أشبه بالسديم المعتم الذي يغزو حياة الإنسان ينبغي للمثقّف أن يبحث عن النور أيّاً كان مصدره، أو حتّى يَبتكر مصدراً له، فتلك هي المسؤوليّة الأخلاقيّة التي تقع على كاهل المثقّف العضوي الذي يُديم نشاطه بالمُواظَبة على البحث في طيّات ثقافات عصره. وليس ينكر أنّ جابر عصفور قد خاضَ غمار ذلك طولاً وعرضاً، فمؤلّفاته أحاطت بمعظم القضايا التي شغلت الناس في القرن العشرين، وقد عالَجَ كثيراً منها برؤيةِ المثقّف المُستنير الذي لم يتنكّب لوعود العقل، ما جَعَلَه هدفاً للكسالى الذين يُشنّعون على كلّ صاحب مَوقفٍ جريء، أو رأيٍ جديد.

ما الذي يُمكن إجماله من تجربةٍ ثقافيّة واسعة انخرط فيها جابر عصفور، وكفاحٍ شخصيّ شقّ فيه الطريق في متاهة ثقافة تتردّى أحوالها يوماً بعد يوم؟ أوّلاً: يُحيَّى على روح الجَلد التي أبداها في وجه تيّاراتٍ سلفيّة اكتسحت كلّ شيء، حتّى أحالت رهان العقل إلى جملة من الهرطقات في مُجتمعاتٍ خيَّمَ عليها الركود، وشاعت في أوساطها الكآبة الجمعيّة، ما جَعَلَها تستسلم لأوهامٍ تُغذّي بها أحلاماً مستحيلة، ولعلّه كان أحد أبرز الذين قرعوا نواقيس الخطر بالانكباب على نقدِ الموروث الذي غزا عقولَ الناس غزواً أشبه بالطوفان، فأضحى الارتيابُ بالدنيا سُنّة من سُنن الخلْقِ الذين انقادوا ليقينٍ مُبهم بمُجافاة العمل والعقل والركون إلى مسلّماتٍ زيَّنت لهم حُسن أحوالهم.

وثانيّاً شغلَ جابر عصفور نفسَه في تبوّء مسؤوليّاتٍ جسام أثقلت كاهله، فجعلته ينوء بها هادفاً من ذلك إلى فتْحِ مسالك الثقافة العربيّة لتجري فيها مياهٌ نقيّة، كما كانت الحال في عصر ازدهار تلك الثقافة، ولطالما وجدته، في كثير من الأحيان، يُكافح وحيداً في أرضٍ رجراجة كأنّها أمواج السراب، ومع ذلك، كان يجتذب إلى الحوار نُخباً تحمل أفكاراً جديدة تتفاعل في ما بينها على ضفّتَيْ النيل، حيث القاهرة، وكأنّها خيمة وارفة يستظلّ بها منفيّو الثقافة العربيّة من أوطانهم لأسبابٍ سياسيّة أو دينيّة، وفيها يتبادلون الرأي بمؤتمراتٍ تستغرق النهار كلّه من أوّله إلى آخره، كأنّهم في ورشةٍ هائلة لتبادُل الرأي والرأي الآخر، وهُم في انتظار أن تُسفر مُداولاتهم عن ثمار في مُجتمعات اختُطفتْ إلى اتّجاهٍ غير ما يرومونه لها، فحال تلك النخب المُنهمكة في مُناقشات العقلانيّة والتنوير حال أهل “الأعراف” الذين لم يعاقبوا لأنّهم أذنبوا قبل سطوع الحقّ، وما أشبههم بحال المفكّرين في ليمبوس دانتي. كان بودّهم أن يذهبوا إلى فردوس العقل، لكنّ جحيم الجهل كان يجرّهم إلى الوراء.

ولكنْ هل كان جابر عصفور مثقّفاً مثاليّاً ليرهن نفسه لوعودٍ حاِلمة واسعة أقرب ما تكون لأحلام الشعراء في تحويل أُممهم صوب الحقّ كما أراد ذلك أبو العلاء المعرّي أم أنّه مثقّفٌ واقعيٌّ جاهَدَ، وأَخفق، وطوى أشرعته كما فعلَ التوحيدي؟

لا أرجّح لا ذاك ولا هذا، فقد بقي مُتماسكاً يُنازع من أجل نفحة هواء سليمة حتّى قضى نحبه من دون أن يبالغ، لا في آماله ولا في يأسه، فلم يكُن ناقماً كأسلافه المُرتابين مثل أبي العلاء والتوحيدي، ولم يسلّم قياده لتيّارٍ فكري معتم بَسَطَ يدَهُ على مقدّرات المُجتمعات العربيّة، فقد حافَظَ على يقظةٍ جعَلَتْهُ يسبر غور عالَمٍ متنوّع الثقافات والأهواء، ولعلّه يكون قد ختم حياته بما يُروى عن طه حسين من قول، وهو يحتضر بما معناه: أودّع هذه الدنيا بكثيرٍ من الألم، وبقليلٍ من الأمل.

***

* ناقد وكاتب عراقي

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(www.ebsta.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *