جوزف صقر… المُبدع المنسي

Views: 324

المحامي معوض رياض الحجل

اكتشف زياد الرحباني باكراً في جوزف صقر خامة صوتية مُناسبة تماماً لاداء كلمات أغانيه أكان على خشبة المسرح أو خارجه. فالأول، مولود في بيئة موسيقية أستثنائية، تعجّ بالفن والأبداع والعطاء، قد تميّز مُنذ نعومة أظافرهِ بموهبة كبيرة، تأليفاً وتلحيناً، موسيقياً كان أو مسرحيّاً، إضافة إلى حضورهِ الإعلامي الفريد والمُثير للجدل والأعجاب في آن واحد، في بلدهِ الأم لبنان وفي مُحيطهِ العربي وفي العالم. إلا أنهُ، لم يرث من والدتهِ السيدة فيروز صوتاً جهوراً يؤهلهُ لأداء جميع أغانيه، أو الأضطلاع بأدوار مسرحية غنائية، خصوصاً منها تلك التي تطلبت تقديم ألوان تراثية لبنانية أبداعية. هكذا أستخرجَ الرحباني الأبن من جوزف صقر موهبة فنية فريدة قام بصقلها وتطويرها على مدى خمسة وعشرين عاماً لحين رحيل جوزف صقر الصاعق والمُحزن لكل من أحبهُ وأحب صوتهُ.

شخصيته العفوية

لم يملك الفنان الراحل جوزف صقر (1942 – 1997) طوال مسيرتهِ الفنية صوت السيدة فيروز، أو نصري شمس الدين، أو وديع الصافي، من ناحية الطبقات الصوتية العالية أو الألق النجومي. إلا أنهُ في المُقابل، أمتاز بشخصيتهِ العفوية، التي جعلت من صوتهِ الحنون يسكنُ بطريقة ساحرة قلوب المُستمعين فوراً. التقط رفيق دربهِ الطويل، أي زياد الرحباني تلك الشرارة، وأستثمرها بذكاءٍ باهر، في ظل ظروف أنسانية قاهرة لا تُحتمل، أيام الحرب الداخليّة المشؤومة، التي جعلت من مُجرد تحديد موعد للتمرين، ناهيك عن موعد لحفلٍ غنائي أو عرض مسرحي، في ظل التنقّل تحت تهديد القذائف، وأجتياز السواتر الترابية والحواجز، أمراً فيهِ مُعاناة قاسية ومشقّة كبيرة.

بالرغم من ذلك، لم يستسلم جوزف صقر طوال سني  الحرب بل تابع التنقل ذهاباً وأياباً من دون خوف أو تردد بين قريتهِ الجبيلية قرطبا والعاصمة بيروت. رحلةٌ طويلة وشاقة قد لا يعودُ منها يوماً على قيد الحياة، إن أصابتهُ رصاصة قنّاص، أو أنفجرت عبوة ناسفة، أو إن هو أخُتطف على حاجزٍ نصبهُ أحدهم.

اللبناني المنسي

 ذلك اللبناني المنسي، أستطاع بفضل عفويتهِ وبساطة أداءهِ من لعب العديد من الادوار المسرحية أبرزها: “نخلة التنين” في “سهرية” 1973، “بركات” في ” نزل السرور” 1974، فــ “رامز” في ” بالنسبة لبكرا شو” 1978 . هو نفسهُ “أبو ليلى” في مسرحية “فيلم أميركي طويل” (1980)، الذي أعتاد الحياة في الشقاء، وإذا بهِ يُمضي وقتهُ في سكونيّة “العصفورية” مُجبراً على أجتراع العقاقير الطبية. ثم بدور “المختار” في مسرحية ” شي فاشل ” 1983.

دورٌ مسرحي آخر لافت ومُختلف عن الأدوار السابقة، جسّدهُ الراحل جوزف صقر في بداية تسعينيّات القرن الماضي، شخصية سوداوية وأشد قسوة، تقديماً لنموذج التكيّف في ظل الأزمات الداخلية المُتكررة، حين لعبَ دور الصرّاف البيروتي الفاسد في مسرحية “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” (1993)، التي تطرّقت إلى يوميات الشعب اللبناني ومُعاناتهِ خلال سنوات الاقتتال الداخلي في لبنان وما بعدها.

“تاجر العملة الجشع”

 في هذا السياق، قدّم جوزف صقر شخصية تاجر العملة الجشع، والمُهادن لجميع الفرقاء والمُستغل لكل الأفرقاء دون هوادة، والمُستفيد من مُجمل الوضع السائد من حولهِ لمصلحتهِ المادية الشخصية.

الفنان الراحل جوزف صقر لم يبحث يوماً عن شهرة أو مجد أو ثروة. على عكس العديد من أبناءِ جيلهِ الذين بهرتهم أضواء الشهرة والنجومية. لم تتغير ملامح شخصيتهِ العفوية والمُتواضعة وحضورهِ المسرحي أو الغنائي طوال سني عملهِ مع زياد الرحباني. وقد قالها مرة زياد الرحباني في أحدى المُقابلات أن الراحل جوزف صقر كان عفوياً جداً خلال أداءه على المسرح وقريب من الجمهور.

وعن أثر وفاة الفنان جوزف صقر عليه، قال زياد الرحباني ” أكيد ما في شيء ثاني في الفن أثّر فيّ مثلهِ، هو الشخص الوحيد الذي كنت أتعاون معهُ، بعيداً عن الست فيروز، نظراً إلى أن جزءاً كبيراً من كلمات الأغنيات لم تكن تؤديها السيدة فيروز لاسباب عديدة، وكان جوزف يغنيها”.

“قوم فوت نام”

سرّ أبداع الفنان جوزف صقر هو بقاءهِ فناناً بعيداً عن صفحات المجلات والاضواء والمُقابلات. إذ أنهُ لم يستعمل صوتهُ لأغراض تجارية أو فنية رخيصة. إذ كل الأغاني التي قام بإدائها أما تحاكي الواقع الذي نعيشهُ أو تبعث برسالة ما موجهة إلى الجمهور المُتعطش لسماع شيء جديد مُختلف عما أعتاد سماعهُ. أضف إلى ذلك أنهُ بقي مجهولاً من مُحبيه على صعيد حياتهِ الشخصية، ولكن الاكيد أنهُ لم يمتلك قصرًا أو يختاً أو مزرعة بل عاش حياته في منزل مُتواضع وأسلوب حياة يشبهُ كثيراً عفويتهُ على المسرح.

من جيل لجيل تتردد كلمات أغانيه وأعني بذلك كل أغانيه من دون أستثناء مثل “قوم فوت نام” و”بنت المعاون” و “راجعة باذن الله”… وغيرها.

 لم يبحث جوزف صقر عن فئة مُعينة من الجمهور لارضائها، أي لم يبحث عن أداء أغنية تكون أكثر مبيعاً في السوق أو أستماعاً على الراديو. تميزت أغانيه بالبساطة وأعني بذلك أنها سهلة الحفظ والترداد من أي شخص كبيراً صغيراً أو حتى مُتقدماً في السن.

خسارة كبيرة للفن اللبناني الرحيل المُبكر جداً للفنان المُبدع جوزف صقر الذي مارسَ حياتهُ الفنية والمهنية بصمت وهدوء بعيداً عن الأضواء ورحلَ بهدوء وسكينة تاركاً ارثاً موسيقياً عظيماً للاجيال القادمة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *