في الذّكرى العاشرة لرحيل العلاّمة عبد العزيز بنعبد الله كتابه”شقراءُ الرِّيف”: عرض قصصيّ لكفاح شعب

Views: 546

د. محمّد محمّد خطابي*

حلّت مُؤخّراً الذكرى العاشرة لرحيل الفقيه العلاّمة الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله ـ الذي انتقل إلى الباري جلّت قدرته في شهر فبراير عام 2012 رحمه الله ـ لهذا العالم الموسوعي الكبير جوانب أخرى من كتاباته وإبداعاته واهتماماته الأدبية، التي لم يسلط الدّارسون عليها الأضواءَ بما فيه الكفاية بقدر ما عُنُوا به كعالمٍ لغويٍ كبير، وباحثٍ معجميٍّ فذّ، ومؤرّخٍ جادّ جهبذ، وهو الجانب المتمثّل بشكلٍ خاص في كتاباته وإبداعاته الأدبية المتمثّلة في مجموعته القصصيّة التاريخية التي تحمل عنوان «شقراء الرّيف»، الصّادرة عن دار النّجاح في بيروت.

قصص من وحي التاريخ

 تضمّ مجموعته القصصية «شقراء الرّيف» بين دفّتيها خمسَ قصص هي بالتوالي: شقراء الريف، الجاسوسة السّمراء، غادة أصيلا، في هضاب الريف، الجاسوسة المقنعة. تدور مواضيعها حول بعض مظاهر تاريخ المغرب. يتعرّض المؤلف في القصّة الأولى إلى مسألة تحرير مدينة العرائش التي ظلت ترزح عقوداً من السنين تحت نير الاستعمار الإسباني، ثم استرداد الجيش المغربي لمدينة أصيلا كذلك. وفي القصّة الثانية نلتقي مع الفتاة «يطّوّ» الرّيفية التي لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على استرداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليز عام 1095هجرية. أمّا القصّة الثالثة فتصوّر لنا معركة وادي المخازن الشّهيرة أو معركة الملوك الثلاثة، التي تحطّمت فيها فلول الجيش البرتغالي وحقق فيها المغاربة نصراً كبيراً كان له أثر بعيد المدى في تحطيم شوكة الاستعمار قروناً طويلة. ونلتقي في القصّة الرابعة مع جانب مشرق من حرب الريف التحرّرية الباسلة ضد الإسبان، وهي تركز بصفة خاصّة على معركة أنوال الماجدة الشّهيرة التي ألحق فيها الريفيّون بالإسبان هزيمة منكرة لا زالت أصداؤها تتردّد إلى اليوم، وتسلط القصّة الأخيرة من المجموعة الأضواءَ على معركة الزلاّقة التي انهزمت فيها جيوش الملك الإسباني الأذفونش (ألفونسو السّادس) ويؤول الفضل في هذا الانتصار للجيش المرابطي بعد أن عزّز جيوشَ المعتمد بن عبّاد.

العلّامة عبدالعزيز بنعبدالله

 

من جورجي زيدان الى بنعبدالله

تتبادر إلى ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى وهو ما يزال يتابع أسطر القصّة الأولى  قصص جورجي زيدان، والواقع أن المجموعة لم تخرج عن النسق نفسه، الذي ألف جورجي به قصصه المعروفة التي اتخذت من التاريخ الإسلامي مادّة حيّة لها، والتي كانت تمثّل مرحلة مّا من مراحل تطوّر الفن القصصي التاريخي في الأدب العربي المعاصر، غير أن هذه المجموعة تختلف عن روايات زيدان بالأمانة التاريخية، والصّدق في الرواية، وخلوّها من أي تعصّب أو ميول أو خلط تاريخي، كما تتميّز عنها باختيارها فترات القوّة والنصر والازدهار والتألّق في تاريخ الأمّة الاسلامية (في المغرب) عكس ما قام به جورجي زيدان في قصصه، حيث أنه كان يعهد أو يعمد إلى اختيار فترات الضعف والتراجع والانحطاط والتقهقر، لا فترات القوّة والعظمة في التاريخ العربي الإسلامي. ولست أقصد هنا إلى عقد مقارنة بين هذا العمل أو ذاك، وإنما توخّيت، فقط، مدى التقارب الفني ومحتوى المضمون الذي يجمع بينهما، وليس معنى هذا كذلك أن المؤلف وقع تحت تأثير هذا الأخير، أو استظلّ بظلاله، أو أنه سعى إلى تقليده عن عمد، وإنما كان لزاماً عليه – وهو يكتب في هذا الباب- أن يسلك ذلك النهج ما دام قد اتّخذ من تاريخ الكفاح الوطني، والنضال العسكري في المغرب مادّةً لقصصه. ولا غرو، فالمرحوم بنعبد الله كان رجلاً مشهوداً له بطول الباع في تاريخ المغرب وحضاراته على اختلاف مراحلها.

مفاجآت وتطلّعات

ولئن لم يقدّم لنا بنعبد الله، في هذه المجموعة، قصصاً بمفهومها الفنّي المعاصر، فذلك لأن هذا المجال لم يكن مجال تخصّصه، بل كانت له اهتمامات علمية ودراسية وتاريخية ولغوية أخرى، برع فيها وأبلى البلاء الحسن، فضلاً عن أنّ قصصه مستوحاة من التاريخ، ومن ثم كان لزاماً عليه أن يكون أميناً في تصوير الأحداث ونقل الوقائع، وهذا هو الشأن مع جلّ القصص التاريخية، التي قد يفتقر بعضها إلى الجانب الفني إلاّ في ما ندر- أكثر من غيرها التي تعالج مختلف القضايا الإنسانية أو الاجتماعية في حياة الفرد والجماعة، ولكنّ القارئ مع ذلك لا تغيب عنه قط وهو يتابع أحداثَ المجموعة – تلك المتعة القصصية التي تخلق فيه روحاً من التشوّف، والتشوّق والتطلع أبداً إلى ما سيحدث في النهاية، ولقد وفّق المؤلّف في هذا الجانب (القصة الثانية والثالثة والرابعةعلى وجه الخصوص) فقد كانت هذه القصص أكثر فنيّة من الأخريات، وإن كان يتخللها هي الأخرى في قليل من الجوانب بعض المواقف الخطابية التي- وإن كانت تضرّ بالقصّة فنيّاً- فإنّها تخدم الموضوع، والسياق العام للحكيّ. إن القارئ لهذه القصص الثلاث بالذات ينسى نفسه في غمرة الأحداث والمفاجآت والتطلعات التي تشدّه باستمرار إلى المتابعة، والركض وراء السطور، بخلاف القصّة الأولى «شقراء الرّيف» والأخيرة «الجاسوسة المقنّعة» فإنهما يأتيان بعد هذه القصص، بالدرجة، من الناحية الفنية، وبجانب الكثير من الحقائق التاريخية الواقعية المستوحاة من التاريخ نفسه.

وتغلف هذه القصص جميعها ألوانٌ من الرومانسية الحالمة، ويلاحظ القارئ لها أن نهاية كل قصة تكاد تكون متشابهة وهي حفلة زفاف مقرونة بحفلة النصر، ولعلّ الكاتب يرمز بهذه الحفلات والأفراح إلى بداية عهدٍ جديد في حياة المغرب والمغاربة بعد كل قصّة، وتوقه إلى التحرّر والانعتاق.

 

تقاليد وعادات وأنماط عيش

وتتجلى لنا في هذه القصص عدّة نواح ا جتماعية وتاريخية واقتصادية ودينية وغيرها، طبعت حياة السكان على امتداد القرون، ففي القصّة الأولى نلتقي مع كثير من العادات الاجتماعية التي جُبِل عليها المغاربة، إذ في معرض كلام الكاتب عن مدينة سلا يلفت نظرنا إلى: «وجود كثرة اليهود والمسيحيين في هذه المدينة أكثر من غيرها من باقي مدن المغرب». كما نعرف أنه كان في المدينة كثير من قناصل الدّول الاجنبية منها «هولندا، وإنجلترا، وفرنسا…». وتظهر الحالة الاجتماعية واضحة في: «كثرة البواخر والقوارب، وكيف أنّ مَرْسىَ مدينة سلا كان من أعظم المراسي المغربية، يليه مرتبةً مرسى مدينة آسفي من الناحية التجارية». وتتجلى هذه الناحية كذلك في القصّة الثانية، حيث يتضح لنا أنّ المغاربة كثيرو الأسفار والتنقلات، ومن ثمّ كان تحذيقهم للغات الأجنبية على اختلافها «.. فكان يجيب في لهجة إنجليزية صميمة حذقها عندما كان يرافق أباه في متجره الضخم في مانشستر». وفي القصّة نفسها يصوّر لنا الكاتب طبيعة المرأة المغربية، خاصّة التى تعيش في الرّيف أو الأطلس، حيث أنها كانت تتجشّم المشاق، وتواجه الأخطار، وتتحمّل الصعاب، «وكيف أنها تعالج ليل نهار ضروباً من الأشغال المرهقة منذ غضاضة الإهاب». وتتجلى لنا الناحية التجارية في وضوح عندما نقرأ «…ثم أديرت كؤوس الشّاي الذي كان المغرب قد استورد من ورقه الأخضر كميّات طائلة منذ شهور من بلاد الإنجليز، قبل أن يصدر المولى إسماعيل الأمر بإجلاء حاميتها عن طنجة المغربية، فتضخّمت أصواتٌ تُلحِّن بردةَ البوصيري احتفاءً بربيع الأنوار شهر المولد النبوي الشريف». كما يتبيّن لنا شغف المغاربة عموما بهذا المشروب اللذيذ منذ بدأوا يستوردونه، وكيف أنّهم يقدّمونه في حفلاتهم وأفراحهم».

 قصور باسقة وحدائق غنّاء

وإذا انتقلنا إلى الجانب التاريخي في هذه القصص، فإننا نجده في الواقع من أكثر الجوانب إشراقاً، فقد أرّخ المؤلف فيها لحقبٍ متفاوتةٍ من تاريخ المغرب حيث صوّر لنا بطريقة متناهية في الدقّة حياة الناس في ذلك الإبّان، وبعض المعاملات التي كانت تجري بينهم في كل مكان، في القصور الضخمة والدورالكبيرة  والأسواق  الفسيحة والحدائق الغنّاء ، أو المدن والأديرة…الخ. فقدّم لنا لوحات مختلفة حافلة بالعديد من الصّور لأنماط متباينة من حياة هؤلاء، وبعض عاداتهم وتقاليدهم وعوائدهم حتى ليخيّل للقارئ أنّ الكاتب قد عايشهم في تلك الفترة، أو هذه الحقبة من الزمان، كاحتفالاتهم بمقدم هلال رمضان، أو الأعياد، أو كافة المناسبات الدينية والاجتماعية الأخرى».

ينتقل الكاتب بك في هذه المجموعة حتى بين قصورغرناطة ولشبونة أو غيرهما واصفاً لك كل ما كان يجرى فيها من أحداث، أو تدور فيها من دسائس، أو يحاك بداخلها من مكائد ضد الوطن، وهكذا تجد نفسك إمّا أمام وصف لمكان أو حادثة، يقول: «وتراءت لنا من ناحية الشمال سلا القديمة محاطة بأسوار مهدّمة تنفذ من أبوابها الواسعة العربات والرّواحل، وتحفّ بها مروج خضراء، يفصلها عن حدائق جارتها سلا الجديدة نهر صغير.. ثم شاهد من بعيد منارة سامقة (منارة حسّان، الأخت التوأم لصومعتيْ الكتبيّة بمرّاكش و»لاخيرالدا» بإشبيلية) فسأل عنها أحد المارة فأخبره بأنها من بناء السلطان أبي يوسف يعقوب المنصور، وأنّ المئتي سارية التي تتراءى من بعيد كان عددها يبلغ أربعمائة في الأوّل..).

 

الأسلوب هو الرجل!

أمّا من ناحية الأسلوب فيلاحظ خاتم المؤلف اللغوي مطبوعاً بامتياز في هذه القصص، ولا غرو فالرّجل كان من أكبر المشتغلين في حقل اللغة، وشواغلها، وتعقيداتها، كان ينام ملأى جفونه عن شواردها، ويبيت الخلق دونه يختصم، بعد استئذان أبي الطيّب، وهكذا أجاد المؤلف وأبدع، وجال وصال فلا أجمل ممّا كتب ولا أروع، إلاّ أنه يلاحظ في هذه القصص بعض المواقف الخطابية والحماسيّة المطوّلة التي تضعف – فنيّا- سياقها العام- كما سبق القول- وبالتالي تنتقص من سبك وحبك وترابط العمل الأدبي والإبداعي، وتضيّع على القارئ روعةَ التتبّع والتطلع، وتقطع عليه متعة الحبكة والترقّب.

وكان المؤلف حريصاً كل الحرص من جانبٍ آخرعلى استعمال لغة عربية نقية سليمة بعيدة عن العامية والهلهلة والضعف، عدا في بعض المواقف التي تناسب المقام، بل كانت في مجملها لغة امتازت بالجزالة والخصوبة، حتى أنها جاءت في بعض الأحيان مزدانة ببعض المحسّنات اللفظية، والبديعيّة ممّا جعل استعمالها مقبولاً وجميلاً في آن. وتتخلل القصص أوصاف رائعة تدلّ على مدى تضلّع المؤلف في الوصف، وقدرته على التشخيص. كما يظهرأثر الصّوفية والتديّن واضحاً في معظم القصص، كيف لا وهو من أقطابهما، ويلاحظ أنّ المرأة في هذه القصص كانت تلعب دورالمستطلعة لأخبار العدوّ.

والحقيقة أنّ قصص المرحوم عبد العزيز بنعبد الله أرّخت بطريقة سردية، قصصية، مسهبة، ومشوّقة لفترات حاسمة في تاريخ كفاح المغرب المرير ضد الاستعمار بمختلف أشكاله، في أسلوبٍ سلس يحمل بين طيّاته كثيراً من الحقائق التاريخية لرجلٍ وافرِ البضاعة، واسعِ الاطّلاع في هذا الباب، وبذلك يكون قد أسدى إلى المكتبة العربية عملاً أدبياً جليلاً، يُضاف إلى العديد من مؤلفاته الغزيرة الأخرى في مختلف مناحي العلم واللغة واللسانيات والفقه، والأدب والحضارة والتاريخ.

وإن نسيتُ فإنّني لن أنسى قط تلك السّنوات الثماني الخصبة التي قضيتها أعمل إلى جانبه خبيراً في مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومُحرّراً، وكاتباً، ومُترجماً، ومُشرفاً على أبواب ثابتة في مجلته الرّصينة «اللسان العربي»، التي ما زالت تصدر إلى يومنا هذا في ثوب قشيب ومضمون عميق، كان رحمه الله عالماً جليلاً، وعَلَماً بارزاً من علماء وأعلام المغرب المعاصربشهادة علماء ومفكرين ومثقفين افذاد من معاصريه في مشارق الأرض ومغاربها .

***

*كاتب من المغرب، عضو الاكاديمية الاسبانية الامريكية لللآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *