عَيْش الحياة
د. سَمَر الشامسي
قِيلَ فِي الْأَثَرِ ( نَعْمَل لنعيش لَا نَعيش لنعمل ) جُمْلَة تَفَرَّدَت بِعُمْق الْمَعْنَى ، وَاخْتَصَرْت كُلّ حِيرات الْعُقُول ، وَجُعِلَت الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ هَمّهَا ، وأراحت اانْشِغالَ البالِ وَالْخِلَافَات الاجْتِمَاعِيَّة ، فَكَثِيرٌ مِنَّا يَعِيشُ فِي الْحَيَاةِ جَسَد بِلَا رُوحٍ ، وَالْآخِرِونَ لَا يَعْرِفُونَ لِلْحَيَاة لَوْناً أَوْ طَعْماً أَوْ رَائِحَةً ، فَمَا تَنَازَل قَوْمٍ عَنْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ وتبنوا الْبَسَاطَة إلَّا اِكْتَسَت حَيَاتِهِم بِالسَّعَادَة وَعَمَّتِهَا الْبَهْجَة والفرحة وَأَصْبَح الْجَمِيعِ فِي حُبِّ وَمَوَدَّة .
فَمَا الْحَيَاةُ إلَّا رَحْلِه قَصِيرَة كُلُّنَا يعبرها ، نَبْكِي أحياناً ونضحك أحياناً ونحزن أحياناً ، نَلْتَقِي فِيهَا بأحبتنا ونودع آخَرِين وَقَد تتجمد مَشَاعِرِنَا ، فَلَا يَكُونُ لِصَوْت الْمَشْعَر أيَّ صَدىً ، بَلْ هُنَاكَ أَوْقَات نَشْعُر فِيهَا أَنَّهَا النِّهَايَةِ ثُمَّ نَكْتَشِف أَنَّهَا الْبِدَايَة ، كَمَا نَشْعُر أَنَّ هُنَاكَ أَبْوَاباً مُغْلَقَة ثُمّ نَكْتَشِف أَنَّهَا الْمَدْخَل لِحَيَاة بِشَكْل مُخْتَلَفٌ، فَلَا يغلبنا الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ ، فَيَجِبُ أَنْ نَعيش الْحَيَاة بِكُلّ صنوفها وألونها، لَا يَشْغَلُنَا عَنْهَا الضَّغَائِن وَالْخِلَافَات .
فِي إحْدَى الْبُلْدَانِ كَانَ هُنَاكَ رَجُل أَعْمَال يَجْلِسُ عَلَى شَاطِئ الْبَحِيرَة وَوَجَد صياداً يَصْطَاد فَرَمَى شَبَكَة صَيْدِهِ فِي البُحَيْرَةِ وَأَخْرَج سمكاً كثيراً ، ثُمَّ ذَهَبَ فَأَوْقَفَه رَجُل الْأَعْمَال وَقَالَ لَهُ:
لِما لم تصطد أَكْثَرَ،
فَقَالَ: هَذِهِ حَاجَتِي وَحَاجَة عِيَالِي، ثُمَّ أَعُودُ إلَى بَيْتِي لأطعمهم وَالْعَبّ مَعَهُم وَنَعِيش الْحَيَاة،
فَقَالَ الرَّجُلُ للصياد: لِمَاذَا لَا تصطاد الْمَزِيد وَمِنْ ثَمَّ تَبِيعَه حَتَّى تَكْبُرَ تِجَارَتَك وَتُفْتَح مصنعاً،
فَقَال الصَّيَّاد: وَمَاذَا بَعْدَ ذَلِكَ،
قَالَ: عِنْدَمَا تَكَبَّر تَكُون رَبِحَت الْكَثِير وَمِنْ ثَمَّ تَجْلِسُ عَلَى شَاطِئ الْبَحِيرَة تصطاد للتسلية وتعيش حَيَاتِك
فَأَجَابَه الصَّيَّاد: أوَلست افْعَلْ ذَلِكَ الآن فَلِمَاذَا اِنْهَمَكَ فِي عَمَلِ نَتِيجَتُه نَفْسها.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْقِصَّةِ أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ الْحَيَاةُ وَلَيْسَ الْحَيَاةُ مِنْ أَجْلِ الْعَمَلِ مَا دَامَتْ النَّتِيجَة وَاحِدَة ، فَلَو فَهِمْنَا مَعْنَى الْحَيَاة لِمَا عَاد بَعْضُنَا الْبَعْضِ وَمَا نَشِبَت الْخِلَافَات بَيْنَ النَّاسِ ولذهب جَوّ التَّنَافُس غَيْر المَشْرُوعٌ وَمَا طَمِع أَحَدٌ مِنَّا فِيمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ ، الْحَيَاة قَصِيرَة مَهْمَا طَالَت وَالْكُلّ يَفْنَى كَمَا فَنَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَلَو دَامَت الدُّنْيَا لِمَنْ سَبَقُونَا مَا وَصَلَتْ إلَيْنَا ، عِنْدَمَا يَشْعر الْإِنْسَان بِالضَّيْق يَلْجَأُ إلَى الْبَسَاطَة فِي حَيَاتِهِ لَيَسْتَعِيد رَاحَةً بِآلَة ، فَلِمَاذَا لَم نَتَّخِذ الْبَسَاطَة مَنْهَج حَيَاة كَي ننعم بِالْعَيْش .
فَمَهْمَا بَلَغ انشغالنا فَلَابُدَّ مِنَ خَلْقِ وَقْت لِلْعَيْش وَإِلَّا سنسلم أَنْفُسَنَا للإحباط وَالْيَأْس، فَصَدَق مَنْ قَالَ: إذَا أَرَدْت أَنْ تخطط لِعَام فازرع أرزاً وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تخطط لقرن فازرع شَجَرَة وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تخطط لِحَيَاة كَامِلَة فازرع الْقَيِّم وَعَلَّمَهَا كَي تَعِيش هانئاً سعيداً، وَلَا تَكُنْ كالمجهر الَّذِي يضخم التَّفَاصِيل الصَّغِيرة وَيَكْشِف الْقُبْح وَاعْمَل لِتَعَيُّش وَلَا تَعِش لِتَعْمَل فَهَذَا هُوَ الْحِلُّ الْأَمْثَل كَي تَعِيش الْحَيَاة.