شعريّة  اللغة البيضاء

Views: 103

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

يقول الناقد العربي الكبير، د. عبد العزيز المقالح مختصرا مسيرة الشعر والشعراء: ” إن عالما خاليا من الشعر، هو عالم بائس شديد الجفاف”. كأني به يريد أن يقول: إن الشعر أكثر من غيره من الفنون، لصوقا بالأعماق. وهو لطالما يحدث رعشة في الشعور، خصوصا إذا كان شعرا حارا حقيقيا، وليس من نوع الشعر البارد، ليس من نوع شعر المعلبات. وليس بالتالي من شعر الطلاسم والزخارف اللغوية.

 بهذا المعنى، يكون الشعر الحقيقي، مساحة من جمال، تروح عن النفس، وتبعث فيها السعادة والسرور والغبطة. فيتغير إحساسنا معه بالحياة، بحيث يصير العالم بعده، كما قال “ديلان توماس”:  ” لا يبقى العالم كما كان، بعد أن تضاف إليه قصيدة جيدة.” إذ الجودة شرط أساسي، لكي لا يخالط الشعر، ما هو غير شعري.

الشاعر الدكتور محمد حمود، في ديوانه: “رماد العمر. طبعة خاصة.2022: 160 ص. تقريبا”، يقدم لنا بالمحكية، تطلعات الإنسان لعالم الإحساس، ولعالم الجمال في الحياة وفي لغة الحياة اليومية. بحيث يكون الشعر عنده، هو الدليل الوحيد الملموس  على وجوده. بمعنى آخر على وجود الإنسان المتفاعل مع الحياة. نسمعه يقول في مجموعته “البعلبكيات- فيق يمي- ص5”:

 (فيق يمي فيق/ يرضى عليك/ وع قد يمي/ ما بتشوف عينيك/ يعطيك ت يرضيك/ ويحرسك آمين.)

أحسن “شاعر المحكية”، شاعر “اللغة البيضاء”، د. محمد حمود، إدارة موهبته.  لانه يعرف أن التوقف عن الإبداع، إنما يقتل العملية الإبداعية. ولهذا إختار السبيل الأقرب إلى قلبه، والأقرب إلى قلوب الناس، فكتب بالمحكية، باللغة البيضاء، ما تضمره نفسه من شؤون الإبداع. وهو لذلك، كان يعرضه على شعراء المحكية، قبل أن يجعله في ديوان. متتبعا بذلك خطى الشاعر العباسي دعبل الخزاعي، الذي روي عنه قوله:

” ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم_ يريد مسلم بن الوليد، صريع الغواني_ فيقول لي : أكتم هذا، حتى قلت:

أين الشباب؟ وأية سلكا/ لا أين يطلب؟ ضل بل هلكا.

لا تعجبي يا سلم من رجل/ ضحك المشيب برأسه فبكى.

الشاعر الدكتور محمد حمود

*

فلما أنشدته هذة القصيدة، قال: إذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئت. لمن شئت.” تخيلت أن الشاعر د. محمد حمود إنما فعل، كما فعل دعبل. (ironman.greaterzion) ولذك كانت تجربته، تهتدي بهدي السابقين له في هذا الميدان، حتى بلغ الشوط. نسمعه يقول في قصيدته “دلف الشتي- ص29”:

(ع سطوحنا لتراب/ بيلتقوا الأحباب/ ضباب وتلج وشتي/ ودق البرد ع الباب)

 في قصائد “رماد العمر”، كثيرا ما نجد د. محمد حمود يعبر عن غربته. فهو يصطلي بنارها. ويتوق إلى المهاد التي أنشأته ونشأ عليها، وتفيأ تحت ظلالها. فيناجي بعلبك، ويذوب شوقا إليها. كما يناجي جميع الأماكن التي عرفته وعرفها.وهو في ذلك كله، إنما يعبر عن عظيم شوقه، لهاتيك الأوطان، حيث منابت الصبا والشباب. وبعيدا عن مشاعر الحنين، يستذكر، بلاد بعلبك، كما سائر البلاد الأخرى التي كانت مستودع الذكريات. يقول في قصيدته “مقام الحب- ص51”:

(جايي ع بالي زور/ حب إندفن مقهور/ حب من عمري إنخطف/ وبعز الشباب إنقصف/ متل شي منام وراح.)

إلى ذلك، نرى محكيات أشعاره، بل “أشعاره البيضاء”، كثيرا ما يعبر فيها، عن الحزن والفقد والغربة والموت. وكثيرا أيضا، ما إنعكس ذلك على الموسيقى التصويرية لقصائده. ناهيك عن تصويره لآلامه الشخصية، ولآلام وطنه، مما توالى عليه من حروب ومن نكبات ومن أوبئة، كثيرا ما دفعته للتماهي معها. نستمع إليه يقول، في قصيدته “قلي- ص84”:

 شكيتك ل الله/ ن كنت ما حبيتني/ بدبل مثل ورق الخريف/ وقلبي بيهجرني/ ون كان ما في نوى/ وغيري حيسبقني/ دخلك ولنو شوي/ تبقى تذكرني/ ناطره رب العشق/ بلكي بينصفني.)

 إستطاع د. محمد حمود، أن يمسرح قصائده وأشعاره. ذلك لأنه ينطلق في الأساس، من رؤيته للشعر المحكي، بأنه يحاور الناس وأوجاعهم. وهذا التماهي مع الناس، هو الذي مهد لجعل شعره، يتماهى مع المسرح.  فكانت الخشبة، هي القاسم المشترك، بين الشعر وبين المسرح. ناهيك عن التلاعب بالألفاظ وبالإيقاعات وبالأصوات. وهذا كله، يدل على مسرحة محكياته الشعرية، وإن لم يقصد إليها قصدا. بل جاءت عفو إتجاهاته الفنية، حيث بعلبك، و”مسرح جوبتير”، وحيث الحشد التاريخي على أدراج مدينة الشمس، ومدينة عنجر ومدينة  نيحا. وساحات قاموع الهرمل.  فقد عاد د. محمد حمود إلى بيئته، بإمكانيته الشعرية الشعبية، ليتفاعل مع البيئة وناسها قديما وحديثا. نستمع إليه يقول في قصيدته “يا عمر- ص97”:

( يا عمر ليش دخلك/ حاطط حملك علي/ إنهدوا كتافي/ بتركض وحافي/ ما وقفت ع حدك/ ولا كنت ترحمني.)

 ومثلما تملأ العاطفة جنبات حياته الشخصية، فقد ملأت هي أيضا جميع قصائد ديوانه، “رماد العمر”. فبدا فيها طفلا. وبدا  فيها عاطفيا. وقد تمظهر ذلك، في شغبه اللغوي، كما في فن الإدهاش والإبهار والنظرة البريئة للعالم. وكأنه يتتبع بذلك خطى بيكاسو، حين يقول:” العبقرية، هي ألا تغادر الطفولة”. فهل كان “الطفل هو أبو الرجل” عند د. محمد حمود.  ذلكم هو السؤال المركزي، الذي نتبينه أيضا، من خلال قصائده. نستمع إليه يقول في قصيدته تمثال- ص115:

(شفتو بعين الشمس/ واقف وعرفان/ ناطر شي زخة مطر/ من كم سني عطشان.)

(بيصرخ بوج المدى/ ويا ريت عم يسمع حدا/ واقف وصرلو سنين/ سارد وحيران.)

لم تنته الحرب التي عاشها د. حمود. فهي لا تزال موجودة في نفسه. وفي شعره. لأن شعره المحكي، بل أشعاره البيضاء، إنما يحاكي بها أوجاعه. وما العنوان الذي إختاره لمجموعته الأخيرة: ” رماد العمر”، إلا الدليل الساطع على ذلك. إذ الجمر، كما في ديوانه، وفي لوحة غلافه، وفي قلبه، لا يزال تحت الرماد. يمضه. يقلقه. يحرقه، ولكنه كما الفينيق، يخرج طائرا منه. نستمع إليه يقول في قصيدته جايي الخريف- ص118:

(قللوا الخريف للصيف/ قوم حاجي غناج/ لملم نهاراتك / الموني وسهراتك/ أيلول خيم ع الحدود / وجيش الشتي/ بلش يحورب ب لجرود/ والأرض ريقا نشف/ ناطرة هبوب الريح/ وزخات المطر.)

 يتحدث د. حمود في ديوانه، عن الهجرات التي طالت الناس في وطنه. وذلك بسبب الحروب التي عاشها. كذلك يتحدث عن الإنهيارات، ومحو الطوائف لبعضها، بتحريض من المحتلين. الذين إحتلوا البلاد، أو أولئك الذين إحتلوا إرادته، بالإمعان في تطويعه، أرضا وشعبا ومؤسسات، وشخصيات. نستمع إليه يقول في قصيدته “رغيف- ص123”:

(كروج يا رغيف الخبز/… في ناس عم تنطرك// مع رجعة الغياب/ وناس من تم الفقير/ بتخطفك/ وبتنهشك لدياب/ ولاد جوعاني/ وعم تشتي دموع..)

 نرى الشاعر في كثير، من مواضع قصائده، يكاشفنا بإستنتاجه المؤلم، بأن نظام الحرب الأهلية القائم على فرضية الإنفجار في أي وقت، إنما هو ما تأسس عليه، لبنان الكبير، ولبنان الصغير، على حد سواء. وليس ثمة من خروج من شباك هذة المصيدة، إلا بالعودة للوحدة القومية، كما بالعودة للوحدة الوطنية، وذوب الطوائف والأحزاب، وإنصهارها جميعا، في بوتقة واحدة. نستمع إليه يقول في قصيدته “عنقود- ص129”:

 (عنقود بصدر الداليي/ معيل ومحبوب/ والكرم مس سايعو/ مثل الذهب مسكوب/ والكتف ع الكتف/ وتدبك ه لحبوب.)

 إن القصيدة المحكية عند د. محمد حمود، إنما تلقي الضوء، على الإنسان والوجود والفلسفة، تماما كما يتجلى ذلك في الحركة  المسرحية. وخصوصا، في المسرح الحكواتي. ويعتبر روجيه عساف، من الرواد الذين قضوا التجربة المعاشة. فالحكاية في قصيدة د. محمد، عالم مفتوح، لا يمكن ضبطه. عالم متشظ، كعالمنا الذي نعيشه، وكتجربتنا اليومية التي نمر بها. وهو بذلك كان يواجه التحدي الأكبر، بالشعر المحكي.  بالشعرية البيضاء. ذلك الشعر الذي حاكى بكل صدق أوجاعه، وأوجاع اللبنانيين، من خلال أوجاعه. ففي الشعر المحكي، كما في اللغة البيضاء المحكية، لا يتحدث ولا يخاطب، ولا يخطب، بل هو يتألم. بل هو يتماهى، بالموضوعات المختلفة التي يطرحها. وكثيرا ما كان يعبر عن وجعه، بطرق مختلفة من قصائده. يروي أوجاعه وحبه وعشقه، من منظورات مختلفة. ولعمري، هذا هو شرط وجود الشاعر الساحر، الذي يروي أوجاع الناس من خلال إرتواء قصائده  البيضاء، المحكية بها.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *