سعيد الأفغاني والثقافة اللّغويّة العربيّة

Views: 158

د. أحمد حلواني*

مع بحثي الدائم عن مكانة المعرفة اللّغويّة ودورها في استخلاص خصائص القيَم الاجتماعيّة والأخلاقيّة، إضافة إلى التقاليد والأعراف الشائعة بين أصحاب اللّغة ومُتحدّثيها، وتشكيل الهويّة الثقافيّة للمُجتمع، أودّ التوقُّف عند أحد أعلام حاملي لواء العربيّة وأساتذتها وهو العلّامة السوريّ الشهير سعيد الأفغاني. وحين بدأتُ بتجميع أوراق المَراجع اللّازمة للكتابة عن هذا العالِم اللّغويّ ، لم يخطر ببالي أصوله الأفغانيّة؛ فقد عرفته أستاذاً للّغة العربيّة ومؤسِّساً لقسم اللّغة العربيّة في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة دمشق، ورئيساً للقسم عَينه فيها، ثمّ عميداً للكليّة وأستاذاً في جامعات عربيّة عديدة.

أمّا أصوله الأفغانيّة، فهي أمرٌ معتاد في دمشق الشام التي اشتهرت باستقبالها اللّاجئين إليها والقاصدين للإقامة الدائمة فيها كونها “شام شريف”. وسُمّيت بعض أحيائها بأسمائهم. فحيّ الصالحيّة يُنسَب إلى أهالي القدس الذين هاجروا إليها أثناء الاحتلال الصليبي، وحيّ المُهاجرين سمُّي نسبةً إلى مَن هاجر إليها وسكنَ خارج السور من الألبان والكريتيّين (جزيرة كريت) والبشناق من سكّان البوسنة والهرسك والشركس والصقلّيّين (جزيرة صقليّة) إضافة إلى الأتراك العثمانيّين الذين فضّلوا البقاء في دمشق، والأكراد من جنود صلاح الدّين الأيّوبي الذين سكنوا حيّ ركن الدّين (حيّ الأكراد). وهذا من دون أن نتجاوز هجرة الأخوة المَغاربة من شمال أفريقيا، من مصر إلى شنقيط (وهو ما يحتاج إلى بحثٍ خاصّ عن تشكيل المكوّنات السوريّة).

وبالعودة للحديث عن سعيد الأفغاني الذي أكَّد في أبحاثه ومَناهجه أنّ المعرفة اللّغويّة هي عِلمٌ واسعٌ له مَناهجه الحديثة، فهي ليست وعظاً أو تلقيناً في المدارس أو تعليماً ببّغاويّاً، فقد قدَّم في مؤلّفاته ودروسه بتذوُّقٍ دقيق وحسٍّ شعري وبطريقة علميّة وتربويّة مع اختيارات واضحة وموثّقة، من دون كللٍ أو مللٍ طيلة حياته، ما يؤكّد أهميّة المعرفة اللّغويّة وتسهيل استعمالها وقابليّتها لاستقبال الحديث من المُصطلحات والمُعاصَرة.

وُلد سعيد الأفغاني في العام 1909 في حيّ العمارة الجوّانيّة في دمشق القديمة من أبٍ هاجَرَ من كشمير، وهو في العشرين من عمره، ولم يكُن يُحسن العربيّة في صغره، لكنّه تعلّمها وصارَ مرجعاً فيها كما يذكر الأستاذ علي الطنطاوي.

تفتّحت عيون سعيد الأفغاني على الكتاتيب المُنتشِرة في محيط الجامع الأموي في دمشق ودَرَسَ في مدرسة الإسعاف الخيري وتابَعَ دراسته في مكتب عنبر وبعد تخرُّجه من دار المعلّمين التحقَ بمدرسة الآداب العليا في (الجامعة السوريّة آنذاك) وكان مديرها الأستاذ الشاعر شفيق جبري؛ ثمّ بعد تخرّجه وبسبب تفوّقه عُيِّن أستاذاً مساعداً في كليّة الآداب بعد تحوّلها من مدرسة الآداب العليا إلى كليّة. ثمّ أوفد إلى القاهرة لتحضير درجة الدكتوراه ونجح في امتحانات اللّغة التركيّة والفارسيّة والإنكليزيّة كشرطٍ لتسجيله في مرحلة الدكتوراه، لكنّ ظروفاً طارئة اضطرّته للعودة إلى الشام قبل تقديم رسالته، حيث تابع التدريس في قسم اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة دمشق، والتي استمرّت إلى 31/12/1968، وقد أُوفِد خلالها إلى غالبيّة الدول العربيّة أستاذاً في جامعاتها ومُشارِكاً في مؤتمراتها وندواتها اللّغويّة. كما أُوفِد إلى كلٍّ من إسبانيا وفرنسا وبريطانيا للاطّلاع على معاهد الاستشراق فيها، فضلاً عن تلبية دعوة من رئيس جامعة طهران، اطَّلع خلالها على الدراسات العربيّة والإسلاميّة في الجامعة وعلى خزائن المخطوطات العربيّة هناك. كما كلّفه معهد الدراسات العربيّة العالية في جامعة الدول العربيّة بإلقاء محاضرات كأستاذٍ زائر في العام 1962 وقد أصدرها في كِتابٍ بعنوان “حاضر اللّغة العربيّة في بلاد الشام“.

انتُخب عضواً مُراسلاً في “مجمع اللّغة العربيّة” في القاهرة خلفاً للدكتور حسني سبح الرئيس السابق لـ”مجمع اللّغة العربيّة” في دمشق، وذلك في العام 1970.

ولقد ألقى د. شوقي ضيف كلمة مجمع القاهرة في استقباله، تحدّث فيها عن تاريخ الأستاذ الأفغاني وجهوده في تدريس اللّغة العربيّة وعلومها ومكانته الكبيرة.. من حيث اهتمامه بطَلَبَتِه وتشجيعه لهم على الإبداع والتخصُّص الدقيق.

اهتمّ الأفغاني بمفهوم التجديد في اللّغة العربيّة، حيث إنّ التجديد مظهر من مظاهر نزوع الإنسان نحو الأفضل، وهو مَيل حيوي إلى التخلّص من الركود والجمود؛ والمعروف أنّ كثيراً من ألفاظ اللّغة تنشط مع الإنسان وتُواكِب حركته في الحياة العامّة وتغتني باغتناء تجربته، وهو ما اهتمّ به سعيد الأفغاني في مؤلّفاته وأبحاثه ودروسه، بحيث حلّل أسباب عدم تطوُّر الحركة والنماء في بعض الألفاظ، وقدّم أمثلة كثيرة عن تطوُّر ألفاظ أخرى ودلالات استخدامها من جديد.

إنّ ما رسّخه الأفغاني في تدريسه في قسم اللّغة العربيّة في جامعة دمشق والجامعات العربيّة الأخرى التي عمل فيها سواء في الجامعة اللّبنانيّة أم بيروت العربيّة أم الأردنيّة أم اللّيبيّة أم الجزائريّة، أو المعهد العالي لجامعة الدول العربيّة، كانت له أهمّيته الكبيرة في توسيع آفاق المعرفة اللّغويّة التي تفتح المجال واسعاً ووثائقيّاً لمعرفة خصائص القيَم الاجتماعيّة والأخلاقيّة وطبيعة العادات والأعراف والتقاليد التي شاعت بين متحدّثي العربيّة، الأمر الذي حقَّق توسُّعاً كبيراً في حقول هذه الدراسات عبر مناهج ورسائل بحثيّة عميقة وجديدة في رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه، واجدين في العربيّة البُغية الصالحة لترجمة مُصطلحات العلوم الحديثة عبر الاستعارة والاشتقاق والتوليد والمجاز والتعريب والسعة البلاغيّة، إضافة إلى القواعد النحويّة.

لقد فسَّر لطلّابه كلّ خاصيّة من خواصّ اللّغة مع الأمثلة الحيّة وعبر مُشارَكة الطلبة لبلْورة حالة من الحيويّة الفكريّة والجدليّة معهم.

ومن الأمثلة التي عَرَضَها في إطار تحذيره العُلماء من الزلَل من منطلق أنّ “زلّة العالِم تُفضي إلى زلّة المُجتمع”، قوله: “وأوّل ما يتبادر إلى الذهن في هذا الباب كلمة أخصّائي بمعنى “اختصاصي” وهي مثار لَغَطٍ بين الحين والحين”. مُعيداً مَولد هذه الزلّة إلى المئة السابعة الواردة في معجم “الصباب” للضعاني شارحاً أنّ هذه الكلمة نجدها في مادّة “خصّه” كما تَرِدُ في المعجمات بمعنى خصّه بالشيء وخصّصه واختصّه، أي أَفرده به من دون غيره، مُضيفاً اختصّ فلان بالأمر وتخصَّص له إذا انفرد به، فالكلمة إذن (خصّ إخصاصاً) لا (أخصّ إخصاء) وعلى هذا فالكلمات (اختصاصي ومختصّ ومتخصّص واختصاصي) كلّ ذلك صحيح فصيح أمّا “أخصّائي” فخطأ.

لقد أكّد الأفغاني، إضافةً إلى ما ذكرنا، على سلامة اللّغة والدفاع عنها والعدالة في الأحكام، على الرّغم من حزمه وصرامته التي عُرف بها، فقد اشتُهر بعدالته في أحكامه وتسامحه في ما لا يقدح في دين أو ينتقصُ من لغة.

وقد تحدّث في هذا الأمر عن الشاعر حافظ إبراهيم ود. طه حسين في تراجعهما عن آراء سابقة لهما. كما حرص على كلفه بمُجتمعه وهمومه وفي حرصه على الوقت ومناوأته لأعداء الأمّة من استعماريّين وصهاينة، إضافة إلى جرأته في الحقّ الصادح به والصدّاح فيه لا يخشى لَومةَ لائم.

وأخيراً لا بدّ من الوقوف عند وافره في التأليف والتحقيق. أمّا التأليف فله فيه: “حاضر اللّغة العربيّة في الشام“، “نظرات في اللّغة عند ابن حزم“، ” مذكّرات في قواعد اللّغة العربيّة“، “في أصول النحو“، “الموجز في قواعد اللّغة العربيّة وشواهدها“، “من تاريخ النحو“.

وهي ستّة كُتب قيّمة في اللّغة والنحو، وبجانبها مؤلّفات مثل: “أسواق العرب في الجاهليّة والإسلام“، “ابن حزم الأندلسي“، “الإسلام والمرأة“، “السيّدة عائشة والسياسة“.

وله في التحقيق: “الإجابة لما استدركته السيّدة عائشة على الصحابة” للزركشي، “المُفاضلة بين الصحابة” لابن حزم، جزء من “سيَر النبلاء” خاصّ بترجمة السيّدة عائشة، جزء من “سيَر النبلاء” خاصّ بترجمة ابن حزم، “تاريخ داريا” لعبد الجبّار الخولاني، “الإغراب في جدل الإعراب” لابن الأنباري، “لُمع الأدلّة” لابن الأنباري، “الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب” للفارقي، “ملخّص إبطال القياس” لابن حزم، “حجّة القراءات” لابن زنجلة. سوى كِتاب “المغنّي” لابن هشام (بالاشتراك)، والكُتب محقَّقة تحقيقاً منهجيّاّ سديداً.

إضافة إلى مقالات وبحوث كثيرة في مجلّة “مجمع اللّغة العربيّة” في القاهرة، ومجلّة “المجتمع العلمي العربي” في دمشق، ومجلَّتَيْ “الرسالة” و”الثقافة” القديمتَين في القاهرة، ومجلّة “العربي” و”البيان” الكويتيّتَين، ومجلّة “كليّة الآداب” في جامعة بني غازي اللّيبيّة، ومجلّة “رابطة العالَم الإسلامي”، ومجلّة “دعوة الحقّ” المغربيّة.

يبقى للأستاذ الأفغاني وأمثاله من رعاة العربيّة مكانة كبيرة في رِفعتها وردّ عافيّتها وسدّ حاجاتها من أبناء العروبة أجمعين، فلا جناح على مَن بَذَلَ الوسعَ وصِدْقَ الجهد في هذا الطريق المقدّس قدسيّة القرآن الكريم بلغته العربيّة وفصاحته الأدبيّة، إضافة إلى ما قدّم من أدب وشعر وفلسفة وتراجم عبر علماء وأدباء كبار.

***

*كاتب وأستاذ جامعي من سوريا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *