أحد الشّعانين… يوم الصّغار، يوم براءة الأطفال
عايدة قزحيّا
كنت أنتظر “عيد الشّعنينة” من العام إلى العام بفارغ الصّبر، كيف لا وهذا اليوم مميّز جدًّا، لأنّ الأهل فيه يشرّعون لنا نحن الصّغار ما كانوا يُحَرِّمونَهُ علينا باقي الأيام.
وكنتُ أنا ممّن يهوى اللّون الأحمر، حيث أضع الحمرة “فوق شفاهي”، حتّى إذا خفّتْ حدّة لونها أُسْرعتُ إلى تجديدها حتّى انتهاء النّهار موعد العودة إلى ما كنّا عليه سابقًا من النّظام والطّاعة.
وكنتُ أيضًا أطلي خدَّيَّ بالحمرة لدرجة أنَّ أمّي كانت تبادر إلى لمس جبيني ظنًّا منها أنّه ربّما يكون هذا الاحمرار دلالة على حرارة مرتفعة من جرّاء عينٍ أصابتني لجمالي المميّز من وجهة نظر الأمّ لولدها (القرد بعين أمّه غزال). إضافة إلى تزيين أذنيَّ بأقراط ملوّنة ووضع عقد في عنقي نسِيَتهُ أمّي في خزانتها كما نسيَتْ نفسَها وشبابَها معه. ولا أنسى عقدة الشّعر المصنوعة يدويًّا من بقايا قماش الفستان الّذي كانت الخيّاطة تفصّله لي لهذه المناسبة مع جزدان من القماش نفسه.
وأجمل ما في هذا العيد هو الاستعداد المسبق له، حيث كنّا نلجأ إلى ارتداء ثيابنا الجديدة كلّ يوم ونتبختر بها أمام المرآة، وننتعل الحذاء ونمشي به على رؤوس أصابعنا كي لا يُجرحَ أو يُهان، ثمّ نعيده إلى علبته بأمان، تلك العلبة الّتي كنّا نتأبطها فرحين ونحن نرافق أمّي عائدين من السّوق بعد عمليّة الشّراء، والشّعور بالملكيّة، وكانت آخر ما يقع عليه نظرنا قبل خلودنا إلى النّوم، كيف لا وقد وضعها كلّ منّا إمّا بجانبه، وإمّا تحت سريره.
وكان هذا الأمر يتكرّر كلّ يوم حتّى صبيحة العيد، وهو اليوم الوحيد طوال السّنة الّذي لا نسمع فيه صوت أمّي وهي تنادينا وتدعونا للاستيقاظ، لأنّنا كنّا نسبقها، وربّما لا تغمض أجفاننا طوال اللّيل إلّا قليلًا.
الكلّ منهمك في تحضير نفسه وأمّي تساعد هذا وذاك وتهتمّ بأناقة مظهرنا أيّ اهتمام.
أمّا الشّمعة فكانت أمّي تحرص على تزيينها بنفسها كي لا تتعرّض للكسر، فتتفنّن في توزيع الورود من كلّ الألوان دون أنْ تنسى غصن الزّيتون رمز المحبّة والسّلام. وما أنْ نُنهي ذلك حتّى نسمع في الخارج أصوات أولاد الحيّ وقد سبقونا وارتدَوا ملابسهم الجديدة لهذه المناسبة، وحملوا شموعهم المزيّنة بالأزهار والشّرائط الملوّنة، ترافقهم أمهاتهم، وهم ينادوننا: ” هيّا أسرعوا نحن بانتظاركم في الخارج”
ما أروع تلك المناسبة المتكرّرة كلّ عام حتى ما يقارب سنّ العاشرة من عمرنا!
…ولكنّ الولد الأصغر سواء أكان صبيًّا أو بنتًا كانت تطول طفولته وتُمدّد حتّى سنّ المراهقة وربّما أكثر، وقد كان لي من ذلك النّصيب الأوفر والحظّ الأكبر حيث كنت صغرى العائلة (قريد العشّ) فكان يُحلَّلُ لي ما كان يُحرَّمُ على أخوتي وأخواتي من التزامات وواجبات، وكلّ شيء تقريبًا مسموح به ومسامَحَة عليه باعتبار قول الأهل للأبناء الأكبر سنًّا: “أنتَ أو أنتِ أكبر وتفهم أو تفهمين أكثر”، وأنا أتدلّل، وقد أسعفني بذلك قوامي الرّشيق جدًّا وبنيتي الضّعيفة، ممّا أدّى إلى منحي حصانة كبرى لم ينلها سوايَ من أفراد العائلة الّذين كانوا يخضعون لقوانين صارمة جدًّا لا سيّما وأنَّ والدي كان رقيبًا في الجيش، بينما كان “قائدًا عسكريًّا” في المنزل حتّى لتخال البيت ثكنة عسكريّة يمارس صلاحيّة قيادته مع أبنائه كأنّهم جنود.
وبالعودة إلى أحد الشّعانين، فإنّ ما كان يحزّ في نفسي هو انتهاء أفراح هذا العيد في اليوم الثّاني وكأنّ شيئًا لم يكن، وعدم رؤية رفاق مدرستي _الّتي كانت في المدينة _ جمال فستاني ذي “الكشاكش” الّتي كانت الخيّاطة تحرص على تكثيفها إذ كانت ترى في كثرة تعاقبها وتكدّسها فوق بعضها البعض أحد مقوّمات جمال الثّوب الطّفوليّ، فكان يعزّ عليّ أنْ يوضع في درج الخزانة حتّى الأسبوع المقبل وهو العيد الكبير، حيث لا يلتفت فيه الكبار إلى الصّغار كعيد الشّعانين لأنّ هذا العيد هو لهم فقط، والويل لأيّ ولد يتحرّك داخل الكنيسة، أو يعلو صوته، أو لطفل رضيع أنْ يبكي، فيجب حينذاك أنْ تسرع الأمّ به إلى الخارج كي تُسكتَهُ وتمنع إزعاج صراخه عن آذان المصلّين وانسجام المؤمنين، واحترامًا لطقوس الدّين.
ما أروعك أحد الشّعانين!
إنّه يوم الصّغار، يوم براءة الأطفال.
وأجمل ما بقي في ذاكرتي من رموز هذا العيد هو قول السّيّد المسيح: “دعوا الأطفال يأتون إليّ، فإنّ لمثل هؤلاء ملكوت السّمٰوات” و “إنْ لم تعودوا أطفالًا مثل هؤلاء فلن تدخلوا ملكوت السّمٰوات”
وعندما بدأ الكبار لعبة الحرب الأهليّة عرفتُ أنّ أولاد الحيّ” محمّد” و”محمود” و”فاطمة” و”آمنة” و”علي” و”حسن” و”ابراهيم” و” خديجة” و”قاسم” و “رياض” و” خالد” الّذين كانوا ينتظرونني وينافسونني بطول شمعاتهم وجمال ثيابهم لنترافق سويًّا إلى الكنيسة كانوا من المسلمين والدّروز الّذين نشأنا وعشنا سويًّا، وكنّا في أثناء لعبنا نقسم ب “الله” لنؤكّد صدقنا أو ننفي كذبنا.
غريب هذا الأمر!
أوَ يكونُ للصّغار إلهٌ مختلف عن إله الكبار؟!
شعنينة مباركة…