“مطر خلف القضبان” رواية للكاتبة اللبنانية ميرنا الشويري… هل ينهي الهروب إلى الرب الرحيم فظاعات السجون ويحوّلها إلى نعيم ؟
الشاعر عمر دغرير
(تونس)
ما نعرفه عن أدب السجون يتلخص في أنه نوع من أنواع السرد الذي ينقل لنا الحياة خلف القضبان، ويستعرض فظاعة الظلم الذي يتعرض له السجناء، وقد يسلط الضوء على الأسباب الأساسية التي أودت بهؤلاء إلى السجن. والمعروف في هذا المجال ، أن السجين هو الذي يقوم بنفسه بتدوين يومياته ، وتوثيق كل ما يمرّ به من أحداث فظيعة وموجعة خلف القضبان . ولعل أهم الكتب التي ظهرت في هذا الخصوص جاءت في البداية بأصوات رجالية ، ويبدو أن صوت المرأة في هذا المجال كان نادرا ، حتى أننا نستحضر على سبيل الذكر لا الحصر مجموعة من الكتب التي أدرجت ضمن أدب السجون ،وهي صادرة في الفترة المتراوحة بين أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي ونذكر منها : رواية أولى (القوقعة) للكاتب مصطفى خليفة. ورواية ثانية (حيونة الإنسان) للكاتب ممدوح عدوان. ورواية ثالثة (يسمعون حسيسها) للكاتب أيمن العتوم. ورواية رابعة (شرف ) للمؤلف صنع الله إبراهيم .ورواية خامسة (شرق المتوسط) للكاتب عبد الرحمن منيف. ورواية سادسة (دروز بلغراد: حنا يعقوب) للكاتب ربيع جابر. ورواية سابعة (من تدمر إلى هارفارد) للكاتب البراء السراج. ورواية ثامنة (تزممارت: الزنزانة رقم 10) للكاتب أحمد المرزوقي. ورواية تاسعة (تلك العتمة الباهرة) للكاتب طاهر بن جلون . ورواية عاشرة (خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سورية) للكاتبة هبة الدباغ. وكما تلاحظون من جملة عشرة روايات ،رواية واحدة جاءت بصوت نسائي ، وهي في اعتقادنا أول رواية عربية ،تكتبها إمرأة ،وتنتمي لأدب السجون. وفيها تحكي “هبة الدباغ” عن معاناتها داخل السجون السورية.والأكيد أن عنوان الرواية يمثل ليلة القبض عليها، عندما طلب منها رئيس المخابرات أن تحضر معه للتحقيق 5 دقائق وحسب، فعادت إلى بيتها بعد 9 سنوات . وهذه الرواية في الحقيقة لا تسلط الضوء على التعذيب داخل السجون بقدر ما تركز على السجين نفسه، وعلى حالته النفسيّة وعلى علاقته بمن حوله.
لقد استعرضنا كل ما سبق لنصل إلى رواية جديدة انتهينا من قراءتها أخيرا ، بعنوان (مطر خلف القضبان) وهي للكاتبة اللبنانية ميرنا شويري . فماذا عن هذه الرواية وماذا أضافت لأدب السجون ؟

لقد صدرت هذه الرواية في أكثرمن 190 صفحة من الحجم المتوسط وفي طبعة أنيقة عن دار نلسن للنشر في أواخر سنة 2021 ، وهي تحتوي على 25 فصلا ،وكل فصل اختارت له الكاتبة عنوانا يختزل ما ورد فيه من أحداث ،ونلاحظ في هذه العناوين أن كلمة (مطر) وكذلك كلمة (صمت) اسْتُخدِمتْ في مناسبات عديدة . كما نلاحظ أن هذا الكتاب يجمع روايتين مختلفتين في رواية واحدة.الرواية الأولى وبطلتها إمرأة سجينة تدعى (ميشا) كانت مديرة لمؤسسة مالية على ملك عمّها الذي أوقعها في عملية تحيل أدخلتها السجن ، وهرب هو بالمال إلى أستراليا .وتروي السجينة (ميشا) قصتها في شكل مذكّرات، وتخبرنا كيف دمّرالسجن حياة إبنها الوحيد ،وكيف أن والدها مات قرب شباك السجن في ليلة الميلاد ، وتؤكد على أن موته كان نقطة تحول في حياتها ،بحيث تختار التقرب من الله في يقظة روحية ، لتصبح نوراً يضيء ظلام السجن، وتساهم في تغيير حياة بعض السجينات لتصبح بعد فترة من المقاومة والعناء ( ميشا) المبشرة .
كما نكتشف في هذه المذكّرات قصص سجينات في منفى لنساء بريئات، أضاعتهنّ أحكام غير عادلة في محاكم مضلَّلة يحكمها الفساد .هنّ نساء أجبرن على الفرار من مجتمع لايخلو من التحرش والاغتصاب والفساد خارج القضبان ، فكان الفساد والتحرش ومحاولات الإغتصاب لهنّ بالمرصاد داخل السجن . وكم هي قصص النساء عديدة في مذكرات (ميشا) .بحيث نتعرف على (آية) المصابة بالإيدز ،وكم كانت غارقة في مستنقع الدعارة وفي السجن ظلت تنام في غرفة صغيرة وكل السجينات تتجنبن لمسها خوفا من العدوى.كما نتعرف على (تيماء) ابنة تاجر المخدرات الذي يورطها في قضية مخدرات ويزج بها خلف القضبان .
أما الرواية الثانية وبطلتها إمرأة أيضا، تدعى (ماري أنجيلا) وهي امرأة هجينة لبنانية بريطانية دخلت السجن كزائرة وليس سجينة ، وتحكي عن سيرتها ،وهي العاشقة الطموحة التي همشها صديقها الذي أحبته بصدق لكنه تركها بعدما فقدت حاسة السمع وأصبحت صماء. وانتقاما منه واعتزازا بنفسها اختارت أن تكون السجينات محور دراستها الجامعية وهي مقتنعة بأن صوت المرأة داخل السجن يزداد اختناقا بسبب الإضطهاد وسوء المعاملة ،و تعددت زياراتها لسجن النساء وتعرفت على ظروفهن وحققت معهن مباشرة ومع هذا التحقيق ،الذي شمل قصصا كثيرة عن فتيات سجنّ قهرا وظلما من العالم الخارجي . ومن بينهن نتعرف على (قمر) السورية التي مورست عليها تجارة البشر، وأصبحت بضاعة يتبادلها الرجال حتى زج بها في السجن . ونتعرف أيضا على (نهاد) التي كانت ضحية والدها الذي بدأ يتاجر بجسدها بعد موت والدتها، ولما هربت من مستنقع والدها الوسخ ، مع حبيبها ، استغلها هذا الأخير وباع جسدها كما اشتهى ،حتى وجدت نفسها خلف القضبان.
وفي نفس التحقيق استعرضت الراوية (ماري أنجيلا) حكاية تعلقها بالكاتب المسرحي (أنور حلمي) الذي أصيب بالسرطان ومات بعد معاناة مع المرض وبعد قصة حب تعطرت برائحة المطر .
والمطر حضر بغزارة بكل رمزياته داخل السجن وخارجه . فأوجاع السجينات ومعاناتهن ودموعهن كانت لا تختلف عن المطر في غزارته خلف القضبان . أما المطر الذي واكب قصة حب (ماري وأنور) وكان شاهدا على عذرية هذه العلاقة وعلى نظافتها من الدنس حتى أن الحب صار حلما يخشى عليه من التبخر وقد جاء في صفحة 17 على لسان (ماري أنجيلا) :
(…لكن ركضت بسرعة إلى غرفتي حتى لا يتبخّر حلم المطر…).
والكاتبة بأسلوبها الرشيق وبلغتها السهلة والبعيدة عن التكلف والغموض ،تمكنت من شدّ القارئ والترحال به بين العديد من المواضيع الحساسة مثل الحب والوهم والظلم وتجارة البشر والدعارة لتنتهي الرواية بمشهد حزين ومفرح في آن ، حزن (ماري أنجيلا) على فراق حبيبها ، وفرحها بلقائها لأول مرة مع (ميشا) المبشرة التي أصبحت تعيش حياة قاسية خارج السجن . ويتضاعف الفرح حين تتحقق عدالة السماء ويعود الحق للمظلومة (ميشا) بعد أن أرجع لها عمها المجرم مبلغ ربع مليون دولار . ويبقى السؤال هل تعوض الأموال سنوات السجن ؟ والمهم في نظر الكاتبة وهي الرسالة التي تريد إيصلها إلى القارئ ، هي أن (ميشا) وجدت راحتها في اليقظة الروحية التي عاشتها في آخر أيامات السجن وخارجه وهي التي قالت في صفحة 76 :
(… يا ربّ.. أغلق عيني وأسمعك، فأرسل لك محبتّي وطاعتي، وأخبرك عن وجعي الذي ينخر روحي من دون كلمات. أرجوك أن تساعدني، أن أنسى من أساء إليّ من دون ذكرهم حتى لا أغضب. وأنا من تخلّى عنيّ الجميع، وتخلّيت عن نفسي، أصبحت ملكاً لك، لأنّك لن تتخلّى عني. نعم كلّي لك، ولكنّني ضعيفة، فأرجوك أرسل لي شعاعاً أمسكه بيدي عندما ترتجف روحي أمام العواصف…).
وخلاصة القول “مطر خلف القضبان” على حد تعبير الشاعر السوري (جميل داري) بالمجلة الإلكترونية ألف-لام بتاريخ 6 جانفي 2022 :
(…”مطر خلف القضبان” رواية ذات أبعاد إنسانية، وكأنّ الروائية تُغمس ريشتها بأوجاع السجينات والمهمّشات الآخريات، لتكتب أوجاعهنّ بروح واحدة تلامس روح العالم…).