رواية “حبيبتي مريم” لهدى عيد… إدانة الأنظمة الفاسدة وهيمنة السلطة على المثقف

Views: 64

د. آمنة بلعلى

روايات هدى عيد تأسرك، وتأخذ بتلابيبك، وتسير بهدى نحو غاباتها المثلى، تؤسّس من خلالها مملكة سردية هادفة، حيث استطاعت أن تنتج تمثيلات تليق بإنسانية الإنسان في هذه الحياة.فهيتواصل استئنافها المشرِّف في التّصدّى،ودون إغراق فيالتجريب الشكلي، إلى الأفكار الكبرى، والموضوعات الإشكالية، ومساءلة القيم وتفكيك آليات الهيمنة. thesanddollarlv.com وهاهي في هذه الرواية الجديدة “حبيبتي مريم”تطرح سؤال الحقيقة، هل هي مرتبطة بإرادة الأشخاص الذين يوجّهونها وفق رغباتهم، أم هي كينونة مستقلة متعالية، متحرّرة من الشروط الاجتماعية والسياسية التي تسعى إلى تنميطها وتقييد مسارها، وتصوغ شرطها الضروري لتعلن عن وجودها.

وتجسّد، من خلال هذا السؤال، كونا روائيا، تقول فيه إن الأشياء والأوطان والقيم والهوية والتاريخ والذات والآخر هي أعقد مما يمكن أن يتصوّره الروائيون، ولذلك تعاين فيهامواطن التعتيم على الحقيقةمن خلال تفكيك ذلك النظام المعقّد الذي يخترق كل العلاقات والترابطات في المجتمع،المتمثل في دواليب السلطة،فتسرد لنا أحداثا تتعلق بعائلة لبنانية، يتولّى أفرادها مهمّة الحكي،وتعقد بينها وبين المتلقي علاقة حميمية لتتحدث إليه دون واسطة، وتعطي انطباعا بصدقية الأحداث، وتجعل من السرد ذاته أداة تحقيق يرتبط ارتباطا وثيقا بالتحقيق في سبب وفاة مريم، وهي طريقة تعيدنا إلى رواية موسم الهجرة إلى الشمال، حيث يبدأ السرد بقول الشخصية: “عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة”

تتولى شخصيات الرواية مخاطبة المتلقي مباشرة،ومن خلال أفراد العائلة حكيم بن غريب جوال الابن ثم غريب الأب، ثم مريم الزوجة، وأخيرا جودي الابنة، يتم سرد يوميات هذه العائلة وذكرياتها، لتتلبّس بلغز وفاةالوالدة مريم، ورغبة الوالد في إخراج جثتها من القبر للتحقيق في سبب وفاتها، بعد اطلاعه على أسرار في حاسوبها. وكان هذا الخبر اللغزبمثابة الموجّه الأساسفي تحوّلات السرد في الرواية، الذي جعله يقترب من السرد البوليسي القائم على وجود لغز تسير الأحداث نحو حله. وبعد ما يسرد لنا الابنغربته في لندن، ينتقل السرد إلى الوالد الذي فجع بوفاة زوجته وأدخلته إلى عالم من التخيلات، تم اتهامه بقتلها، الأمر الذي دفع به إلىالتحري في سبب موتها، وتبدأ الحقائق في الانكشاف شيئا فشيئا من خلال الاطلاع على يوميات مريم قبل وفاتها، وتدوينها حقائق وأسرارا عن البرلمان وأسر كبار رجال الدولة، وعن مقابلتها المرعبة لهرم السلطة، واكتشافها المتاجرة بالأسلحة والمخدرات،وكيف تنخرط السلطة السياسية في تشكيل الدائرة التمثيلية للجسد، من خلال دور المرأة كأداة محولة من داخل علاقات القوة،وهو الأمر الذي جعل غريب يشعر بأن موتها كان نتيجة اغتصاب واغتيال سياسي.

الروائية هدى عيد

 

تعطى الكلمة في القسم الأخير إلى الابنة جودي لتكمل مسار الحكي، بالانطلاق من وفاة زوجها دانيال،في انفجار مرفأ بيروت، ودخولها حالة اكتئاب مضاعف، وتنتهي الأحداث بفتح القبر، والعثورعلى كفن دون جثة ، لتستكين العائلة في ذهول إلى حالة من الاستسلام، جسدتها جودي في قولها: إن أخطر أنواع الهزائم يا جودي، هي عندما يتمكن عدوك من السكنى فيك يتحداك ويعجزك وينقل الى داخلك كل ساحات القتال” ويستقيل الأب بعد أربعين سنة من الخدمة، ويكرم بزر صغير علّق على ياقته قدمه له رئيسه. وبعد قضاء عطلتهم مع حكيم في لندن وقراره الزواج بفتاة هندية، تعود جودي مع والدها إلى الوطنوفي قلبه حقائق يرنو إلى كشفها، كما تقررهي أيضا إعادة قراءة ما كتبته مريم، لتلاحق بوعي حقائق كل الأسماء وكل الحروف التي دوّنتها، لأنها تؤمن أن الحقائق لا تموت، كلها، وحقيقة العدالة واقعة لا محالة.

إنها رواية تحقق الإثارة بشكل لافت، لأنها تضع كل شيء موضع مساءلة، وهي بالصيغة التي كتبت بها تبدو خطاب إدانة ومحاكمة، للأنظمة الفاسدة، من خلال تفكيك آليات الهيمنة التي تمارسها السلطة على المثقف، وهي تقوم بدقّ الأعناق، والعقاب بالإسكات، والهيمنة بالخطاب، وليست مريم في الرواية سوى الوطن المقدس الذي تم تدنيسه، لكن الروائية تراهن على أن الحقيقة التي تفرقت بها السبل، لا يمكن أن تموت، وسيقدر لها من يبحث عنها، مهما بلغت شراهة الزهو بالسيطرة.

 سعت رواية حبيبتي مريم إلى تعرية البنيات الاجتماعية والسياسية في المجتمع اللبناني، ومن خلاله المجتمع العربي، وكشفت عن استراتيجية الهيمنة فيه، وقد جسّدت مريم كعلامة رمزية مقدّسة، رؤية نقدية سعت إلى إقناعنا بدور المثقف النزيه الذي وإن تمت تصفيته، فإن الحقيقة هي الوحيدة التي بإمكانها أن تتحرّر من شروط الهيمنة،وبهذه الرواية تكون هدى عيد قد أكدت دورها كمثقفة روائية في السرد المقاوم وفضح السلطة والانحياز إلى الموقع الأفضل من التغيير.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *