عبد المجيد زراقط بين “عامليّة” الحكاية و”عالميّة” الخطاب

Views: 639

   سلمان زين الدين

منذ “آفاق” 1992، روايته الأولى، مرورًا بـ” الهجرة في ليل الرحيل” 1996 و”طاحونة الذئاب” 2020، روايتيه الثانية والثالثة، وصولاً إلى “طريق الشمس” 2022، روايته الرابعة الصادرة حديثًا عن دار البيان العربي، لا يزال عبد المجيد زراقط يحفر في الذاكرة العاملية، الخاصّة والعامّة، يستخرج منها الذكريات، يُضيف إليها من متخيّله الواقعي، ويُعيد تشكيلها في مختبره السردي، بتقنيّات سردية حديثة، وفق مقتضيات الفن الروائي، فيجمع بين “عامليّة” الحكاية و”عالميّة” الخطاب، ويصنع روايته الخاصة، وهي رواية تقول شؤون العامليّين وشجونهم، وتروي همومهم وانكساراتهم، وتصوغ أحلامهم وصمودهم في مواجهة التحدّيات، على أنواعها.

  تنويعات على رواية واحدة

  في “آفاق”، يرصد زراقط التحوّلات الاجتماعية / السياسية، في النصف الأول من القرن العشرين، في فضاء ريفي زراعي، خلال انتقاله من مرحلة يستأثر فيها الإقطاع السياسي بالسلطة إلى مرحلة تشاركه فيها الدولة. وفي “الهجرة إلى ليل الرحيل”، يفعل الشيء نفسه، في سبعينيات القرن العشرين، في فضاء روائي تتنازع السلطة فيه الدولة والإقطاع والأحزاب والمقاومة الفلسطينية. وفي “طاحونة الذئاب”، يفعل الشيء نفسه، في ستينيات القرن العشرين، في فضاء يتجاذب السلطة فيه  البيك والسيد والشباب الناهض، في لحظة اشتباك إقليمي عربي ـ اسرائيلي. وفي “طريق الشمس”، موضوع هذه القراءة، يرصد الصراع بين التقليد والتجديد، في سبعينيات القرن الماضي، في فضاء روائي تربوي. فكأني بالروايات الأربع تشكّل تنويعات على رواية واحدة، تمتاح من المرجع نفسه وتُحيل إليه، تشترك في الفضاء الروائي واللحظة التاريخية ومراكز القوى، وتفترق في الشخوص والأحداث والتفاصيل، ما يجعلنا إزاء روائي عامليّ بامتياز.

  مدلولات العنوان

  في العنوان، “طريق الشمس” تركيب إضافي يتألف من المضاف “طريق” والمضاف إليه “الشمس”، وهو تركيب اعتمدته غير رواية عربية في عنوانها، مع متغير هو المضاف وثابت هو المضاف إليه، من “باب الشمس” لالياس خوري إلى “عين الشمس” لابتسام تريسي إلى “أرض الشمس” لزهراء محمد، على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك بعناوين أخرى اشتملت تراكيبها على مفردة “الشمس”، كعنوان “رجال في الشمس” لغسان كنفاني. على أن دلالة هذه المفردة لا بدّ أن تختلف من عنوان إلى آخر. وبتقصّي الدلالة في العنوان الحالي، بالاستناد إلى المتن، يقول الروائي، على لسان الراوي المحوري في الرواية: ” حفر أجدادنا وآباؤنا الصخر ليبقوا في هذه البلاد ويعمروها ويحموها. وعلينا، نحن الواعين أحوال واقعنا، أن نواصل طريقهم…، طريق الحياة، طريق الشمس، لمقاومة عدوّ الشمس” (ص 33، 34). وبذلك، تدلّ الشمس، في العنوان والمتن، على الأجداد والآباء والحياة والمقاومة وغيرها. فكيف تتم ترجمة هذه المدلولات في الرواية؟

  يصدّر زراقط روايته بقول الإمام علي بن أبي طالب: “لا تستوحشوا الحقّ لقلّة سالكيه”، وبقول جلال الدين الرومي: ” حين تُقرّر أن تبدأ تظهر الطريق”، وبقول جبران خليل جبران: “لا يبلغ المرء الفجر إلاّ من طريق الليل”. وبذلك، يضيف التصدير إلى دالّ “الشمس” مدلولات الحقّ والبداية والفجر. وبقراءة الرواية، نرى أنّ هذه المدلولات تستبطن أخرى مناقضة لها؛ ففي مقابل طريق الشمس والحياة والحق، ثمّة طريق الظلام والموت والباطل.  ولكلٍّ من الطريقين سالكوه، مع فارق أنّ سالكي الأوّل هم قلّة، لكنّهم، على قلّتهم، محكومون بالوصول، فيما سالكو الثاني هم كثرة، لكنّهم، على كثرتهم، محكومون بالفشل.

عبد المجيد زراقط

 

  طريق الشمس

  الطريق الأول يسلكه المدرّسون كمال الساهر وسميح صافي ومنى رشيد وآخرون. وزراقط يعلن انحيازه المسبق إلى هؤلاء من خلال إسناده عملية الروي في “طريق الشمس” إليهم، فيخصّ الأوّل بتسع عشرة وحدة نصّية، ويُفرد لكل من الثاني والثالثة ثماني وحدات. على أن الثلاثة يمثّلون مجموعة من القيم الريفية والأخلاقية والثورية الجميلة، ولكلٍّ منهم صفاته التي تتقاطع مع صفات الآخر، بشكل أو بآخر، وهي صفات تتظهّر من خلال شبكة علاقات، ينحازون فيها إلى أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم، فيجتمعون على الصداقة والحب والتفاني في العمل والوعي السياسي والتضامن الاجتماعي والانتماء الوطني ورفض الإقطاع ومحاربة الفساد ومقاومة العدو:

–  فكمال الساهر، الشخصية المحورية، يصدّر عن وعي سياسي مبكّر، ويأتي احتضان سميح صافي له ليصقل هذا الوعي، وهو ما يترجمه في سلوكياته، فنراه يبرّ بأسرته، يهتم بأصدقائه، يتفانى في عمله، يخلص في حبّه، يتعاطف مع المقاومة الفلسطينية، يعارض الإقطاع السياسي، يرفض الفساد التربوي والإداري، وينخرط في أعمال مقاومة عملاء الاحتلال.

–  وسميح صافي يجمع بين التدريس في المدرسة والعمل في الأرض، يحتضن كمال ويزوّده بالكتب التي تصقل وعيه السياسي، ويحفظ أوراقه وأسراره، ويتصدّى لكبير العملاء في القرية، الزميل السابق في المدرسة سرحان ديب.

–  ومنى رشيد، المدرّسة المسيحية من القرية المجاورة، تنشأ في أسرة علمانية، تتفاني في عملها، وتتخطّى الاعتبارات الطائفية الضيّقة، وتنخرط في علاقة حب مع زميلها كمال الساهر المسلم، فيحرّرها الحب من تجربة قاسية عاشتها، ويفتح علاقتهما على الارتباط المقدّس، لا سيّما أن لديهما الكثير من القناعات والاهتمامات المشتركة.

  وهكذا، نرى أن شخوص الطريق الأول هم أقرب إلى المثالية في تفكيرهم وسلوكهم، يمثلون القيم الإيجابية في المجتمع، ويسعون إلى تمثّلها وتطبيقها، ويحرصون على إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وعلى الرغم من أنّ سالكي هذه الطريق هم قلّة، فإنّهم في القرية كثرة، ويمكن أن نضيف إليهم أسرتي كمال ومنى، المدرّسين أسعد وريم، الشيخ الضرير علي الحاج يوسف،  الوجيه أبو محمود، الحرفي أبو شريف، المغترب أبو حسين، وغيرهم.

  طريق الظلام

  الطريق الثاني يسلكه مدير المدرسة والناظر والمدرّس سرحان ديب وآخرون. ويمثّلون القيم السلبية في القرية، وينخرطون في علاقات مشبوهة تعكس أعطابهم النفسية، ولا يتورّعون عن التربّص بالآخر وكيد المكائد له والارتهان للبيك وممارسة الفساد وتزوير الوقائع وتحريف الحقائق وإطلاق الإشاعات والتعامل مع المخابرات والعمالة للعدو، ويدفعون ثمن أعمالهم بشكل أو بآخر. لذلك، قبل أن يعود كمال إلى المدرسة تسبقه الشائعات ومحاولة تشويه صورته من المدير والناظر، وحين يعود تتكشّف نواياهم الحقيقية إزاءه، فكلاهما لا يقف له ولا يرحّب به، ويتزامن وصوله مع زيارة مدبّرة للضابط والرقيب إلى المدرسة، ويندلع سجال بينه وبينهم، وتتوالى سلوكياتهم السلبية منه، المدير والناظر يخططان لإسناد تدريس الصف الخامس المرفّع دون استحقاق إليه لتفشيله وتحميله تبعات الفشل، المدرّس سرحان يتجسّس عليه ويرفع عنه التقارير إلى الضابط، المدير يشوّه سمعته لدى حليم رشيد والد منى عازفًا على الوتر الطائفي للحؤول دون ارتباطهما، والثلاثة يسعون لدى البيك لنقله إلى مدرسة أخرى، ويمارسون الفساد التربوي بقبول هدايا الأهل مقابل نجاح أولادهم، ويطلقون التقوّلات عن علاقة كمال بمنى.  ولاحقًا يقوم سرحان، كبير العملاء، بالتقصّي عنه، واحتلال المنزل الذي استأجره ليقيم فيه مع منى بعد زواجهما. وهكذا، تعاني شخوص الطريق الثاني من أعطاب نفسية وأخلاقية، وتمارس الفساد والانتهازية والارتهان والتبعية والكيد والدسّ والتجسّس والعمالة. ويمكن إدراج المحامي قاسم حمّاد، رجل البيك في القرية، في عداد هؤلاء.

  إن الصراع الذي تقوم عليه الرواية بين الطريقين المتوازيين، بتمظهراته الكثيرة، ينجلي عن مصائر  مشرقة لسالكي طريق الشمس، فكمال ومنى مقبلان على الزواج، وكمال ينخرط في مقاومة العملاء، وسميح يعرّي هشاشة العملاء وخوفهم، من جهة، وينجلي عن مصائر قاتمة لسالكي طريق الظلام، فالمدير يتم إعفاؤه من الإدارة ونقله من المدرسة، والناظر يخسر موقعه في النظارة، وسرحان لا يجرؤ على الخروج من جحره، من جهة ثانية. وهذه النتائج تعكس المنظور الروائي المؤمن بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، والمبشّر بزوال المحتل وأدواته وبقاء أهل الأرض في أرضهم، وهو منظور روائي تقدّمي، تتحوّل أحلامه إلى حقائق ملموسة ووقائع مثبتة.

  الخطاب الروائي 

  إذا كانت الحكاية، في “طريق الشمس”، محلّيّة، “عامليّة” بانتمائها إلى جبل عامل، فإن الخطاب الذي ينتظمها حديث، “عالمي” باشتماله على تقنيات السرد الروائي الحديثة المعروفة حول العالم. تتمظهر حداثته، أوّلاً، في المسار النصي شبه الدائري، بحيث يبدأ النص من نقطة قريبة من النهاية وينتهي عندها، فتفترق البدايتان، النصية والحَدَثية، من جهة، وتتطابق النهايتان، من جهة ثانية. وما بين البداية والنهاية مجموعة من الوحدات النصية التي تقوم العلاقة بينها على الاتصال والانفصال، والخطية الزمنية والتكسّر. وتتمظهر، ثانيًا، في تعدّد الرواة المشاركين في إطار تقنية المرايا المتعاكسة وانخراطهم في علاقات تقوم على التوازي والتقاطع والتكامل، تتمخّض عن الحكاية العامة في الرواية. وتتمظهر، ثالثًا، في التنوّع الأجناسي، فالرواية تشتمل على مذكّرات وقصص قصيرة وحكايات وأبيات شعر، تكسر نمطية السرد، في الشكل، وتتناغم معه، في المضمون.

 هذه التمظهرات الحديثة يتم التعبير عنها بلغة روائية، متعدّدة الأنماط الكلامية، جامعة بين طلاوة السرد ورشاقة الحوار، ويأتي استخدام الروائي لكثير من التعابير الشعبية المحكية ليعزّز الإيهام بواقعية الرواية ونوعية المرجع الذي تصدّر عنه، على أن استخدامه تراكيب محوّلة عن تعابير تراثية ألقى بظلال ثقيلة على النص تُفارق الظلال الخفيفة التي ألقتها التراكيب الشعبية عليه. إلى ذلك، يُشكّل استخدام بعض المصطلحات الراهنة الاستعمال على مرحلة تاريخية سابقة لم تكن مستعملة خلالها إسقاطًا في غير مكانه المناسب. وتتسبّب السرعة  في الخلط سهوًا بين أسماء بعض الأحداث أو الشخوص، فيُذكر اتفاق الطائف بدلاً من اتفاق القاهرة، ويذكر سميح حماد بدلاً من قاسم حمّاد، على سبيل المثال.

  ومع هذا، “طريق الشمس” خطوة واثقة أخرى في مشروع عبد المجيد زراقط الروائي الذي يتّخذ من جبل عامل مرجعه، ينطلق منه ويُحيل إليه، ويُضيء منطقة لبنانية عزيزة يليق بها الضوء، ويكتب عن منطقة تسكنه ولا يسكنها، على حدّ إجابة عن سؤال طُرح عليه، فيستحق تحدّره منها وانتماءه إليها. وبهذا المعنى، عبد المجيد زراقط روائيٌّ عامليٌّ بامتياز.  

***

* النهار العربي، في 7 / 2 / 2022.    

 

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *