المطران أندره حداد في تأبين نعيم بربر منذ نصف قرن: إنه يوم لبنان الحقيقي… يوم الألفة والوحدة والمحبة

Views: 850

د. محمد نعيم بربر

*إلى روح والدي نعيم محمد بربر

 

تِسعٌ وأربعونَ سنةً، تكاد تُشارف على الخمسين، وما زالت ذكراكَ يا أبي تفُوح بالعطر والطّيب كأزهار الربيع وأشجار الصنوبر.. في مثل هذا الشهر من ربيع عام 1972، وقف الكبار في يوم ذكرى مرور أسبوع على وفاتك رحِمكَ الله وطَيّبَ ثراك، لكي يتحدثوا عنك ويستذكروا مآثرك وسجاياك أمام الحشود الغفيرة من أصدقائك ومحبيك وعارفيك أبناء بلدتك الأوفياء، وأبناء بلدات الجوار الكرام.. كان بين هؤلاء المُتَحدّثين الكبار سماحة الإمام السيد موسى الصدر، شاعر لبنان الكبير الأستاذ سعيد عقل، سيادة المطران أندره حداد، الأستاذ الجامعي الدكتور إبراهيم كوثراني، المُربيّ الأستاذ حسين الحاج، المحامي الأستاذ يحيى وردة، الشيخ الفاضل الأستاذ محمد نجيب زهر الدين. إنني أودُّ اليوم تكريمًا لذكراكَ يا أبي رحمك الله، أن يُشاركني الأصدقاءُ والمُحبّون والأهل في الإستماع إلى كلمة سيادة المغفور له الراحل المطران اندره حداد بصوته (مدة عشر دقائق)، ومحرّرة كتابةً أيضًا، على أن يسعفني الله بإذنه تعالى، لتقديم باقي الكلمات الخالدة للمشاركين الكبار في حفل التأبين المذكور على صفحتي من وقت لآخر، وبذات الطريقة.

وهنا كلمة المغفور له الرئيس العام الأب أندره حداد رئیس دیر المخلص (سيادة مطران أبرشية زحلة لاحقًا)، في حفل التأبين، الذي أقيم في قاعة النادي الحسيني، ببلدة جون بتاريخ : 25/3/1972:

 

كلمة حداد

هذا اليوم، يوم من لبنان. هذا اليوم الذي قُرعت فيه أجراس الكنيستين في جون ملتحمة أصواتها بأذان المؤذن وآيات القرآن الكريم تتهادى مع النسمات، فتدخل إلى القلوب الحزينة وُتدخل إليها بعض العزاء والفرح. إنه يوم لبنان الحقيقي، يوم المحبة يوم الوحدة، يوم الألفة، يوم الشعور المشترك بأفراح بعضنا بعضًا وأحزان بعضنا بعضًا. هذه القاعة التي جمعت هذه المجموعة الكريمة من رجال الدين والدنيا من مختلف الطوائف، هذه القاعة هي شاهد على لبنان الحقيقي الذي يريد البعض أن يصوّره على غير ما هو. ولكن نحن في هذه القرى وفي هذه الجبال لا نزال نعرفه على حقيقته. وها نحن اليوم بروح لبنانية صافية اجتمعنا نُحيي ذكرى لبناني صاف. اجتمعنا اليوم أيّها السادة، ليس لنرثي رجلًا كبيرًا من كبار العالم حسب المقاييس التي يُقاس بها الكبار، ولا اجتمعنا لكي نُحيي

ذكرى حاكم من حكام البلاد وعظيم من عظام تلك البلدان، لكن اجتمعنا لنُحيي ذكرى رجل لبناني بكل ما في هذه اللّبنانية من أصالة وصفاء.

 

أبو محمد الذي اجتمعنا اليوم لأجله واجتمعنا بمثل هذا العدد الكبير وبمثل هذا التنوع من القرى المجاورة ومن الأصدقاء العديدين، أبو محمد هو قطعة من لبنان الحقيقي، قطعة صافية من صفاء الجبل الذي نعرفه ونحبه، قطعة خضراء، بيضاء من لبنان الأخضر الأبيض الناصع. واذا كانت الناس تقاس بما تترك من أثر طيّب، فإنّ هذا الإجتماع لجدير بذكرى أخينا أبي محمد. أنا لا أتكلم عن رجل لا أعرفه، ولكن أتكلم عن رجل عرفته وكان صديقًا لي وكنت أزوره في بيته وأشعر بما يشعر به كل مواطن من صفاء ومحبة وألفة وقلب سليم. لذلك حزّ في قلبي مرض أبي محمد الذي عرفنا أنْ لا شفاء منه، وعندما أخبرت صديقنا المشترك سماحة الإمام السيد موسى الصدر عن الكارثة التي حلّت بأبي محمد، فاذا به يرفع يديه ويقول: الله أكبر لهذه المصيبة. وكنت دائمًا أقول لإبي محمد، سيأتي سماحة الإمام الذي نام في غرفتك ذات يوم، فرأيت بإيمانك الكبير أنّ الغرفة اتسعت جدرانها. سيأتي هذا الإمام من سفره وسيعيد إليك القوة والمعنوية لكي تغالب المرض. كان أبو محمد يتعزّى بهذا التّشجيع وكنا نراه في مرضه، في شدّة مرضه، أقوى منّا نحن الأصحاء عندما يصيبنا بعض المرض. كانت له معنوية الإيمان أنّ ما مرّ به هو عارض لا بدّ أن ينتهي. إنه برغم تزايد المرض عليه كان يرى أنّ هذا المرض يخفّ، لأن كان له إيمان بأنّ قوة الحياة أقوى من قوة الموت. عرفته وعرفتموه جميعًا في ذلك البيت المتواضع ولكن العامر بالمحبة والأصالة اللّبنانية السمحاء. كان أبو محمد مضيفًا وكان طموحًا وكان يريد أنْ يجعل من بيته محجّة للعلماء ورجال الفكر هو الرجل الأميّ، وكان يريد أن يجعل من إبنه رجل علم وفكر فاقتنى له مكتبة كبيرة وكان يطربُ لِمَا يتلو عليه من شعر ومن أمثال ومن حكم. كم من مرة رأيناه رابطًا على هذا المفترق في جون لكي يصطاد رجال الفكر ويدعوهم إلى زيارة بيته. ونحن اليوم فيما بيننا رجلٌ من كبار رجال الفكر في لبنان الأستاذ سعيد عقل الذي دخل إلى بيت أبي محمد، دخل بذلك الطموح الذي كان يطمح به أبو محمد أنْ يجعل من بيته محجّة للعلماء ولرجال الدين ولكلّ رجال

الفكر في هذا البلد الحبيب. لذلك أيّها السادة لنْ أمدح أبا محمد ولنْ أطيل في رثائه، ولكن نحن اليوم إذ اجتمعنا بهذه المحبة الصادقة إنّما جمعنا ذكر ذلك الرجل الطيب الذي كان قطعة من تاريخ لبنان، قطعة من المحبة اللّبنانية الصافية وقطعة من الطموح اللّبناني الذي نجده عند رجال الجبال وأهل القرى. هذا اللّبناني الصّافي الذي كنّا نفقده لكثرة ما يحاك حوله من مؤامرات ودسائس ومتاجرة بالطائفية وغيرها. وحسبنا اليوم في هذا الإجتماع أنْ نعلن إعلانًا لا يقبل الرّد أنّ اللّبناني ليس في قلبه طائفية، وليس في قلبه تعصّب، ولكن في قلبه طائفية وتعصّب لأجل لبنان ولأجل كلّ مواطن من لبنان، طائفية لأجل المحبة التي هي أساس كلّ نُموّ، وأساس كلّ نجاح، وأساس كلّ إنتصار نريد أنْ نحققه سواء في حياتنا الخاصة أو في حياتنا العامة أو في ديمقراطيتنا أو في مستوى أوطاننا.

 

لذلك، لا أعزي أهل الفقيد، أبناءه وإخوته وأقاربه لأننا كلّنا بحاجة إلى تعزية. وعندما نفقد مثل هذا الرجل الطّيب الذي كان بيته محجّة لكلّ رجال الفكر والدين والدنيا، نُعزِّي بعضنا بعضًا بذكرى مثل هذه المحبة وبذكرى مثل هذه العصاميّة التي عاشها أبو محمد. وكلّنا يعرف كيف كان يجاهد لكي يعيش وكيف كانت له مداخلاته مع كلّ الأوساط لكي يبني مستقبل أولاده، فيعوِّض بعلمهم وكفاءتهم عمّا نقصه من علم وكفاءة.

سِرْ يا أبا محمد في طريقك، طريق المحبة وطريق الجهاد. ونحن سنحفظ لك ذكرًا طيبًا، وكلّما مررنا على هذا المفترق من الطرق سنذكر صورتك جالسًا بتلك البساطة القروية، بتلك القناعة في الحياة، جالسًا على كرسيّك ونرجيلتك أمامك تدخنها بهدوء وسلامة بال، تنتظر مرور رجل كبير لكي تدعوه إلى بيتك، فتشعر أنّ بيتك كَبُرَ بهذا الرجل. ألا سِرْ في طريقك، فنحن اليوم في هذا المعمعان من الحرتقات السياسية أحوج ما نكون إلى هذا الصفاء وهذه البساطة وإلى هذه القناعة في الحياة التي هي رأس مالنا كلبنانيين مؤمنين بوطننا، ومعزّة بعضنا بعضًا، عزَّانا الله جميعًا عن فقد هذا الرجل الطّيب.

المطران أندره حدّاد

*ملاحظة : بعد نشر هذه المقالة على موقع “ألف لام” الإلكتروني، سيتم نشرها لاحقًا على صفحتي ( فيس بوك ـ الشاعر محمد نعيم بربر )، مع تسجيلٍ صوتي للكلمة المذكورة أعلاه، بصوت سيادة المطران أندره حداد، في حينه في بلدة جون ــ الشوف بتاريخ 25 / 3 / 1972

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. رحم الله جدّي الفقيد الكبير المرحوم أبا محمد، نعيم بربر، وجعل مثواه ومثوى جدّتي المرحومة أن محمد في الجنة مع الأنبياء والابرار والشهداء والصالحين..

    كان وكانت رحمهما الله مقصد خير ومنزل كرم وطيبةٍ وكل جميل..

    يقال عن زمانهم “الزمن الجميل”، كيف لا وقد كانوا زينته وتُحفه الأصيلة المشعّة بالإيمان وبالمحبة والصدق، هم وأمثالهم ممن مضوا، والديّ، والطيبين من بلدي الغالي لبنان وقريتي الحبيبة جون، هم تفاصيل ذلك الزمن الجميل الذي لن يعود مثله أبداً..

    مسافة الأب أندريه حداد، سماحة السيد موسى الصدر، حضرة الشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي وجبل الشعرر اللبناني سعيد عقل، جميعهم نجوم أناروا سماءنا ببريق جذورهم الطيبة وكرم نفوسهم الراقية اللاتي تركت بصمات لم ولن تمحيها السنين مهما طالت..

    رحمهم الله واطال عزّ وجلّ بعمركم المديد، الخال الدكتور والشاعر والحبيب وجمعنا سويًا على ذكراهم الجميلة وعلى كل خير بإذنه تعالى..

    والشكر الجزيل لموقع ألف لام والقيّمين عليه وعلى نشر دُرَر الأدب وموسيقى قوافي الشعر الجميل لإيصالهم إلى أطراف المعمورة وكل عاشق للأدب والشعر..