سجلوا عندكم

الأمُّ فَتُّ الياقوت

Views: 278

الدكتور جورج شبلي

 

( في عيدِها )

 

في رحلةِ الحياةِ الخاطفة، تخطرُ عينانِ وراءَهما قلب، تَرَيانِ، بلحظات، ما يصعبُ أن يراهُ غيرُهما بِعُمر.

هي الأمّ، أَتقَنَتِ الطّيبةَ وهي رِزقُها، والتي دَفقُها طبيعيٌّ كهَلِّ النّورِ، رَضِيّةٌ الى غيرِ انتهاء، نقيّةٌ الى حدِّ مُداناةِ صفاتِ القداسة، تلامسُ شيئاً من البُعدِ الإلهي الذي لا يُبلَغُ إلّا بزادٍ من الصَّفَوية. هي الوديعة التي عاشَت على عَتِبِ المحبّة، وطرحَت بُذورَها في الأرضِ الطيّبة، فما كان أَسرَعَها في لَمِّ الغَلّة.

حضورُها له غيرُ طَعم، ينفذُ الى القلبِ ويقطرُ منه عطرُ الوَجد، ونداوةُ الحنان، فلستَ تدري أيَّ نَبضٍ في صدرِها لا يهدأُ إلّا على فيضِ العاطفة. 

عندما تئِنُّ الحياةُ من أغلالٍ تقضي على الأمل، ويصبحُ الزّمانُ ترجماناً لمَشاهدِ اندثارِ القِيَم، وتحرسُ الوساوسُ الحقيقة، وتُعلِنُ رسوخَ عصرِ الحَجَر، مَنْ غيرُ الأمِّ همزةُ وَصلٍ بين الشَلّالِ وخَريرِه، بين العَينِ وانتسابِها الى اليقظة، بين التُّقى ومَحاسنِه ؟؟؟ ومهما أغمضَ القَدَرُ عن المسَرّة، وعَظُمَت محنةُ العواصف، وبكى الحلمُ حتى الصّباح، لا يزالُ المُنى يُرزَقُ بتلكَ المرتديةِ ثوباً نُسكيّاً، تقطعُ بالوجدانِ الطريقَ على الأَسى، فالعجائبُ، معها، تحدثُ دوماً.

ما حادَ نَظَرُها عن رقَّةٍ تجوعُ إليها القلوب، هي مؤونةُ عمرِها الباقيةُ على الأيام، لا تَطيبُ نَفْساً إلّا بها، ترسمُها على صفائحِ عينيها تموّجاتِ تأَثُّر، وفي حنايا فؤادِها نُقوشاً سجَّلَ الشَّوقُ معها مُكاتبةً أقامَ له، بها، شعائرَ عبادة.

وحدَها، الأمّ، يُسمَعُ تَهامُسُ خلجاتِها تخدمُ الخيرَ، وهو ركنٌ تَوطَّأَ في كيانِها، جعلَته منارَ اسمِها، ورونقَ طلَّتِها، وحجّةَ محبّتِها، تنثرُ وردَه على الخدود، وَلَو كافأَها الوردُ بِشَوكِهِ، مرّات، فما هَمّ، وكأنّ المكافأةَ بالقبيحِ أَبْرَك. لكنّ التي جُبِلَت بالوَجدِ العَذب، لم تستسلمْ لغيرِ الأَصيلِ في جُبلتِها، لتُعيدَ الى جسدِ النّدى جزءَه المُحيي، وكأنّ الشدَّةَ كُحلٌ ترى به ما لا تراه بالنِّعمة.  

هي المليحةُ الأَطايب، يُنبوعُ النّقاوة، يخرجُ الحبُّ من أنفاسِ قلبِها بأكوابٍ تدورُ على القلوب، ويطفحُ فوقَ لسانِها منثورُ الأقحوانِ، أَنِيقَ الجواهر، فكأنّه مقطوفٌ من فردوسِ الله. أو كأنّها آتيةٌ من إثنَي عَشَرِ البُروج المُماثِلَةِ للكواكب، متَّصلِةً بالعناصرِ الأَزَليّة، مُتَّصِفةً بالأحوالِ والمقامات، وكان منها مقامُ المحبّة، ومقامُ التّضحيةِ، ومقامُ الذّوقِ المُكتَمِل…والتي تناقلَتها الأجيالُ إرثاً ينتمي الى تَركةِ الكِبار.

في تَكايا صوتِها، نغمةٌ عَذوبٌ ترقصُ على إيقاعِها شعائرُ النّبرةِ الإبتهاليّة التي يُشعِرُ صداها وكأنّ جدرانَ المَعابدِ تُردِّدُه، لتَصدقَ الحكمةُ بأنّ الأمَّ تُجسِّدُ فِعلَ المحبّةِ باسمِ الله، لأنّها لُجَّةُ قلبِهِ، بينَنا، ومن سُلالتِهِ، تَشرَعُ إليها الجنّةُ أبوابَها، وكأنّ بينَهما علاقةً فيها شيءٌ من التُّقى، وشيءٌ من الرّوحِ المُلتَهِب، وهكذا، تَنشأُ الصّلاة. 

الأمُّ طَوافُ المحبةِ على العِزّ، وتحفةٌ بهيّةٌ كالعلامةِ تقرعُ بابَ الزّمن، هذا الذي يشتهي أن يُقَبِّلَ الأرضَ بين يديها، ويلويَ عُنقَه خشوعاً، هي التي دفعَت الى إعزازِ الوجود، ورَفعِهِ الى أَشرفِ الدَّرجات، بعدما رُزِقَ بها ظاهرةً أكبرَ من حِملِهِ، فنادى بإِمامتِها. 

يا أمّي، وأنتِ المتفرّدةُ بغاياتِ الحُسن، أنتِ الباقيةُ من مُخَبّآتِ الصّناديقِ المَصونةِ في وجداني، عندما ظَفرتُ بشيمةٍ من رعايتِكِ، استقامَ لي أنسُ الحياة، وتبرَّجتُ بالقِيَم، وتيسَّرِت في دربي مواسمُ النِّعمة. 

يا أمّي، فَرَحي بكِ اتَّكَأَ على نِصالِ الحزنِ بِفَقدِك…  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *