الآباء والأبناء بين “القتل” و”الإحياء”

Views: 475

 سلمان زين الدين

   لطالما شكّلت العلاقة بين الآباء والأبناء أحد شواغل الأدب، ببعديه الأسطوري والواقعي، عبر التاريخ، فَنُسِجَتْ حولها الأساطير وَوُضِعَتْ فيها الروايات، وتحرّكت على منحنى بياني، يُشكّل “القتل”، بالمعنى المجازي، أحد حدّيه، بينما يُشكّل “الإحياء”، بالمعنى نفسه، الحدّ الآخر. 

  في الأسطورة الإغريقية، حين يسأل لايوس، ملك طيبة المتزوّج من جوكاست، العرّاف عن سبب تأخره في إنجاب ابن يرثه في الحكم، ينبئه أنه، وبسبب خطيئة ارتكبها، سيرزق بولد يعيش ويكبر حتى يقتله ويتزوّج من أمّه، حتى إذا ما حصل ذلك، يقوم الوالدان بربط الطفل من قدميه وإعطائه للخادم ليلقيه في جبل “كثيرون”، لكن الأخير يشفق عليه ويسلّمه إلى راعٍ يعطيه إلى ملك كورنثة، فيتّخذه ولداً له، ويطلق عليه اسم أوديب. 

 

  عقدة أوديب

   وحين يكبر أوديب ويعلم بنبوءة العرّاف، يفرّ من بلدته، فيلتقي بأبيه “لايوس” في الطريق، وهو لا يعرفه، يتشاجران ويقوم بقتله، حتى إذا ما بلغ طيبة، وأسدى صنيعاً كبيراً لأهلها، يكافئونه بتزويجه من ملكة بلادهم “جوكاست”، فيعيش معها حياة هانئة وينجب منها أربعة أبناء. وإذ يجتاح المدينة وباء يكاد يأتي على أهلها، ويهرع بعضهم إلى العرّافين، يخبرونهم أن ملكهم هو السبب، لأنه تزوّج من أمه بعد  قتل والده، تقتل جوكاست نفسها، ويفقأ أوديب عينيه. وتتحقّق نبوءة العرّاف. من هذه الأسطورة يستنبط عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد “عقدة أوديب”، وهي عقدة نفسية تصيب الذكر، وتجعله يتعلّق بأمّه ويكره أباه الذي يشاركه فيها. ومن هنا، جاءت مقولة “قتل الأب”، بالمعنى النفسي للكلمة، لفكّ هذه العقدة. 

 

 قتل الأب

  لم تقتصر مقولة “قتل الأب” على علم النفس بل تعدّته إلى حقول معرفية أخرى، وفي طليعتها الأدب. وإذا كان قتل الأب في التحليل النفسي يعبّر عن رغبة الذكر المصاب بعقدة أوديب في إزاحة الأب من حلبة المنافسة بقتله والاستئثار بالأم، فإن قتل الأب في الأدب يعبّر عن الرغبة في التحرّر من سطوته والتمرّد عليه وتجاوزه، لا سيّما أن البقاء تحت عباءة الأب الأدبي يجعل الأديب يتردّى في التقليد، ويقتل الإبداع. وبهذا المعنى، يتحوّل قتل الأب إلى سبب للحياة، ويغدو شرطاً لازباً لعملية الإبداع. 

 

  الآباء والبنون

  وبعيداً من هذه المقولة وتمظهراتها في الحقول المعرفية المختلفة، كثيرة هي الأعمال الأدبية التي تتناول العلاقة بين الآباء والأبناء، في تموضعها بين حدّي “القتل” و”الإحياء”. وحسبنا أن نذكر، في هذا السياق، رواية “الآباء والبنون” الصادرة في العام 1862 للكاتب الروسي إيفان تورغينيف، ومسرحية “الآباء والبنون” الصادرة في العام 1917 للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة، ورواية “الأب” الصادرة في العام 1989 للكاتبة الأميركية دانيال ستيل، ورواية “الأب” الصادرة في العام 1998 للكاتب السويسري يورج أكلين، ورواية “غرفة أبي” الصادرة في العام 2013 للشاعر اللبناني عبده وازن، على سبيل المثال لا الحصر. 

 

  إحياء الأب

   إذا كان قتل الأب، بالمعنى النفسي، للحلول مكانه، وقتله، بالمعنى الأدبي، لتجاوزه وتخطيه، هو الحد الأقصى الأوّل للعلاقة بين الآباء والأبناء، فإن إحياء الأب بعد موته البيولوجي، بالمعنى المجازي للكلمة، هو الحد الأقصى الثاني. وعلى المنحنى البياني بين الحدّين، تتحرك العلاقة بين الطرفين. وقد أُتيح لنا، في الآونة الأخيرة، الاطلاع على مبادرات جميلة، قام بها أبناء أدباء وشعراء رحلوا، فأعادوهم إلى الحياة، ولو إلى حين. وإذا كان الآباء الأدباء والشعراء كسائر الآباء يحيون في أبنائهم من خلال الجينات التي ينقلونها إليهم، فإنه، من نافل القول، إنهم يحيون أيضاً في الآثار الأدبية التي يتركونها بعد رحيلهم. وحين يقوم الأبناء بإعادة إصدار تلك الآثار فهم يخلّدون آباءهم مرّتين؛ الأولى من خلال جيناتهم التي يحملونها، والثانية من خلال الآثار التي يصدرونها. وبين ظهرانينا أكثر من مثلٍ ومثال. نعرض بعضها وفق تاريخ الوفاة.

 

 مبادرات جميلة

– في العام 2001، أصدر المحامي وليد سليمان، نجل فؤاد سليمان (1912- 1951)، الأعمال الأدبية الكاملة لوالده في تسع كتب مجلّدة، بمناسبة مرور نصف قرن على رحيله. وفي العام 2020، قام بتعبيد درب القمر المستوحى اسمها من عنوان أحد كتبه وحفر على صخورها مقتطفات من أقواله، وكان خير خلف لخير سلف.

– في العام 2014، أصدر المحامي سعيد نخلة، نجل أمين نخلة (1901- 1976)، الأعمال الأدبية الكاملة لوالده في ستة مجلّدات، بعد ثمانية وثلاثين عاماً على رحيله، وجرى إطلاقها في ندوة عنه عُقِدت في دار الندوة في بيروت في العام نفسه، وكان أميناً على إرث أبيه.

– في العام 1994، أصدرت الدكتورة بيان نويهض الحوت مذكرات والدها العلامة عجاج نويهض (1897- 1982)، بعد اثني عشر عاماً على رحيله، بعنوان “ستون عاماً مع القافلة العربي”، وكان قد أملاها عليها قبل سنتين من هذا الرحيل. وفي العام 2022 الجاري، أصدرت له “أحاديث ومراسلات عجاج نويهض – الحركة العربية (1905- 1933)”، وهي تعكف على إصدار كتابه الآخر “رجال من فلسطين كما عرفتهم”. وبذلك، تثبت أنّها سرّ أبيها. وفي العام 2012، أصدرت الأعمال الروائية لأمّها أم خلدون جمال سليم نويهض (1907- 1994)، وأطلقتها في ندوة عُقِدت في دار الندوة في بيروت بتاريخ 21 / 3 / 2012، وكنت أحد المشاركين فيها. وفي العام 2021، أصدرت الأعمال الشعرية لأمّها بعنوان “زيزفونة الدرب”، وكان لي فرصة كتابة مقدّمتها، وقلت في المقدّمة، كما في الندوة، إن “من كانت لها ابنة كبيان فلن تموت أبداً”.   

– في العام 2001، وإثر إدخال سعيد فياض (1921- 2003) مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، بعد إصابته بالتهاب رئوي، ودخوله في غيبوبة بتاريخ 27  / 3 / 2000، استمرّت ثلاث سنوات وسبعة أشهر، حتى تاريخ وفاته في 15 / 10 / 2003، قامت ابنته الدكتورة دنيا بإصدار مختارات من أعماله الشعرية. وفي 15 / 10 / 2004، في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، أطلقت “جائزة سعيد فياض للإبداع الشعري”، وتوّلت تمويلها مع شقيقاتها دعد ودلال وغادة، ومُنِحَتْ في دورتها الأولى للشاعر الراحل علي هاشم، ومن المصادفات الجميلة أنه كان لي حظّ الحصول عليها، في دورتها الثانية عشرة، في 15 / 10 / 2016، عن مجموعتي الشعرية “دروب”. واليوم تحوّلت الجائزة إلى منحة جامعية تُعطى لمن يكتب أفضل دراسة في الأدب العربي من طلاب وطالبات الجامعة الأميركية في بيروت. وبذلك، تثبت الدكتورة دنيا فياض وشقيقاتها أنّه سرّ أبيهن والمؤتمنات على إرثه الشعري، وأن تخليد الآباء ليس حكراً على الذكور من الأبناء فالإناث منهم قادرات على ذلك بامتياز.   

– في العام 2018، أصدر الموسيقي نشأت سلمان، نجل أنور سلمان (1938- 2016)، الأعمال الشعرية الكاملة لوالده، وجرى إطلاقها في فندق Four Seasons في بيروت، بالتزامن مع الإعلان عن جائزة سنوية تحمل اسمه، وهو ما حصل بالفعل، وقد مُنِحت الجائزة، في دورتها الأولى، للشاعر الفلسطيني غسان زقطان عن فئة الشعر العربي وللمؤلفين الموسيقيين غدي وأسامة الرحباني عن الأعمال الشعرية المتكاملة مع أعمال موسيقية، وجرى حفل التسليم في الجامعة الأميركية في بيروت في 29 حزيران 2019، بالتزامن مع الأعلان عن جائزة طالبية تمنح للطالب الذي يقوم بأفضل بحث متعلق بالشعر. وفي 20 نيسان 2017، بالتزامن مع الذكرى الثانية لرحيله، جرى تدشين حديقة على اسمه في بلدته الرملية من قضاء عاليه. وبذلك، يثبت نشأت أنه سرّ أبيه وخير أمين على إرثه الشعري.

وهكذا، تتراوح المبادرات الجميلة بين: إصدار أعمال الكاتب، وعقد ندوة حوله، وإطلاق جائزة باسمه، وتدشين حديقة له. وهي، إن دلّت على شيء، إنما تدل على وفاء الأبناء للآباء، وحرصهم على منحهم أعماراً أخرى بعد رحيلهم. وهو ما يستحق كل التقدير. في المأثورات الشعبية دعاء أطلقه بعضهم لرجلٍ قام برفع غبن لحق بأبيه بعد موته وتجشّم في سبيل ذلك مشاقّ جمّة، ونصّه “رحم الله الخلف الذي أحيا السلف”، وهو ما يستحقه أصحاب المبادرات الجميلة آنفة الذكر بامتياز. وتبقى العلاقة بين الآباء والأبناء تترجّح بين حدّي “القتل” و”الإحياء” إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

***

* جريدة القدس العربي، في 12 / 4 / 2022.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *