في مُصطلحات الخطاب الإيديولوجيّ العربيّ المُعاصِر

Views: 163

د. كرم الحلو*

إحدى السمات الأساسيّة للمُجتمع العربيّ المُعاصِر هي تميّزه بالتناقضات الحادّة على المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة كافّة على نحو يُهدِّد الهويّة العربيّة في الصميم، ويدفع في اتّجاه التمزُّق والتشرذُم والحرب الأهليّة. الأمر الذي نبَّه إلى خطورته في رؤية استباقيّة المفكّر الراحل محمّد عابد الجابري في كتابه “المسألة الثقافيّة” في العام 1994، ورأينا نتائجه المريبة في سيرورة الانتفاضات العربيّة ومآلاتها المُربكة في السنوات الماضية.

هذه التناقضات التي بلغت أوجها في نهايات القرن الماضي وفي العقدَين الأوّلَين من هذا القرن، إنّما هي في رأينا النتيجة الحتميّة لخطابنا الإيديولوجي الإشكالي في كلّ أسئلته وقضاياه ومُصطلحاته. من مصطلحات القوميّة والوحدة والدولة، إلى مصطلحات الديمقراطيّة والعلمانيّة والمُجتمع المدني، مروراً بمصطلحات التاريخ والتقدُّم والثورة والإصلاح. فمصطلح القوميّة العربيّة الذي استَنفد حيّزاً واسعاً من الخطاب الإيديولوجي العربي يُعاني من التباسٍ وتناقُضٍ عميقيْن، إن على صعيد الأُسس والمقوّمات، أو لجهة المعوّقات، أو على الصعيد التطبيقي. ثمّة مَن اعتبر “اللغة” العنصر الوحيد الذي يَجمع العرب، وثمّة مَن رأى هذا الجامع في الدّين أو في الاقتصاد أو في الإرادة السياسيّة والمصلحة. كما أنّ ثمّة تناقُضاً كبيراً بين مَن يرى في الدولة القطريّة صنيعة الاستعمار وسايكس بيكو وبين مَن يرى إليها بوصفها مرحلة متقدّمة في تحوُّل العرب إلى نموذج الدولة الوطنيّة الحديث الذي من دونه لا أمل في وحدة عربيّة، وبين مَن يرى أنّ الأمّة العربيّة الواحدة هي الأصل وأنّ التجزئة خلل تاريخي مؤقّت، وبين مَن يرى أنّ وحدة الأمّة العربيّة هي مشروع نضالي مستقبلي.

هناك مَن يتوسَّل وحدة الاقتصادات العربيّة سبيلاً إلى الوحدة العربيّة الشاملة، وهناك مَن يطرح الديكتاتوريّة الوحدويّة الثوريّة وإلغاء الحدود بين الدول العربيّة ولو بالعنف والقوّة، في حين أنّ هناك مَن يرى أن لا وجود للدولة القوميّة من دون “إيديولوجيّة دولويّة” على حدّ تعبير عبد الله العروي، بينما يذهب آخرون إلى أنّ وجود الدولة هو الذي يؤسِّس لقيام هذه الإيديولوجيّة.

وينطبق الالتباس والتناقُض بصدد مصطلح القوميّة على مصطلح الدولة ذاتها. فهل الدولة هي دولة العقد الاجتماعي المُواطني بالمعنى اللّيبرالي أم هي نقيض “الأمميّة البروليتاريّة” والمُرادِف للقهر الطبقي وفق الإيديولوجيا الماركسيّة أم هي نقيض الأمّة الإسلاميّة وفق الإيديولوجيّة الدينيّة أو هي الدولة التسلطيّة التي تنهل شكلها وصورتها من الدولة السلطانيّة المعهودة في تاريخنا العربي.

الدولة إذاً كما القوميّة والوحدة، مصطلحات مُلتبسة وإشكاليّة في الخطاب العربي المُعاصر، ما يستدعي قراءتها من جديد وتحديد مضامينها وغاياتها بعيداً من التأويلات المخلّة، سواء الطوباويّة الرومانسيّة أو الدينيّة أم الطبقيّة.

معنى التاريخ في فكرنا الإيديولوجيّ

وينسحب التباس المُصطلحات واختلاطها وتأويلاتها المُتناقضة على مصطلح “التاريخ”. فما معنى التاريخ في فكرنا الإيديولوجي؟ كيف يتّجه؟ ما هي العوامل الفاعلة فيه؟ هل هي الدّين أو العصبيّة أو الفكر أو صراع الطبقات؟ وهل هو يعمل وفق نظامٍ ذاتي من داخله أم بقوى من خارجه وبنظامٍ مُتعالٍ عليه؟ هل هو خاضع لحتميّاتٍ اقتصاديّة أو سوسيولوجيّة أو جغرافيّة أو ثقافيّة أو ميتافيزيقيّة أم إنّه يخضع للمُفاجأة والمُصادَفة والانقلاب؟ هل هو سكونٌ وتكرارٌ أبديٌّ أم هو تطوُّرٌ وتحوُّلٌ وصيرورة؟ هل هو يجري نحو نهاياتٍ محدَّدة أم يتحكّم به العبث واللّاتوقع؟ هل هو يتكفّل بالقضايا الإيديولوجيّة الكبرى كالاشتراكيّة والوحدة القوميّة والديمقراطيّة أم إنّ هذه رهنٌ بتطلُّعات البشر ونضالاتهم وليس بمشيئة التاريخ؟

وليس التعامُل مع مصطلح “المُجتمع المدني” أقلّ التباساً وتناقُضاً؛ فإذ ذهب التأصيليّون إلى أنّ للمُجتمع المدني دلالاته في تراثنا، إنْ على صعيد القيَم أو على صعيد الخبرة التاريخيّة، وأن لا تناقض بين الاثنَين، أكَّد آخرون جدّة وعدم أصالة فكرة المُجتمع المدني في الحياة العربيّة، وكونها غربيّة وغريبة، وقد تمّ استزراعها في التربة العربيّة، لكنّ القيَم التي تقول بها – العقد الاجتماعي الحرّ بين أفراد أحرار بالاستقلال عن الدولة والقبول بالآخر والمُختلف – تتناقض مع قيَم المُجتمع الأهلي ومعاييره حيث الفرد مُندمج اندماجاً عضويّاً وقسريّاً في الجماعة – القبيلة أو العشيرة أو الطائفة – ولا مُراعاة للمُساواة أو للحريّة الفرديّة. ينطبق ذلك في رأي هؤلاء على مُصطلحَي العلمانيّة والديمقراطيّة، على الرّغم من المُحاولات التأصيليّة المُتواصلة منذ القرن التاسع عشر لتأكيد مُساواة الديمقراطيّة بالشورى، والقول إنّ الإسلام فَصَلَ بين السلطتَيْن الدينيّة والمدنيّة. ففي إصدارات عربيّة راهنة، ثمّة رفْضٌ لتأصيل مبادىء حقوق الإنسان في التراث العربي الإسلامي، كما ثمّة رفض للميثاق العالَمي لحقوق الإنسان باعتباره “عَولمةً مفروضة من قِبَلِ حضارةٍ غربيّة سائدة” وفق راشد الغنوشي، بينما رأى محمّد أركون في المقابل أنّ “حقوق الإنسان” هي من صنْع المُجتمعات الأوروبيّة الحديثة، وأنّ ادّعاء امتلاكها قبل هذه الحداثة مُغالَطةٌ تاريخيّة حقيقيّة وعمليّة تبجيليّة محضة.

ومن أكثر مصطلحات الخطاب العربي المعاصر التباساً وتناقضاً، مصطلح العلمانيّة إذ ثمّة التباسٌ مفهوميٌّ بينها وبين الإلحاد وبينها وبين التغريب. فبينما رأى فيها محمّد عمارة خيانة للحضارة العربيّة، ودعا محمّد عابد الجابري إلى شطب مفهومها من القاموس التداولي العربي واستبداله بمفهومَي الديمقراطيّة والعقلانيّة، رأى أركون إلى العلمانيّة باعتبارها “الموقف الحرّ للروح أمام مشكلة المعرفة”.

وإذ يُطاول التوتُّر الإشكالي مصطلح التراث، و يبدو التراث للجابري وكأنّه المعقل الأخير لمُواجهة إشكالات الحداثة، فيدعو إلى استلهام المنحى الفلسفي لابن رشد باعتباره الأنْسَب والأقْوَم لقبول قضايا الحداثة، مُشترِطاً الامتلاء بالتراث العربي الإسلامي للانفتاح عليها وإمكان تبنّيها أو الاقتباس منها، يذهب علي أومليل إلى أنّه ليس من الموضوعي ولا التاريخي ردّ المُصطلحات الحديثة إلى التراث، إذ ثمّة اختلافات جوهريّة بينها وبينه، فلا أحد يستطيع أن يُثبت أنّ الحريّات السياسيّة والمدنيّة قد أُقرَّت في يومٍ من أيّام تاريخنا قانوناً ومُمارَسة، ولم يتردَّد عبد الله العروي في القول بالقطيعة مع التراث، قطيعة أحدثها التاريخ والزمن، ولم يبقَ أمام العقل العربي إلّا أن يعي بها ويأخذ بالمفهوم الحديث، سليل الحضارة الغربيّة ومخاضها التاريخي باعتبارها “المتاح للبشريّة جمعاء”.

ومن المصطلحات الأكثر التباساً وتناقضاً، مصطلح الغرب، فثمّة تناقُض جذري بين أن يكون الغرب هو النموذج الذي يجب اقتفاؤه في كلّ شيء على ما رأى طه حسين بقوله: “يجب أن نُصبح أوروبيّين في كلّ شيء” وبين أن يكون الغرب جاهليّة لم تُثمر سوى الحروب الكونيّة والتمييز العنصري والنازيّة وتدمير البيئة والانحلال الأخلاقي على ما زَعَمَ محمّد عمارة.

في مأزقنا الحضاريّ

وفي مُراجعة مصطلحات خطابنا الإيديولوجي المُلتبسة يَبرز مصطلح “الحداثة” وكأنّه المصطلح الجامع بما يعنيه من قيَم ومبادىء سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة ومن مظاهر ماديّة عمرانيّة وتقنيّة. التبسَ هذا المصطلح في فكر النهضويّين حتّى خال أكثرهم أنّ في الإمكان استقدام إنجازات الحداثة منزوعة من عقلها الحداثي. ولا يزال هذا الإشكال قائماً حيث اعترف أحد أكبر دُعاة الحداثة العربيّة المفكّر الراحل محمّد سبيلا في آخر إصداراته بأنّه “من العسير كلّ العسر تحديد معنى الحداثة” وينسحب ذلك، في رأيه، على كلّ مكوّناتها. فـ “العقلانيّة” مصطلح مُلتبس بين عقلانيّة الفقهاء والمتكلّمين الذين سخَّروا العقل لخدمة الإيديولوجيا الدينيّة وبين الحداثيّين الذين اعتبروا العقل المرجعيّة الأولى والأخيرة. ومصطلح “الآخر” الذي يتكرّر في خطابنا الإيديولوجي مُلتبسٌ كذلك بين الآخر المُختلف والندّ، وبين الآخر الضدّ والخَصم. حتّى أنّ مصطلح “الإنسان” ذاته متناقض بين الإنسان بالمنظور الديني والإنسان من منظور الميتافيزيقا الكلاسيكيّة، والإنسان من المنظور التنويري. وتبعاً لذلك تأسَّس التباسُ مفهوم “حقوق الإنسان” بين حقوقه أمام الله، وحقوقه “الطبيعيّة” التي هي معطى طبيعي وأوّلي بالمعنى اللّيبرالي.

كذلك ثمّة اختلاط في خطابنا الإيديولوجي الحديث والمُعاصر بين مصطلح الثورة وبين مصطلحات التمرُّد والعصيان والفِتنة. فعلى الرّغم من إعجابهم الشديد بثورة 1789 الفرنسيّة، وَقَفَ النهضويّون الأوائل موقفاً شاجباً لما رافقها من عنف وسفك دماء، فوَصَفَها حيدر الشهابي بـ “البلبلة العظيمة”، ونَظَرَ إليها أحمد فارس الشدياق وفرنسيس المرّاش باعتبارها “فتنة”، كما اعتبرا كومونة باريس 1871 “فتنة كبرى”، ووصف أديب إسحق الثورة بـ “الدواء الذي كان هو الداء”.

يبقى مصطلح “التقدُّم” مَوضع لبس وتناقض، فالإصلاح عند السلفيّين لم يعْنِ ما عناه في خطاب التنوير من تغييرٍ جذريّ في النظر إلى الإنسان والمُجتمع والكَون، بل باستحضار الماضي ومقولاته بناءً على مقولة “لايصلح آخر الأمّة إلّا بما صلح به أوّلها”، وهكذا يغدو التقدُّم ارتكاساً إلى الوراء وليس تطلّعاً إلى الجديد واستشراف المستقبل.

آية هذه التناقضات كلّها في رأينا أنّنا نُواجه مأزقاً حضاريّاً عميقاً، وما زلنا نترنّح بين التقليد والحداثة، بين الانتماء إلى الماضي والتطلُّع إلى مستقبلٍ غير واضح المَعالِم، فلم نحسم بعد أيّة إشكاليّة من الإشكاليّات التي تُربِك حضارتنا المُعاصرة، الأمر الذي تجلّى في التباس مصطلحات خطابنا الإيديولوجي واختلاطها وتناقضاتها.

***

*كاتب من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *