معجز كاج

Views: 190

د. قصي الحسين

أستاذ في الجامعة اللبنانية

 

 لا يستطيع أحد أن يعلم، كيف يتم إختيار عمله. ولا بالطبع، على أي أساس نخبوي يتم اختيار البدايات الأولى. لكن، من الممكن، من خلال بحث، ينصرف إليه الباحث، استشراف، أن البدايات المهنية، كما البدايات الثقافية، عملا مبكرًا، ووقائع مشهودة، يمكن لها أن تصب في توفير الاستنتاجات والاستلهامات، لما يعرف ببداية المسيرة، التي كانت هي الأساس، في بلورة جوهر الشخص، وجوهر عمله، خلال ثلث قرن أو أكثر. وهي الفترة الزمنية التي يقطعها الإنسان، في حياته المهنية، مكدا ومجتهدا، ليضع بعد ذلك سلاحه. ويحاول قراءة الخطوات التي مشاها. فيسجلها  نفسه بنفسه، وهو يجلس على كرسي الاعتراف. فيبوح لنفسه، بكل ما كان يعتملها، وبكل ما كان يعتورها، على حد سواء.

 الكاتب والإعلامي ورجل الصحافة زياد كاج، وفر على الباحثين عنه، كل جهودهم. وضع روايته: “مونداي مورنينغ. دار نلسن. رأس بيروت.2022. ط1. 266 ص تقريبا”. التي قال فيها الناشر، الأستاذ سليمان بختي، على صفحة الغلاف، تحت عنوان هذا الكتاب:

( يروي زياد كاج في كتابه “مونداي مورنينغ” سردية الصحافة اللبنانية، من خلال تجربته المهنية، محررا وشاهدا وعابرا في مجلة المونداي مورنينغ.) ويضيف الأستاذ سليمان قائلا:

 وهي تجربة إمتدت منذ أواخر الثمانينات حتى منتصف التسعينات- أي زمن نهاية الحرب وتكوين السلطة، بعد إتفاق الطائف- وجعلته يعاين بوادر إنهيار المهنة ومصائر وخيبات أبطالها الذين حلموا بمستقبل أفضل من خلال إنضمامهم إلى عالم الصحافة. وأن بيروت في عز إنقسامها بين شرقية وغربية. وأثر الحرب على النفوس والمواقف والممارسات.) وينتهي سليمان بختي للقول:

( رولية واقعية تؤرخ وتوثق لمرحلة دقيقة من تاريخ البلد، بأسلوب ساخر وجذاب. ولكنها ترثي لأحوال وآمال شخصيات قلقة وحالمة بالجميل في مهنة جاحدة وبلد ممزق وعلاقات مضطربة.)

لا أمانع في أن يقوم لبنان من موته، وهو لا يزال يعيش برهة البدايات. بدايات الحرب . بل الحروب كلها. كما أستشف من خلال هذه الرواية للإعلامي زياد كاج.  بل من خلال ما أسميه “معجز كاج”. العمل النوعي الذي تجتمع فيه، كل مواصفات العمل الجاد، والدقيق، والرصين. فتحت عنوان: “عالم مكتب الوردية- ص5 “، يقول:

( في مكاتب المجلة الأسبوعية في منطقة الوردية، كانت الإنطلاقة. صاحبها نقيب المحررين آنذاك ملحم كرم. كان يديرها من المنطقة الشرقية، حيث المكاتب الرئيسية لدار الف ليلة وليلة، التي تصدر ايضا: مجلة الحوادث وجريدة البيرق بالعربية بالإضافة إلىRevue du Libon بالفرنسية.)

فزياد كاج يرتفع قليلا عن مستوى العمل الصحفي التقريري، ليماثل الطريقة السردية الوصفية الشعرية، التي تمنح الصحفي، فرصة الإرتقاء والسمو، لاستشفاف الفناء الخلفي للحدث، بكل ما فيه من أسرار. وبكل ما يخبئ من دفائن ترتقي إلى عالم الإشارات، التي تشي بصورة المستقبل الغامض اليوم، الشديد الوضوح غدا.

 وجد زياد كاج في روايته هذه، أن الطريقة الأجدى، ليست المحاكاة، باستخدام ذات الطرق وذات العناصر، التي تكون عادة في الكتابات الصحفية، بل في القدرة على توفير النظرة إليها، لتتضمن وصفها على النحو التي هي عليه بالفعل. وعلى المسافة، التي على الرواية الصحفية أن تجتازها، لكي تنجح. فكان عمله السردي الشعري التوثيقي، بما حمله من هلع، أو من سخرية . أو من هزء، يكاد يجمع بين الكوميديا والتراجيديا على حد سواء. يقول تحت عنوان” ملك الفورمولا1- ص 85″:

 (لطالما جلست لفترات طويلة ادخن سيجارة…سيجارة، حسب تعبير امي في صالون بيتنا في الطابق الأرضي الكائن في منطقة النويري. أمارس عزلتي المفضلة كل مساء، متأملا أحوال عائلتنا والبلد وصورة ابي(  أبو ربيع) بالأبيض والأسود المعلقة على الجزء العلوي من الحائط في الجهة المقابلة لكنبتي المفضلة).

الكاتب والإعلامي زياد كاج

 

صنع زياد كاج، عملا أدبيا ساخرا، نقل حكايته من أرض الواقع. فجعل منه رسالة إعلامية وأدبية. فأحسن توظيف وتوصيف النكتة في الحدث، كما أحسن توظيف وتوصيف الرعب، الذي يقبع خلف الحدث.

 لحمة عائلية، وراء الحدث هو زياد كاج. وهذا لا يعني سوى أنه، وبتفكير مرجعي وأدبي وصحفي، وتقليدي ربما، يريد توزيع المهام، كما يريد تنويع الإتهام. بحيث تكون الموضوعة التي يتحدث عنها، تكاد تنتهي في البال، وفي التوقعات، منذ حين وجيز، على بدايتها.

 الأديب والصحفي زياد كاج في معجزه، هو في الأساس، وعلى نحو عملي، يعرض في روايته، كل ما سيأتي علينا لاحقا. لأن قريحة الكاتب عنده، تلح عليه دائما، بأننا في وقت لاحق من الآن، سوف نرى المشاهد ذاتها لاحقا.

 قبل زياد كاج، كان يرى القارئ، كيف أن الحدث قد مضى. أما على يده، وبالصورة السردية المفعمة بالشعر، صار القارئ، يعيش وطأة الحدث. كأنه فيلم يخلط البكرات. وكذلك هو يخلط الفراغات.

ومع مشاهد، مثل جثة، ومثل وجه مشوه ومثل يد مقطوعة، يوثقها الكاتب الروائي داخل فصول روايته، بالإضافة إلى مشاهد العنف والرؤوس المقطوعة، وما شابه من لقطات أخرى تجسد دموية الأحداث، وفصول الحرب، يرتفع الكاتب إلى القمم المشرفة على الحدث، فيقدم لنا عملا متكاملا معجزا حقا. يقول في “كطابات البليارد- ص167”:

(من خلف زجاج سميك حاجب للصوت ومدغم بأسلاك معدنية مشبكة، وقفت جوسلين تتأمل خالتها الحنونة، ممدة على السرير في غرف شاسعة، حيطانها بيضاء مليئة بالماكينات الطبية. قيل إنها العناية الفائقة. لأول مرة وجدت نفسها غير قادرة على الوصول إلى مصدر أمانها الوحيد، منذ أن وعت على هذه الدنيا).

كتب الصحفي زياد كاج روايته ونفذها، كما هي. بلا رتوش. ولا تجميل. ومن دون إستشارة. ومن دون نصيحة من أحد. وهذا يعني أن المؤلف الوافد من عالم الصحافة، وجد صوته وغنى به معجبا، بصرف النظر عن إستمذاج آراء النقاد وآرائهم.

 رواية زياد كاج،  لم تكن تحتاج لبداية سوف يعود لاستكمالها فيما بعد. ذلك أنه يعتبر الحدث الذي يسجله، مثل تفعيلة شعرية  مثل لعبة نارية. فهو لم يصور الإنفعال، بانفعال آخر مفتعل. فقيمة الروايةكما مستواها، يتدنى، عندما يحاول الكاتب الربط بين لحظات الرعب، والقضايا الهائمة، ووقائعها، كما يحدث ذلك في أية حرب عبرت على لبنان.

 وقوعات السياسة اللبنانية ووقائعها  كما وقوعات الحرب اللبنانية ووقائعها، كما وقوعات الصحافة والإعلام، بكل وقوعاتها ووقائعها المشهودة، إنما هي بعض  أضابير هذه الرواية التي رويت بأسلوب أدبي شاعري فذ. فكان الشاعر والأديب والإعلامي والصحفي، يتبادل الأدوار في هاتيك التسجيلات، فيما عرفت به أنا: “معجز كاج”.  إذ قلما إستطاع رجل الإعلام، أن يتحول بلحظة، إلى أديب فذ. إلى شاعر فذ، بقامة الإعلامي الأكاديمي زياد كاج.

فأكثر القصص مدعاة للحبور، تلك التي يتولى رجل في مقتبل العمر، نصف منه إعلامي، ونصف منه أديب وشاعر، سردها  في إضابير، سرعان ما تتحول إلى مسودات مخطوطة، ثم يأتي فيستيقظها مخطوطة رواية. ثم يرش عليها الماء، فتتحول على يديه، إلى رواية بين دفتي كتاب.

فمثل هذا الموضوع الآسر، الذي ضبر تحت عنوان: ” مونداي مورنينغ”، لم يكن ليبلغ فيه هذه الدرجة من المهنية والحرفية، ليس على المستوى الصحفي وحسب، بل على المستوى الأدبي، لولا معالجاته للموضوعات المادية التي عالجها، على أساس من الإنغماس العميق، في معنى، أن يأتي العمل متكاملا، من كل الجوانب. نستمع إليه يقول تحت عنوان “من باعك بيعو- ص189”:

 (هو هكذا دائما… ياتي متأخرا وجعبته مليئة بحججه المعهودة: ” زحمة سير… الماما طلبت وصلها… حسين ضيع الطريق. ثم يتابع قائلا: وأنا لم أعد أبالي كثيرا، نار أشواقي وحبي حولتها الأيام والياس من جمر النار، إلى مايشبه الرماد. حياتي كلها إنتظار وخسائر ورماد. ما هم؟).

فما كان ينقص هذه الموضوعات التي كانت على شكل مسودات، إلا الخيط الذي يوصله بإهتمام مهني وطني راق، كان يثير في تلك الموضوعات، ما يرقى بها، من المحلي إلى الوطني، ومن دون الخروج عن موضوع الرواية التي صممها.

زياد كاج الأديب والشاعر والإعلامي، يثير في روايته مسائل تدعو إلى الإستغراب. فكيف لشعب يخرج من الحرب إلى الحرب، فتستمر حياته كما لو أن الحرب لم تندلع. وكأن النكران أصبح أسلوب عيشه. شعب خاض معارك الإقتتال الطائفي ونجا منها من دون عبرة، فأكمل طريقه، يرتاد المقاهي، ويشتري السيارات، وكل ما حوله ينهار فوق رأسه.

في بال الإعلامي والكاتب والشاعر، زياد كاج، أن شيئا ما ليس في محله، وينبغي الكتابة عنه. وقد شكلت العقود الأربعة التي مرت، ما يشبه “المخاض”، بحيث جعله يرصد سوريالية اللبناني الراقص، حول الموت. أو حول ” البلد الراقص تحت البركان، يسمع هديره. ويسمع حمظه، دون أن يبالي بشيء.

إن الحياة اليومية العبثية، هي ما كانت تحرض زياد كاج على الكتابة. فقد ورطه المشهد اللبناني المتوغل في العدم، بتوثيق، كثافة المشهد اللبناني حقبة حقبة وفصلا فصلا. وصولا إلى البرهة المأساوية التي نعيشها.

 فزياد كاج ، في روايته هذه التي بين يدينا، إنما يعاين التوحش. إذ الكاتب شاهد على عصره. وعلى التراجيديا اليومية، المحلية والكونية. وهو يعيد كتابة التاريخ اللبناني، بعيدا عن الأسطورة المدونة في الكتاب المدرسي. كما يعيد كتابة الأخلاق، بعيدا عن دروس الأخلاق المدرسية، وبعيدا عن كتاب التنشئة المدنية والتنشئة الوطنية.

 زياد كاج، الإعلامي منذ عقود، والأديب والشاعر والمبدع، منذ نعومة أظفاره، يزاوله قلق حاد إذا ما إبتعد عن الكتابة، أمام فظاعة واقع مثل هذا الواقع اللبناني الذي عايشه، ونعايشه معه، على أية حال.

 ربما كان يحتاج الإعلامي إلى الخيال، حتى يأتي بمدونة “مونداي مورنينغ”، غير أن المادة التي تجمعت لديه، طيلة ثلث قرن أو يزيد، أرغمته على الإتجاه مباشرة نحو وصف الواقع. ولو أنه من المستحيل على أديب مثله، أن يعيش بلا خيال. ذلك أنه جوهر ما أتى به في هذه الرواية. ولا يمكن فهم الواقع، من دون فهم تشعباته عن طريق التخيل، لأنه في معاينته الصحفية، يكتب الواقع من خلال مخيلة الأديب، بل الشاعر الفذ، ليعطيعه معنى. على الرغم من أنه يقول في قرارة نفسه: أن أهم ما في الأدب، هو أن نكتب بصدق. فالكاتب في بلدان اللهب، لا يملك ترف الكتابة عن شجرة راسخة تزينها الثمار، ولا عن غابة مفتوحة على الدهشة، لأن غاية الكتابة إنما هي التعرية ونبش الأعماق. وأن كل ما حول الإنسان، إنما هو جزء من مساره الوجودي. وهذا هو سر “معجز كاج”، في روايته الأثيرة التي بين يدينا.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *