الانتماء إلى الوطن يقوّي الدولة والمواطن

Views: 28

العميد الركن م. صلاح جانبين 

بالرغم من كل ما يعانيه المواطن في لبنان من أزمات مختلفة ومتعدّدة على كل الصعد، بخاصة الحياتية والمعيشية والمالية والطبية والأمنية و…، ومن دون آفاق أو معالم ظاهرة للعيان أو حتى حلول باطنية قد نحلم بها للسيطرة على الأوضاع القائمة؛ فالكل يفكّر بالدولة والمسؤول والضياع والتعثّر والإهتزاز الحاصل، والكل يتهمّ أو يتهرّب أو أقلّه ينتظر الآخر ببعض المحاولات الخجولة الفردية من دون أي نجاح، لعلَّ الحل قد يأتي من مكان ما. فهل سيطر اليأس علينا وعمَّت الفوضى والإنهيار، أم أننا ما زلنا ننتمي لهذا الوطن، نواجه كمواطنين حبًا به، ندواي الجرح بالجرح، والفقر بالتحمّل والإتكال على النفس، والتعاون والإرتباط فيما بيننا، بدلًا من الأنانية والتباعد والتفرقة؟ لقد كُتب علينا الصمود والتحمّل والتضحية بأغلى ما عندنا كأفراد مقابل بقاء الوطن، لأنه لا قيمة للفرد ولا قيمة لنا كأفراد أو جماعات بالبقاء إذا مات الوطن؛ وسنبقى نواجه بالكلمة الطيّبة ونشر المعرفة والتفاؤل، فتاريخنا يشهد بأننا أقوياء وسنبقى، وسيتعافى الوطن بهمة وعزّة أبنائه.

 

تاريخ المواطنة 

إذا ما عدنا إلى المواطنة الحقّة التي يضمنها العُرف والقانون، نرى بأنه يحق بموجبها لأعضاء المجتمع تسيير الشأن العام، على قدم المساواة وفي كنف الحرية، وقد أُسند مفهومها إلى قيم، وحُددت له غايات .ولو تتبعنا تاريخ المواطنة، لرأينا أنها عُرفت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، لتشكّل أرستقراطية مدنية، لأنها كانت تستثني النساء والعبيد والأجانب والأطفال، أي أغلبية المجتمع. فقد كانت أثينا يومها تسنده إلى الآلهة والأساطير، وروما تسنده إلى روح القانون وجوهره، والثورة الفرنسية إلى ثلاث  قيم هي: الحرية، المساواة والإخاء. ولم تكن المواطنة، حقوقاً تُمنح للمواطنين وواجبات تقع على عاتقهم، إلاَّ لأنهم يشعرون بأنهم أعضاء في مجتمع توجهه قيم مشتركة.

 لقد تميّزت المواطنة بالحركة والتطوّر، وهذا ما يتبيّن من مسيرتها التاريخية، التي تُشير إلى أنَّ كل مرحلة قدمت مساهمة، أغنت مفهومها رغم وجود فترات شهدت فيها انحسار هذا المفهوم. كما شهدت تناقضات ناشئة عنه وبأشكال عنيفة في فترة الثورة الفرنسية.

المواطنة والانتماء إلى الوطن

يسمى المشاركون في السلطة السياسية مواطنين، ويسّمون رعية، لخضوعهم لقوانين الدولة. ويرى الكثير من الباحثين أنَّ المواطنة مثل الديمقراطية في المجتمع، في كثير من الأحيان تكون نتاج المتناقضات والتسويات، المنازعات والتوافقات، قيم وأخلاقيات، مواجهات ومجابهات، إيجابيات وسلبيات. 

ومع ذلك يبقى التعرّف إلى مفهوم المواطنة أو التعريف والتحدّث بها، عملاً يبتعد عنه غالبية الكتّاب، معتبرين أنَّ كل التعاريف أو المقاربات أكانت قانونية أم سياسية أم اجتماعية أم تاريخية أم فلسفية، تواجه إشكاليات تتعلّق بخصائص هذا المفهوم. فمن المنظور السياسي في لبنان، ليست المواطنة مجرّد ممارسة لحق الإنتخاب، لأنَّ المواطن بمقتضى المواطنة، يتمتّع بحقوق تخوّله ممارسة أفعال سياسية، مثل حق الإضراب الذي اعتبره المجلس الدستوري حقًا للجميع، له الصفة الدستورية كمبدأ استمرارية الخدمة العامة، والتظاهر وتشكيل أحزاب سياسية وجمعيات ونقابات. لذا يعتبر العمل النقابي، على أنه المواطنة في المشاريع، كما النشاطات الاجتماعية السياسية، ومن هذا الإطار يعبّر المواطن عن آرائه بكل الوسائل التي تندرج تحت مبدأ الحريّات العامة والخاصة.

والمواطنة هي وعي الإنسان بالانتماء للوطن، وقضية الانتماء للوطن، لا تعني حمل جنسيته فحسب، ولا الهوية الإثنية أو الإيديولوجية تحدّد المواطنة، وذلك الاعتقاد خطأ، وهو الذي أدى بشعوبنا إلى الاختلاف والنزاع والصراع وظهور الإثنيات العرقية والطائفية، وممارستها نهارًا جهارًا  من دون أن تتمكّن الدولة من ضبطها.

اهتمام الدولة بالمواطن وتأمين العيش الكريم له

  إنَّ دور الدولة هنا، هامٌ جدّاً، بجعل الناس مستقلّين ومتساوين في الحقوق والواجبات، ليكون لدى المواطن الإحساس بالمسؤولية، وتكريس ثقافة الانتماء إلى الوطن التي لم ترتقِ فوق الانتماءات الإثنية الأخرى. والاتهام في ذلك الفشل، قد يوجّه إلى التربية والتعليم، فدورهما أساسيٌ في بناء المواطنة وترسيخها لدى النشء، يليها دور الدولة في تطبيق القانون، والاهتمام بالحقوق والواجبات لتعزيز الشعور بالمواطنة؛ الذي يتجلّى باحترام المؤسّسات وقوانينها، لأنها تعبّر عن حضارة الشعوب الثقافية، المتمثلّة بالاهتمام بالمواطن وتأمين العيش الكريم له، وخدمته بآمان واطمئنان، والالتزام بالقوانين والأعراف، ودفع الرسوم والضرائب المستحقّة، والعمل بضمير مهني، والمراقبة الإدارية الذاتية، والعمل لصالح الدولة والمؤسّسة، وليس للصالح الشخصي أو الحزب الذي إليه ينتمي. كلّ ذلك وغيره الكثير، يقوّي الدولة وبالتالي يقوّي المواطن، كما أنَّ ضعف الدولة يؤدّي إلى ضعف المواطنة، فتظهر عندها الإثنيات المتصارعة. (rentalsfloridakeys.com) فالانتماء الوطني أساسٌ للانتماء القومي، وأنَّ الدين لله والوطن للجميع، ولا تعارض بين الدين والمواطنة، وكل تقصير أو إهمال أو إستهتار يُضعف المواطن وبجعل من الناس غير متساوين في الحقوق والواجبات ضائعين مترددين غير مستقلّين.

 

الارتباط بين الوطن والمجتمع 

إنَّ المواطنة هي شكل من أشكال الانتماء إلى الوطن والمجتمع، إذ يفترض ذلك وجود ارتباط بين الوطن والمواطن، كما أنه يفترض حقوقًا على كل واحد منهما تجاه الآخر. هناك عدة خطوات يجب اتباعها، لكي يرتقي مجتمع متعدّد الطوائف إلى تحقيق المواطنة، التي تبدأ من الأسرة ومن ثم المدرسة، اللتان تعتبران من المؤسّسات الأساسية في الوطن، في بلورة مفهوم المواطنة وصولًا إلى الجمعيات، والمجتمع الأهلي، بفئاته وأحزابه.

إنَّ الطوائف في لبنان نعمة نتغنّى بها، لكن مسار الطائفية وانحراف دورها يؤدّي إلى الالتباس والضياع بين مفهومي الوطن والطائفة والانتماء إليهما. كما ينجم عن تعميم ثقافة الطائفة بديلًا من ثقافة الوطن المبنية على وحدة المواطنة، وبالتالي إضعاف الرابط والشعور الوطني كجامع أساسي مشترك لكل الشعب. كما يؤدّي تعدّد مصالح الطوائف وتباينها وتناقضها مع بعضها، إلى إضعاف وحدة الشعب والوطن. وحالة التناقضات الداخلية هذه، تدفع قيادات هذه الطائفة أو تلك، إلى المراهنة والاستقواء بالخارج، في مواجهة خصومها في الداخل، ما يحوّل الوطن إلى ساحة لفعل وتصادم العوامل الخارجية، الإقليمية والدولية، ويجعل كل تغيير أو خلل يطرأ في التوازن الخارجي، ينعكس على الاستقرار الداخلي.

وعي الانتماء إلى المجتمع 

المجتمع في لبنان بشكل عام، عبارة عن ذلك الحيّز العام، الذي يقابل حيّز الدولة، حيث تتشكّل فيه الأجهزة والمؤسّسات الاجتماعية المستقلّة عن الدولة. ففي المجتمع المدني، يتجلّى الفرق بين الحريّة السياسية، التي هي ساحة إبداع، وفعل التزام تجاه الآخر وشعور بالمسؤولية، وبين المجتمع الطبيعي الذي يوفّر الانتماء على أساس المواطنة، التي تعني مشاركة الفرد وفعاليته السياسية.والدولة ليست مؤسّسة مضافة إلى المجتمع، بل هي المجتمع نفسه، إنَّها داخليته، ومرجع هويته ومبرّر وجوده. هذا يعني أنَّ تفكُّك الدَّولة وتضعضُعها، لا ينتجُ مجتمعًا مدنيًا متماسكًا، بل يؤدِّي إلى تنشيط الإنتماءات العضوية الضيقة على اختلافها.

 

الانتماء الى العائلة والمجتمع

 العائلة هي المكوّن الأول  في المجتمع، الذي يتواجد فيه الإنسان، وفيه يكتسب ومنه يطلّ على الحياة. والمدرسة هي المجتمع الثاني بأهلها ومربيها الـمباشرين للأولاد، بعد أقربائهم وجيرانهم ومحيطهم ومنطقتهم. ومن هنا ينشأ الإنسان على مفهوم الإنتماء إلى الجماعة، ليكتشف الآخر المتنوّع والمختلف. مع كلّ هذا الاختلاف والتعدّد، يكون هناك عائلة ورابطـة وعلاقة تربط كلّ أفراد البيت، مرورًا بالحي والبلدة والمنطقة حتى تصل إلى الوطن بأكمله.

 إنَّ حسّ الانتماء إلى العائلة ينمو بقدر ما تـخلق العائلة احترامًا ومناخات وتجسّد قيمًا إنسانية، وعكس ذلك ينحرف الفرد ويميل إلى الـهروب من المجتمع، يعامله بروح الكراهية والعدائية، بدلًا من أن يُـحبّه. فبقدر ما نكون واعين لرسالتـنا، من خلال حضورنا ومساواتنا بعضنا ببعض، نلتزم ما علينا من واجبات، مقابل تأمين الدولة ما عليها من حقوق تجاه أبنائها وشعبها، نـحصل على مقومّات ثابتة، في مجتمع نحافظ عليه وندرك الانتماء إليه. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *