جهاد الزين والمآلات الفلسفية في “نشيد الأنوثة”

Views: 164

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

تستعيد روح التفكر الفلسفي، بعض جذوتها، لدى الكتاب والأدباء والإعلاميين أحيانا، لإدامة الوجود في العالم. وهذة الشواغل الفلسفية أكثر ما ظهرت قواعدها، لدى سقراط وتلميذه أفلاطون، وتلميذ تلميذه أرسطو. ومع تعاظم حركة التنوير الأوروبي، وبروز التفكير العلمي، مترافقا مع الثورة الصناعية، أخذت الفلسفة اليونانية تتناغم مع مفاعيل التغييرات الثورية، ولهذا  بادر بعض المفكرين والفلاسفة، في القرن العشرين، لقصر الإنشغالات الفلسفية، على وقائع إختبارية محددة وخاضعة للقياس، حتى تكون تجاربهم أكثر واقعية.

 وقد وجد بعض الأدباء والكتاب المجددين، ضالتهم في المحدوديات والإنشغالات الفلسفية الكامنة في اللغة، فأنشأوا من تعاضد الفلسفة التحليلية اللغوية، مع الفلسفة الوضعية المنطقية، ما يمكن أن نسميه وحدة الأحاسيس و الأخلاقيات والميتافيزيقيا، في إنشاء النص، ضمن نطاقات العلم والنظرة العلمية. بحيث يجري إشباع النص بالجوهر الميتافيزيقي الكامن في روح الإنسان.

لا يشذ كتاب جهاد الزين: (نشيد الأنوثة- قصص قصيرة. دار نلسن- بيروت2022: 105 ص)، عن هذة المعادلة. ففي هذا المجموعة القصصية، يكشف المؤلف عن جوهر مسعاه، وذلك حين يشيع الثورة في الأخلاقيات. ويعيد الفلسفة، من خلال الأنوثة الرائعة، إلى الحياة. نستمع إليه يقول تحت عنوان “المصدر- ص15”:

(ما يسمى الإروتيكا ،ولم أعثر على أسم أفضل، ربما الشهوانية غير الخلاعية، كيف تنطلق صيحاتها من جسد إمرأة رائعة. من الجزء نفسه من جسدها الذي يطلق صيحات الطيبة والعذوبة الكاملة للنوايا الفاضلة.)

الأخلاقيات عند جهاد الزين، إنما تنهض على أسس من الفلسفة الأخلاقية، بحيث يروي في قصصه، بصيغة سيرية أحيانا، وبصيغة مساءلات معمقة، أحيانا أخرى، أطروحات مشبعة بالمآلات الفلسفية التي يشف عنها نصه الإبداعي بجمله المقصبة تقصيبا.

 ذلك أن قصص جهاد الزين، في “نشيد الإنوثة”، إنما هي مكان، يمكن فيه لصوت النساء أن يسمع، على عكس واقع الحال، عند الكثيرين من بعض كتاب القصة القصيرة، من الأدباء المعاصرين. يقول في ” المطعم- ص33″: (عندما إلتقى بها للمرة الأولى، وكان يجلس منفردا في أحد مطاعم بوسطن الذي يدعي أنه تأسس منذ القرن السابع عشر، لاحظ وجودها عبر أصوات خفيفة جدا، كانت تأتي كهمسات متلاحقة من طاولتها المجاورة. كان مقعدا متصلا بطاولات صغيرة منفصلة يجلس أمامها الزبائن بشكل متلاصق. لاحظ أنها لم تكن همسات إمرأة تهذي وحدها. كانت المرأة الثلاثينية تأكل، ولكنها خلال تناولها الطعام تطلق تأوهات كثيرة.)

 في هذة المجموعة الأثيرة، سنجد عالما فلسفيا يهيمن على الأبطال الواقعيين أو المتخيلين، وبعض الشباب والصبايا اليافعين، والأذكياء جدا، فيقيم بينهم نصه، على أساس حاجة الفلسفة إلى حد فاصل، يمكن أن يشكل معيارا إجرائيا، للتمييز بين الفلسفة الحقيقية، وبين لغو الكلام.

جهاد الزين

 

الفلسفة الحقيقية بموجب رؤية جهاد الزين تتأسس على عبارات واضحة، يمكن إختبارها حسيا في العالم الواقعي. وبهذا يمكن أن تشتمل على المآلات الفلسفية الضرورية، لتمظهر الفلسفة الحقيقية تحت مسمى آخر للعلم. أما الفلسفة التقليدية، والتي هي الأخلاقيات والميتافيزيقيا واللاهوت والجماليات والقيم، فهي غير منتجة. فلا شيء منتج عند جهاد الزين في عالم العلم ذي المعدن الصلب، إلا ما يمكن إخضاعه للإختبار. نستمع إليه يقول في “عصمت كمخطوطة- 55”:

 (سيطرت على عصمت، فكرة أنه مخطوطة. ليس السبب ان عمره سحيق: مئتان وسبعون سنة. ولكن لأن الإنسان يعيش عمره كله ويبقى ناقصا. بهذا المعنى يرى نفسه مسودة. نصا غير مكتمل. هذا في رأيه ليس توصيفا للجسد، بل للكائن، لشخصه جسدا ونطقا وأفكارا).

الانحياز الأخلاقي، عند جهاد الزين، إنما هو محض موقف فردي، لا علاقة له بعالم الوقائع. وهو لذلك لا يخضع لقاعدة الصوابية  أو التخطئة. وليس ثمة إجماع يمكن بلوغه في هذا الشان. على عكس الحال مع وقائع العالم الطبيعي.

جهاد الزين في نشيد الأنوثة، يقارب فلسفة جديدة، تناقض الوضعية المنطقية. وهو يرى في مظاهر القسوة والشر في العالم أشياء ينبغي إخضاعها للمساءلة الفلسفية. يقول في ” الكاهن والشيخ والمرأة – ص61:

 ( الجنس في زمن الطغيان، أو الجنس تحت مظلة الطغيان. قالت له لاحقا أنها مطلقة وليس لديها أولاد. وأخبرته أن رجل أعمال عربيا دعاها إلى العشاء مرة. وكانت معه إمرأة عرفها أنها سكرتيرته. ذهب الثلاثة إلى مطعم فاخر… ومن هناك إنتقلا إلى شقة مسؤول عراقي شاركهم عشاء المطعم. ستخبر عصمت أن السكرتيرة دخلت مع الرسمي العراقي إلى غرفة. وهي بعد مداعبات في الصالون مع رجل الأعمال، إنتقلت معه إلى غرفة ثانية).

 يمضي القارئ مع مؤلف “نشيد الأنوثة”، في متابعة قصص سردية مشوقة، للعثور على الأصوات الفلسفية الفردية المتفردة، خارج نطاق الدرس الأكاديمي السائد في الكتابة القصصية. وهو يجتهد لرسم صورة جديدة، بديلة عن الكائن البشري في هذا الكوكب، وعن مكانته التي آل إليها، بعد الإنكماش الدولتي، الذي ساهم في تصدع المجتمعات وإنهاكها.

 ليس ثمة أطروحات فلسفية وحسب، في “نشيد الأنوثة”، بل هناك  أشراك الحب وتعقيداته. وعقب كل تجربة في الحب، نشهد تغيرا فلسفيا، تجاه الموضوعات المطروحة. ولا يخفى على المتابع لقصص “نشيد الأنوثة”، من تبين بصمات أفلاطون وأرسطو وتوماس الأكويني وفيتغنشتاين، التي تبدو جلية فيها. فالمؤلف الروائي هنا، والإعلامي هناك، والشاعر هنالك، إنما يتابع عمله في “نشيد الأنوثة”، كروائي فيلسوف، أثبت حضوره الفذ، في الساحة الإبداعية، التي يرتادها المغامرون. وهو بالمآلات الفلسفية، التي كان يحيل عليها إبداعاته، تفرد عن جميع المبدعين في هذا الحقل المضطرب، بين الغث والثمين. نستمع إليه يقول في “أبجدية العشق- ص 75”:

(رشة الحلم على حرف الغبار الذهبي…/ إنه بوح العمامة/ أصعب البوح إلى إمراة سكنت “طوق الحمامة”).

هكذا تظل موضوعات قصصه في “نشيد الأنوثة”، مثيرة للتفكر والمساءلة، وهو بعض ما يسعى إليه الأستاذ جهاد الزين.  فهو بالتالي، ليس  محض كائن على هذا الكوكب، يستخدم اللغة،  و يطرح الأسئلة ويوظف التمثلات الرمزية، في إبداعاته وحسب،  بل يوجد لديه، سعي ممض، نحو كل ما هو غامض ومتعال على الوجود البشري.

 فكل من اختبر حياة عاصفة بالمتغيرات، تماثل حياة الأستاذ جهاد الزين، غالبا ما يجد نفسه منحازا، نحو آفاق فلسفية، أبعد من حدود الفلسفة التحليلية.

فضروب الحياة التي عاشها أستاذنا الكبير جهاد الزين،  بأهوالها، وبتجاربها المريرة وسط جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، ووسط جحيم سائر الحروب التي عاشها لبنان، خلال الخمسين عاما الأخيرة، فضلا عن الأدوار التي خوض فيها، في السياسة وفي نسج العلاقات، وفي تأليف عالم الحب والمغامرة، لمما كان له أعظم الأثر في تشكيل مواقفه، التي حملتها شخصياته القصصية التي بين يدينا. فهي لم تكن بنظري، سوى مآلات فلسفية، لتجاربه التي عاشها، فأثرت قلمه. بل تركت تأثيراتها البينة، على “نشيد الأنوثة”، كما على سائر كتاباته، في الأشعار والنصوص والمقالات، التي إجتهد فيها وأبدع، أيما إبداع.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *