حكاية بائع متجوّل

Views: 901

  حاكم مردان

(شاعر وقاص وناقد أدبي من العراق)

 

– ما الذي يمكنني كتابته عن العطلة الصيفية!؟

    همس في أُُذني متسائلاً، وعرفت الصوت الذي لايخطئ السامع في تمييزه، إذ يصدر عن حنجرة صدئة وعنق طويل تتردد فيه تفاحة آدم كأنَّها خادمٌ يلبّي طلبات مخدوميه صعوداً ونزولاً.

   أجبت بلا اكتراث –  جدوع! أكتب كيف قضيت العطلة الصيفية وحسب!

    أشاح بوجهه عني كمن يريد أن يُسمع كل تلاميذ الصف، وقال بنبرة تهكم:

–  أهّا، ما أذكاك! تجاوبني بسؤالي، أش أكتب، كنت أبيع السميط  طوال الصيف، أملأ الصفحتين  بكلمة واحدة سميط سميط!

    قالها بصوته الأجش مقلّداً مشيته اثناء حمل طبق السميط، وضجّ الصف بالضحك، حتّى ان المعلم شارك الطلّاب سائلاً جدوع:

– ها جدوع بكم تبيع الواحدة؟

    كان درس الإنشاء هو ما يقلق راحة جدوع ويقض مضجعه، العناوين المطلوبة تشكل عائقاً لايمكن تجاوزه من مثل، “صِفْ كيف قضيت العيد”، يبيع السميط وحسب! أو “صف سفرة مدرسية”، لم يحدث أن شارك في أحداها،أو “كيف تقضي أُمسياتك”، وجدوع يكون قد هدّه التعب واستسلم الى شخيره الصدئ، وكانت الطامة الكبرى عندما طلب منّا معلم اللغة العربية، وكان من عشّاق صوت ام كلثوم، كتابة موضوع أنشائي بعنوان” أيّ من أغاني كوكب الشرق أمّ كلثوم أحبُّ الى نفسك،ولماذا؟”.

   سألني جدوع هامساً:

  – أم كلثوم مو هاي اللي تغني!

        اقترح المعلم أن أساعد جدوع في درس اللغة قبل الأمتحان النهائي” لعلّه ينجح هذه السنة!”، لأنَّ جدوع رسب في صفّه العام الماضي، وهذه آخر فرصة له لمواصلة الدراسة وإلّا فُصل من المدرسة الرسمية، ولن يبقى امامه سوى التسجيل في المدارس الأهلية، وهذه تتطلب مالاً ليس بمقدور جدوع تدبيره وان باع سميطاً بعدد شعرات رأسه.

   لم أجد صعوبة في الوصول الى بيتهم فالمدينة التي تكاثرت بيوتها عشوائياً، سرعان ما اكتسبت شوارعها واحياؤها أسماءً وصفات تعرّف عنها، وهذه كانت حال حيّ المنكوبين حيث يسكن جدوع مع أمّه الأرملة وجدّته الضريرة وشقيقة تصغره سناً وتقلّ عنه ذكاءً لأنّها مصنفة، بحسب المستشفى الحكومي في فئة المتخلفين عقلياً.

      أمّا لماذا يحمل الحيُّ اسم المنكوبين، فلا علاقة له بالنكبة التي ألمّت بالشعب الفلسطيني، بل لأنّ المطرب الشعبي المعروف سلمان المنكوب أحيى فيه حفلة عرس مجاناً،وتقديراً لبادرته هذه ارتضى سكان الحي حمل الأسم، ثمَّ وجدوا أنّه مطابقٌ تماماً لحالتهم فجُلّهم من مهاجري الأرياف ومعدمين.

   أستنكرت الأمّ ان يكون جدوع بحاجة الى مساعدة، قالت هو من يعيلنا جميعاً، فأوضحتُ قائلاً:

  – لا ليست مساعدة مادية، إنما أُساعده في درس اللغة العربية.

  ردّت بتهكم: ها، ومنْ قال لك اننا أكراد!

   عندئذٍ أدركت المصدر الذي يستقي منه جدوع طرح الاسئلة التعجيزية.

   انطلق الصوت الذي لايخطئ السامع في تمييزه من داخل البيت: دعيه يدخل، وحضّري لنا شايّا.

   رغم ان البيت مكوّن من غرفتي طابوق إلّا ان طريقة البناء توحي للناظر انهما أُنجزتا على عجل، حتّى ان رصف قطع السميط على طبق الخشب على شكل هرمٍ صغير، أكثر اتقاناً من رصف الطابوق الذي جعل الغرفتين أشبه بعجوزين أقعدهما الترهل عن النهوض، لاأثاث يمكن للزائر ان يصفه عدا صندوق متهالك أُلصقت به مرآة مكسورة وحصران مهترئة الأطراف تغطي أرضية الغرفة غير المبلّطة التي يحتلّها جدوع وحده، بساط عتيق ومخدتان هو كل مايشكل سرير جدوع الأرضي.

   قال: تفضل أكعد!

    التركيز كان مشكلة جدوع، يفتقد إليه كما يفتقد صوته الى النعومة، أمرٌ أدركته منذ الساعات الأولى لبدء التعليم ومحاولة التلقين، أن لافائدة ترجى منه، ولا إصلاح له، عطبٌ ما أصاب الدماغ وأوقفه عن التفكير.

    يسهو عنّي وكأنّني غير موجود، ويستغرق في لامبالاة قاتلة، يحاول تلطيفها أحياناً بأيراد حكاية عابرة تُخرجنا عن الدرس، واضطر الى أعادته بلطف، فيبدي انزعاجاً ويصيح بأمه مذكراً أياها بتحضير الشاي( الذي لم أحظ مرّةً برشفة منه!).

   شروده أصيل كأنهما ولدا معاً، وكثيراً ما يغيظني وأنا على حافة الانفجار عندما يطيل النظر في عينيّ  وكأنّه في أقصى حالات التركيز، فأباغته بالسؤال عمّاذا قلت توّاً، فينتبه:

– ها! أنا أخوك،سامحني نسيت!

    ما ان أفل الأسبوع الأوّل من التعليم، حتّى ادرك جدوع فشل مهمتي قال بصوت حزين:

– ماكو فايدة! لابدّ ان حمل طبق السميط  كلّ هذه السنين أغلق رأسي عن تقبُّل شيءٍ سواه.

     أوشك على البكاء و أنا أوشكت على الضحك عندما صاح ملتاعاً:

– السميط خرَّب حياتي!

    هدأ قليلاً ثم تنهد:

– سأترك السميط لأجد لي عملاً أكثر ملائمةً للدراسة. ثم عقب مصححاً:

– لا لا سأترك الدراسة، الشهادات والوظايف مو ألنه ( ليست لنا).

      لم تجد نفعاً مواساتي له ومحاولة بعث الأمل، كان قرار ترك الدراسة لارجعة فيه.

    لا أُنكر أنني شعرت بالارتياح وأنا أُلقي عن كاهلي مهمة تعليم جدوع، لكن سرعان ما انتابني وخز الضمير عندما انقطع  عن الدراسة وغاب صوته الأجش من الصف ولم يبق احد يتذكره، حتى ان المعلم يتحاشى تلاوة اسمه أثناء تفقد الحضور، ويكتفي بالقول (هذا أنتهى!)، لم يغفر له جهله بالمطربة أم كلثوم عندما كتب في موضوع الأنشاء كلمتين فقط:

( ماعندنا راديو!).

    كانت فرحتي عظيمة في ذلك الصباح المشمس عندما ارتصفت عربة جديدة لبيع المأكولات مع باقي الباعة الذين يتخذون من الساحة المواجهة للمدرسة مكاناّ للبيع حيث يتسابق طلاب المدرسة الأربعمئة لشراء السندوتش والمياه الغازية، الآيس كريم والقضامي المخلط بالزبيب، ذروق الفار، وكُتل الخرّيط،. وحبوب الباسورك.

 العربة الجديدة كانت أشبه بفتاة أحسنت مكياجها بين عجائز أهملن هندامهن، مرايا صغيرة أُلصقت على جوانب رفوفها ومُزينة بالشراشيب وصور نجوم السينما ونظيفة تماماً، وما شدّني أكثر إليها ذلك الصوت الذي لايُخطئ السامع في تمييزه:

– كباب عروك، بيض مسلوك،عمبة وصمون.

لم أكن قد ألتقيت بجدوع لأكثر من عام، عندما انتقلت من الصف الخامس الى السادس، آخر سنة في المرحلة الابتدائية، إلا أن جدوع من الناس الذين يصعب نسيانهم لاحتكامهم الى فطرة سليمة تتباسط مع أقدارها شاكرةً الموزِّع وإن خصّهم منها بالحصة الأسوأ.

    كلُّ تلاميذ صفنا تحلّقوا حول عربته مهنئين، أو متأسفين على ترك الدراسة، وآخرين استحسنوا صنيعه، بل وأخبروه أنهم بصدد ترك المدرسة حال الأنتهاء من المرحلة الأبتدائية.

    كنت انتظر ان ينفضّ الجمع من حوله لتهنئته على ترك السميط، لكن ماأن لمحني من بعيد حتى ترك العربة في عهدتهم وأقبل نحوي فاتحاً ذراعيه.

– ركّز معي ولا تشرد! وتعال أضيفك سندويج عروك!

– لا، بل ستقبل مني نكوط العروس.

    كنت على يقين أن المدرسة أو تحصيل الشهادة لن تجعلاه سعيداً كما فعلت العربة الجديدة.  وهل يطلب الإنسان أكثر من أن يكون سعيداً في عمله!

    لكن الأمور لم تبق على حالها طويلاً. عند مجيء حكومة جديدة، عُيّن معلم الرياضيات مديراً للمدرسة، كان فظاً شرس الطباع، يعاملنا بقسوة ويعاقبنا لأبسط سبب، وماأن استلم مهام وظيفته  حتّى بدأ يعمل بجد ومثابرة على إزالة أكشاش الباعة وعرباتهم من جوار البوابة الخارجية.

     استحدث حانوتاً داخل المدرسة لكي يحتكر البيع، ثمّ استعان بالشرطة لأبعاد اصحاب الأكشاك والعربات بدعوى التسبب بانتشار الذباب والفضلات عند المدخل مما قد يعرّض الطلاب للأمراض.

   كانت حُجّة كافية لرجال الشرطة لكي يستعملوا هراواتهم في أقناع من يرفض، وكانت خُميسة المسكينة أوّل الذين نالوا دفعةً قوية من الشرطي وهشّم بسطيتها وتناثرت حبوب القضامي وكُتل الخرّيط تعفّر لونها الأصفر الزاهي بتراب الساحة، وانسحب الباقون على عجل وكان جدوع أولهم، وكالعادة اختفت أخباره.

    أيقنت أنها المرة الأخيرة التي أرى فيها جدوع، إذ أن أمثاله من الناس سرعان ما تبتلعهم الحياة حتّى الرمق الأخير، ليسوا أفراداً أو ذواتاً، هم كتلة صماء تفتقد التعبير عن وجودها، هم الحشود التي تملأ الفراغ، أي فراغ،واذا ما استدعاهم أحدٌ للأنخراط في حراك المجتمع، ابدوا لامبالاة هي أصل فطرتهم السليمة التي تحفظ ارواحهم من كل لوثة.

    أذكرُ نادرةً لجدوع يوم سار مع أربعمئة من أقرانه في مسيرة طلابية احتجاجاً على تعديات ايران أثناء حكم  الشاه بهلوي،بدا فرحاً بما كان يهزج به، حدثٌ اخرجه من رتابة حياته وانساه للحظة أُمّه وجدته الضريرة وشقيقته وواجب اعالتهم، كان منشرحاً تماماً ولعلها المرة الأولى التي اراه فيها باسماً ومغتبطاً بوجوده في حشد المدرسة، يلتفت الى من يسير على يمينه مُشجعاً وضاحكاً، وأخرى على يساره موجهاً وداعماً وكأنه زعيمٌ طلابي، او طفل أُغرق فجأةً بالهدايا يحار بمن يبدأ.

   – لِمَ جدوع مسرورٌ بهذا الشكل!قلت في نفسي، وانا الذي اعرفه بلا أدنى فكرة عمّا يحدث في البلاد والعالم قاطبةً،وأذا كان لايملك راديو ولم يسمع بأم كلثوم فكيف تسنى له ان يهتف بهذا الحماس مردداً مع الجموع: بالروح بالدّم…! عندئذ لفت انتباهي حركة شفاه جدوع التي لم تكن لتنمّ عن مطابقتها لما يهتف به الآخرون، كان سكون تفاحة آدم يبين عدم نزولها عند رغبة مخدوميها، وكأنَّ صاحبها قرر التمرد على مايهزجون به.

   انتبه جدوع وأنا أًنقّل ناظري بين بلعومه وفمه، وقبل ان أسأله أمسك بيدي وصاح في أُذني:

– هاها هوهو  هي هي…هاها هوهو هي هي. متناغماً مع ماتردده الحناجر الأربعمئة، فبدا منسجماً صوتاً ونبراً، ومختلفاً لفظاً ومعنى!

حبستُ ضحكةً فرقعت في أمعائي، إلّا أنني لم أفلح في كتمانها طويلاً عندما تغيّر الهتاف الصادر من الحشد الى أهزوجة مفادها: أيش جابك يا بهلوي– حزب البعث يشوي شوي

همس جدوع قائلاً: سَمعت! طلع حزب البعث كببجي!

   في يومٍ قائظ تناقل الطلاب خبر وفاة شقيقة جدوع في ظروف مأساوية، لم يكن الأمر مهماً على أيّة حال، وليس مطلوباً من أحد تقديم واجب التعزية، إذ فكّر البعض، وانا للأسف كنت واحداً منهم، أن العبء سيخفّ عن كاهل جدوع، لكن ماسمعته من الذين تناقلوا الخبر، ان شقيقته ماتت بسبب الراديو الذي اشتراه جدوع إثر انتعاش مبيعات العربة،أثار فضولي، لعلها الحادثة الوحيدة في العالم التي يتسبب فيها راديو بموت انسان!

   كيف!؟ قالوا رأينا جدوع خارجاً من بيته والراديو في يده وهو في حالة هياج قصوى، يلعن الراديو واليوم الذي اشتراه فيه ويصيح ليتني لم اشتره يلعن ابو الراديو ثم خبطه بالأرض عدة مرات وفي النهاية تناوله وبكل ماأوتي من قوّة قذفه باتجاه الحائط وحوّله شظايا، ولم يجرؤ احد على السؤال عن السبب.

   انتظرت حتّى اليوم الأخير لتقبل التعازي، وبعد المدرسة توجهت نحو حيّ المنكوبين.

  لم يكن هناك الكثير مما يجده المعزّون عادةً في المآتم، فأهل الحيّ فقراء يتولى إمام الجامع تدبير الحصران والبُسط ليجلس عليها المعزّون، ويتبرع المحسنون من المصلين بتكاليف القهوة.

    كانت البنت مجنونة، ليغمرها الباري برحمته، اجمع الجيران أن موتها وحياتها سواء، هكذا يتم تقييم المجانين عادةً، ولعل جدوع الوحيد الذي أحزنه فقدها.

   عيناه مغرورقتان بالدموع ومحمرتان، وزاد في بحّة صوته شرخاً سببه العويل الذي منع الجيران من إنقاذ الراديو.

   قال، بعد ان عانقته معزياً: مكرودة (مسكينة)، أيش شافت من دنياها!؟

   حقاً لم ترَ شيئاً من دنياها، ثم اردف والعَبرة تكاد تخنقه، 

  : أشعلت النار في ثيابها، أحرقت نفسها….آخ خوية حمدية سودة عليه، ريتني فدوى اغدي لكِ! وأجهش منتحباً.

    صدمني الخبر، ولم أجرؤ على السؤال وانتظرت حتى انهى نشيجه،

 : خطيّة! ولكن كيف جرى الحادث!؟

   كفكفَ دموعه وتنهّد قائلاً: فتحت حمدية الراديو وبدأت بتقليب أبرته في كل اتجاه بحثاً عن سلمان المنكوب ، أخبرتها أمّي ان المنكوب( مايغني عند الحكومة)، لكنها لم تسمع ماقالته الأُم عندما رفعت صوت الراديو على آخره،واستمرت بتقليب أبرته باسرع من ذي قبل، حاولت أخذ الراديو منها، فنشب عراك بينهما كانت الغلبة فيه للأم،استشاطت حمدية غضباً فحملت بابور الكاز وصبّت محتوياته على رأسها وثيابها وصار اللي صار.

    صفن قليلاً وكنت أظنه سيعاود النحيب، لكنه تناول فنجان قهوة وصبّه دفعة واحدة في جوفه، مسح فمه وقال بهدوء: أيه، أيش نسوي! الله ما كاتب لنا نسمع ام كلثوم!

   كنت متلهفاً بانتظار العطلة الصيفية لأقوم بزيارتي السنوية الى بيت خالتي في منطقة باب الشيخ في مركز العاصمة، ابن خالتي كريم صديق طفولة يوم كانوا يشاركوننا السكن نفسه، وسأزف لهم خبر نجاحي في امتحان البكلوريا وظهور اسمي في الجريدة الرسمية وانتقالي الى المرحلة المتوسطة التي سبقني اليها كريم فهو يكبرني بعامين.

   محلّة باب الشيخ ليست مكاناً لسكن الأغنياء، بل متوسطو الحال من ذوي الدخل المحدود، واصحاب المهن الحرة ومن يمتلك محلاً أو دكان عطارة، لذا كان سوق باب الشيخ عامراً بكل اصناف البضاعة ويقصده المتسوقون من أربعة اركان العاصمة.

  في كلّ زيارة لبيت خالتي لابدّ ان يدعوني كريم للتجول في السوق ثم الجلوس في المقهى ولعب الدمينو مع أصحابه البغادة( البغداديون)، لكن ما أن اقتربنا من المقهى حتى طرق سمعي الصوت الذي لايخطئ السامع في تمييزه.

: أجاك اللي ما ينساك! ركّز معي ولاتشرد!

– يا الله! هذا جدوع!

  تفاجأ ابن خالتي بالعناق والسلام الحار الذي تبادلته مع صاحب عربة المشاوي (كباب، تكّة، معلاك)، ثلاث كلمات مخطوطة على زجاج العربة، واسياخ اللحم والكبد منضّدة الى جوار المنقل.

: أخيراً صرت كببجي!

: أبداً، كببجي ماصرت، ولا راح اصير، بس خلّيني أشوي لكم نفرين بهلوي.

     لم يكن ابن خالتي من محبّي الأكل على الطريق، لكن جذبته اللغة المشفّرة التي اتبادلها مع جدوع. 

سألت عن جدّته الضريرة، لابدّ ان الله تغمدها بواسع رحمته!

  قال: أبداً! مازالت تصهل، وجاي أدور لها على عريس!

   اخبرني أنهم  انتقلوا بعد حادثة أنتحار شقيقته من حي المنكوبين، استأجر بيتاً قريباً من عمله، والأُم بدأت تصنع خبز التنور وتبيعه ، وهم في أحسن حال، ويفكر في شراء محل ثابت ومُجاز من وزارة الصحة ليتجنب دوريات البلدية التي تمنع اصحاب العربات من التواجد في السوق.

   أخيراً سألني ان كان ثمّة امل في رؤيتي مجدداً، قلت لدي زيارةسنوية لبيت خالتي سأراك عندها.

   قال مودّعاً: أنت، وهلال العيد عندي سوية!

       في آخر زيارة لبيت خالتي كدت انسى موعدي السنوي لرؤية جدوع، إلّا ان ابن خالتي ذكّرني قائلاً

: دريت بصاحبك ابو عربة المشاوي!؟

   قلت: أيه! جدوع، مابه؟

: مسكين! يمكن راح عشرين سنة سجن.

    نزل الخبر كالصاعقة على رأسي، وصحت: لاه!

    بدأ يروي تفاصيل الحادث،

    عند مداهمة السوق من قبل دورية البلدية كان من سوء حظ جدوع ان اختار مأمور البلدية إيقاف السيارة بمحاذاة عربته بحيث لم يتركوا له مجالاً للأنسحاب، واحاط به اربعة من شرطة البلدية، أخبرهم انها ستكون المرة الأخيرة ,فقد استأجر محلاً وبصدد استحصال أجازة من الوزارة، وفعلاً استدار ليأتيهم بعقد الأيجار من داخل العربة، وبدا الرجال الأربعة مقتنعين بما قاله جدوع، الى ان نزل مأمور البلدية من السيارة وتغيّر الموقف.

       بادره بوخزة من عصاه وكررها لأكثر من مرّة وهو يصيح في وجهه: الف مرّة قلنالكم ممنوع التواجد في السوق،  ومع كل كلمة كان يدفع العصا أعمق في صدر جدوع  حتّى اضطر الأخير الى أزاحتها عن صدره بقوة ما أدّى الى سقوطها من يد آمر الدورية، الأمر الذي فسره تحدٍ له واستخفافاً بسلطته، فصفع جدوع وصاح برجاله آمراً:  كسروا له العربانة يللا!    

   عندئذٍ لم تعد تجدي نفعاً توسلاته ومحاولات استدرار عطفهم باخبارهم انه يعيل أمه الأرملة وجدّته الضريرة، ولا وعوده لهم انه سيهجر المدينة ولن يروا وجهه ثانيةً.

    تحولت العربة الى حطام وفخذ الخروف المعلّق واسياخ الكباب والكبد اختلطت بالتراب وشظايا الخشب، وانتابت جدوع نوبة صراخ وهو يلطم وجهه في المكان الذي طبع فيه آمر الدورية صفعته، وصدره حيث اثرت فيه وخزة العصا.

: يابويه قتلوني!

   هذه كانت صيحة جدوع التي راح يعيدها مرة تلو اخرى، وفي نوبة خُبال راح يجوس حطام العربة ويلتقط بعض أضلاعها كأنه يحاول تجميع اشلاء قتيلٍ ليعيده الى الحياة، لكن لا! كان يبحث عن شيءٍ آخر، ما أن وقع نظره عليه حتّى التقطه بنخوة من ينقذ غريقاً على الرمق الأخير.

    كان زند خشب بطول ذراع وفي نهايته مارالت بعض المسامير تخبّر عن مواضع اقتلاعها، التفت جدوع مباغتاً بها آمر الدورية بضربةٍ اسقطته أرضاً وراح يكيل له الضربات حتى ارتوت من دمائه اشلاء العربة.

      انتهت القصة هنا، وكان من السهولة بمكان ان تكون  النهاية غير ذلك، هناك العديد من الطرق لفرض النظام وتطبيق القانون دون المساس بكرامة الأنسان، وعندها يسلم رأس آمر الدورية، وجدوع يحوّل عربة المشاوي الى مطعم. ليس بالأمر المستحيل اطلاقاً!

    أنا نفسي ماكنت أُفكّر في كتابة قصةٍ كهذه، ففي عالمنا مايكفي من المآسي، لكن بعد خمسة عشر عاماً من الحادثة،  وجدت نفسي إزاء التزام يمليه عليِّ الضمير، أن أُدون ما صادفته، عندما كنت مارّاً في شارع الرشيد في العاصمة بغداد، فتعثّر ناظري بكتلة بشرية ملتفّة بأسمالها، مطأطأة الرأس بشعر أشيب تمدّ ذراعاً أجرد، وصوت لايخطئ السامع في تمييزه:” ساعدوني يا أخوان، مريض وعاجز، حسنة لله”.    

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *