سعيد تقي الدين

Views: 566

صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “…إحكي جالس” مذكرات لرمزي علم الدين. في ما يلي فصل من الكتاب بعنوان “سعيد تقي الدين”.

 

 

خالي سعيد أو “خيلي” سعيد هكذا كنا نناديه وبقي ماثلاً في حياتنا دائماً كالنداء. كان رجلاً مختلفاً في كل شيء ليس لأنه خالي بل لعلّه أحب شخصية يمكن أن يتعرف المرء إليها في حياته. عاصفة في إنسان، كل شيء في حياته كان بلا حدود. كان كريماً ومتواضعاً وذكياً ولماحاً وساخراً. عشت قربه عشر سنوات قبل هجرته الأخيرة إلى كولومبيا. وكانت هذه المرحلة من أهم مراحل حياتي وساعدني في صقل شخصيتي وأنار لي الطريق. ودائماً أستعيد في ذاكرتي عباراته اللمّاحة ومواقفه الأصيلة.

كان يسكن في الطابق الأرضي في بنايتنا في رأس بيروت. كنت في العاشرة من عمري وحتى أصبحت في العشرين كان ماثلاً أمامي. علّمني أن أكون محبّاً للغير وكريماً وقاسياً. أذكره يصعد إلينا في عيد الفصح ومعه سلّة بيض ملوّن يصرخ: “… ولاه! قوم فاقس خالك”. كان كريماً ليس الكرم الحاتمي وحسب بل الكرم الإغريقي، كرم الروح.

سمعته يقول لابن عمه وسيم تقي الدين: “قوم جبلي كل شي بجيبتي واعطيهن ياهن”. كان يعطي الفقير من قلبه ويعطي إكرامية للنادل في المطعم أكثر من ثمن الغداء. كان يعطي من ذاته لكل أمر ولكل قضية يؤمن بها. يأتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ويقول: “ولاه… قوم فروش لخالك”. وفي السابعة صباحاً لا أجده في الفراش.

كان يشعر انه مطارد وخصوصاً بعد اغتيال غسان جديد عام (1957) واكتشفت انه كان يختبئ ولا ينام، ولعله كان ينام كل يوم في مكان، وأحياناً يقصد بیت عبدالله قبرصي حتى يغفو كم ساعة. كان يمشي مثل كتلة متراصة، وإذا مشى يسحب معه الهواء والنظر واللهفة والهالة.

كان صادقاً وطموحاً ومشغولاً بالأفكار القومية، يزرع الغرفة بخطواته مفرطاً بتدخين السجائر ورمي أعقابها في ارض الغرفة وزواياها.

لم يطلب مني مرة أن انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي أو حضور أي اجتماع. كان يقول لابنته ديانا على مسمعي: “لا أريد أن يقولوا انك بنت سعيد تقي الدين بل أن يقولوا هذا والد ديانا تقي الدين”.

(الآن يقولون اني والد أمل علم الدين، وهذا شرف لي).

كنت أرافق خالي سعيد من بعقلين إلى بيروت في سيارته مع السائق (رامز) وكان يقول شيئاً لم أفهمه فأسأله أن يعيد ما قاله… فلا يجيبني…

ثم يتكلم مرة أخرى فلا أجيبه فيصرخ بي: “ولاه.. ليش ما بترد على خالك!” فأقول له: “حيّرتني ايمتى بتحكي معي وأيمتي مع حالك!”.

وعند مفرق بيتنا في بيروت أطلب منه أن انزل وأتمشى إلى المنزل فيجيبني قائلاً: “خلي شخصيتك قوية واطلب من الجميع أن يوصلوك حيثما تريد أن تصل!!”.

لا أنسى أبداً لحظات حضوري مسرحياته في الجامعة الأميركية “حفنة ريح” و”نخب العدو” و”لولا المحامي” وكنت أزهو بنفسي مفتخراً لأن مؤلف هذه المسرحيات هو خالي. اعتقد جازماً أنه لم يأخذ حقّه ولم يرَ أفكاره تتحقق مع أن في داخله كانت تعتمل أفكار كثيرة ومشاريع وآفاق. وكنت أعجب كيف يجد الوقت ليفعل كل ذلك، ولكن مع محبته التي كانت بلا حدود فقد تنفجر قساوته إذا مسّه أمر أو إذا بدر شيء لا يعجبه وكان لسانه سليطاً. اليوم كلما قرأت كتابه “رفة جناح” أجده هناك مثالاً نموذجياً لكثير من أفكار أنطون سعاده وإشراقاته.

كتب غير مرة لخالي بهيج عندما فاز بانتخابات النيابة كلمتين “غير شكل”: “تذكر يا بهيج، بيّك ما كان يحب حدا ينام حدو وايديه موسخين”. أعتقد أن الأقرب إليه بين اخوالي كان خالي بديع لأنه كان بعيداً عن السياسة والمال والمصالح، وكان أستاذاً جامعياً بارعاً في مادة الرياضيات.

خالي سعيد أستعيده وأتذكره في العديد من المواقف وكل يوم. كان أحد صنّاع فضاء الأمل الذي شملنا. كان رجلاً اكبر من الحياة.

  • مثال من رسائل خالي سعيد تقي الدين

“ولاه؟؟؟ قشوط عالسفارة الطليانية وقلهم انو “خيلي” بدو يعمل تجارة معكم… واعطيهم عنواني. وما ترجع والسطل معك!!”

في عام 1949 تمّ تعيين “بهيج تقي الدين” وزيراً للزراعة في لبنان وحين علم أخوه الكاتب والصحفي “سعيد تقي الدين” بذلك كتب له هذه الرسالة: “تحياتي أخي بهيج، علمت أنك قد أصبحت وزيراً، وهذا شرف كبير لعائلتنا ومنطقتنا، لكني أحبّ أن أذكرك بأننا عندما كنّا صغاراً كنا نتسابق للنوم في فراش أبينا لروحه السلام، وأتذكر أن الوالد كان يشمّ رائحة أيدينا ليتأكد أنها نظيفة وأننا غسلنا أيدينا بعد الطعام لكي يسمح لنا بالنوم معه. والآن يرقد أبونا تحت التراب، ولا شكّ أننا سوف نرقد معه بعد مدّة، فأحرص يا أخي أن تكون يداك نظيفة لترقد معه بأمان”. كان ذلك من أروع ما قرأت.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *