سردية المعنى – ” أرض الزئبق ” لنعيم تلحوق… إعادة تشكيل الكون وفق رؤى ومفاهيم روائية شعرية فلسفية وإنسانية

Views: 884

صدر في بيروت عن دار فواصل كتاب سردية المعنى – ” أرض الزئبق ” لنعيم تلحوق، السردية عبارة عن محاورة ذاتية ونقدية لاستخراج المعنى من الوجود والحياة والإنسان، وفيها مزيج من الفلسفة والفكر والشعر والرواية والخطاب الثقافي -السياسي والعلمي…

 

عُرف أن نعيم تلحوق شاعر له أكثر من عشرة أعمال شعرية ، وقد صُنّف كشاعر له امتداده على مساحة العالم العربي أكثر من أي شيء آخر ، لكن المتابع لأعماله يدرك أن تلحوق أديب متنوّر على مستوى ثقافي عالٍ، ويحظى بشخصية خاصة به تميّزه عن سائر الشعراء والكتّاب اللبنانين والعرب لناحية اللون الذي اختطّه لنفسه ، وهو مزيج بين الصوفية والشعرية الجمالية والفلسفة والحكمة وقصيدة الصورة والمعنى…فتحار من يكون ، هو مجموعة أشخاص في رجل ، فهو من الصامتين حين يكون الصمت كلاماً، ومن المتكلّمين حين يصبح الكلام شعراً وفكراً وفلسفة…وقد جاء بسرديته “أرض الزئبق ” ليضيّف القارئ العربي مفهوماً جديداً للّغة والمعنى، وذلك عبر سياق تأليفي إبداعي للكون وبداياته مع النور الأسمى والنور الأنقى، “الله واللات” في رحلة واحدة، حيث تمكًن في سرديته هذه من تأنيث الوجود بدءًا من جرح العدم الذي هو رحم المرأة حتى دخولنا في عالم اللطيف لنعود ونخرج إلى الكثيف الذي لم يحسن التعامل مع اللطافة، فبدأت أخطاء البشرية تمتد حتى صرنا إلى ما نحن عليه، “ابليس يتكلم والله يصمت” ابليس يكتب والله يمحو ، لأن الله لا يقول ولا يتكلّم مع أحد ، هو يوحي فقط.

وقد ذهب نعيم تلحوق في سرديته للإضاءة على داخلنا بغية كشف أسرار النفس وما يحتوي عليه من شرود ذهني لاستخلاص المعاني، مستعملاً قدرته التخيليّة على فكّ المعادلة الوجودية عبر استخدامه المصطلحات الصوفية والفلسفية والرموز الدينية والظواهر العلمية لاستخراج المكنون منها الى ضمير المعنى.

إلى ذلك ، اعتمد تلحوق على تجربته الذاتية بجرأة متناهية، فكشف الحجاب عن عينيه ليرى، وتمكّن بقدرة فائقة من تحويل المشهد إلى صورة والصورة إلى معنى ، والمعنى إلى خلاصة تعيد خلط الأوراق في أذهاننا لننجو من هذا العالم الكثيف.

فكانت تجاربه مع المرأة هي المعنى الذي أسّس عليه تلحوق سرديته مع معظم النساء اللواتي عرفهنّ في حياته…لهذا جاء أهداؤه السردية “الى أمي اللغة، وأبي المعنى، رواية لن تكتمل فصولاً ” هذا يشير بأن المعنى عند تلحوق لا ينتهي حتى يتجسّد النور الأسمى ويعلن عن نفسه”، فاللغة هي وسيلة المعنى الذي هو الغاية والغاية التي هي بدورها غاية الغايات…

البارز في سردية نعيم تلحوق ” أرض الزئبق “، أنها تدرس إعادة تشكيل الكون وفق رؤى ومفاهيم روائية شعرية فلسفية وإنسانية لا إلهية ، ويدعونا إلى التفكير مرة جديدة لإعادة النظر بما ارتكبنا من أخطاء اعتبرناها صحّاً، وكم من صحيح عرفناه فاكتشفنا أنه من الأخطاء الكبيرة.

على مدار سبعة عشر نصّاً ، تبدأ بـ “ذاكرة التراب” و”الرحلة نحو المجرة” و”سبيل المعنى” مروراً بـ “عبث اللغة” و”طريق التعب” وصولاً إلى “جسد المعنى” وسقوطه وسكونه حتى “المعنى من المعنى” ، يشتاق القارئ إلى متابعة السردية دون ملل أو كلل.

“أرض الزئبق ” صادرة عن دار فواصل في 160 صفحة من القطع الوسط ، خطوط الفنان علي عاصي ، توزيع دار نصوص ومكتبة بيسان ودار الفرات في رأس بيروت-الحمرا.

 

من الكتاب (على الغلاف الخلفي)

لست أدري ما الذي جعلني أتحوّل وأنا على باب الستين من العمر، ربما هذا العمر لا استحقّه عن جدارة…

كان من الضروري أن أغادر مسرح الجريمة الكونية قبل ذلك… وقد وعدني المُجرم الإلهي أنه سيصطادني بكفن يليق بي قبل انكشاف الجريمة…

أحبّ الكتابة، أذهب إلى ما يُشفي غليلي منها، أتعب عنها، أركض بها، أشرب منها، أجامع وحشتها، أدلّل حروفها، وأغني موسيقاها… لست أعرف شيئًا أجمل من الكتابة بالحرف سوى جسد امرأة أكبر من جسمها، وأعلى رتبة من بدنها… جسدها مرآة عقلي، وحركتها منارة روحي، وأفكارها أثمن من شجاعتي، وأعظم من هويتي… امرأة تسوّق عالمها كما مفهومها، كائن افتراضي يحمل تعب المسافة للوصول إلى الصوت…

ثلاثة اشياء تتقدّم بها المرأة: الفكرة، الصورة والضوء… علامات لإيهام الكوكب الذي نحيا فيه أنه موجود حقًا، هي عمل متقدّم على الحريّة، لأنها بنت الكون… هي من اخترع الوجود بِجرح، بتفاحة، بإغواء… ورسمت رجالا كثيرين ليقابلونها…

المرأة كائن افتراضي، لكنّه سرّي… لا يفهمه إلا الذي اخترعه، أما الرجل فهو كائن افتراضي مكشوف، لأنه اختراع المرأة…

بدأ الله بـ “إقرأ وأعاد مسرحة الوجود على شاكلة حروف، ونقاط، وفواصِل، ودوائر… وجعل من المعرفة معبدًا لصلاة العاشقين… المعبد هذا هو النقطة الكبرى التي ترتكز عليها كل الصفات… البداية والنهاية… الأزل والأبد… السرّ السرمد… وترك العالم وهمًا مستطاعًا لبلوغ سرّ الوجود (المعرفة الكبرى) ويقينًا بدأ بنفسه، فأوجد الحرية امرأة تضيءُ كلما ارتعشت… تصرخ كلما بلغت، تمحو بقلبها معالم الفراغ المستحيل، لتُحيله ممكنًا، كلما تمخّض رحمها بالخلاص…

وأنا على باب العمر الذي لا استحقه، لم أتمكّن إلا أن أحب إلا أحدًا يطير بروحي إلى أمكنة لا أفهمها، يسير إلى شطٍ لا أدريه، يفهمني ولا أفهمه… كل ما أعرفه أني لا أعرفه…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *