“حكايات شعرية” للأطفال بين الحكاية والقصيدة*

Views: 470

سلمان زين الدين

 

(1)

   بينَ يَدَيْ هذا الكتابِ خمسَ عشرةَ حكايةً شعرية، تنطوي كلٌّ منها على حكمةٍ معيّنة، وتُعبّرُ عن قيمةٍ إنسانيّة مُحَدّدة، أوْ أكثرَ. وهذهِ الحكاياتُ مطروحةٌ في الطريق، على حدِّ تعبيرِ جدِّنا الجاحظ، وأنا لم أقُمْ باختراعِها. غيرَ أنَّني أعدْت ُصياغتَها شعرًا، مُلتزمًا خطوطَها العريضة، مُتصرِّفًا بكثيرٍ من التفاصيل، بهذا المعنى، نُصبِحُ أمامَ حكايةٍ جديدة، تنتمي إلى صائغِها بقدرِ انتمائِها إلى الأصل. ولعلّ أيَّ صياغةٍ جديدةٍ لِلنّصّ هيَ إعادةُ إنتاجٍ له، بشكلٍ أو بآخر. في نصوص الكتاب، تجتمعُ الحكايةُ والقصيدةُ، أو السّردُ والشعرُ، في النّصّ الواحد، ما يَجعلُها تُخاطِبُ المخيّلةَ والأُذُنَ في الوقتِ نفسِهِ، فَتُحرّكُ الأولى، وتُطرِبُ الثانية. ولعلّ هذا ما يمنحُها القدرةَ على جذبِ القارئِ اليافعِ، بعدَ أنْ شطَّ بِهِ المزارُ عن القراءة، وسرقَتْهُ وسائلُ التَّواصلِ الحديثةُ منْ نفسِهِ. 

(2)

   من نافلِ القول، إنّ الحكايةَ هيَ الوسيلةُ الأفضلُ لإيصالِ الرّسالةِ التي تتضمّنُ قيمةً إنسانيّةً أوِ اجتماعيّةً أوْ أخلاقيّةً إلى الناشئة. ذلكَ أنّ الوعظَ والإرشادَ، والأمرَ والنَّهيَ، والتّرغيبَ والتّرهيبَ، هيَ أدواتٌ جرى استنفادُها، ولمْ تَعُدِ الوسائلَ المناسبةَ لإيصالِ الرسائلِ، في زمنٍ أصبحَ فيه العالمُ قريةً إعلاميّةً صغيرة. غيرَ أنّ الحكايةَ ما تزالُ لها جاذبيّتُها، سَواءٌ أكانَتْ بالكلمةِ أو بالصورة. ولعلّ ذلكَ يعودُ إلى أنّها تُوقِظُ  الطفلَ فينا، و تُدغدِغُ ميلَنا الفطريَّ إلى الإصغاء، وتُشبِعُ فضولَنا المعرفي. فكيفَ إذا ما وُضِعَتْ في إطارٍ شعريٍّ يُحرِّكُ مَلِكاتِ اليافعِ المختلفة، المحسوسةَ والمجرّدة. 

(3)

   إنّ هذا الكتابَ يَسْعى، أوّلًا، إلى المساهمةِ المتواضعةِ في محاولةِ جَسْرِ الفَجْوَةِ  بينَ القارئِ اليافعِ وتراثِهِ الحكائي، الكتابي والشّفاهي، فهذهِ الحكاياتُ مُسْتَقاةٌ، بمعظمِها، منْ تراثِنا العربي، وقدْ يكونُ بعضُها مُسْتَقًى منَ التُّراثِ العالمي. على أيَّةِ حال، الحكايةُ نوعٌ عابرٌ لِلّغاتِ والقوميّات، وهوَ مطروحٌ في الطريق، على المستوى العالمي. والإلمامُ بهذهِ الحكاياتِ منْ شأنِهِ أن يُعيدَ التَّواصلَ بينَ القارئِ العربيِّ اليافعِ وتراثِهِ الحكائي، وأنَ يَسمَحَ لَهُ بإطلالةٍ خجولةٍ على التراثِ الحكائيِّ العالمي. وَيَسْعى، ثانيًا، إلى المساهمةِ في مصالحةِ الجيلِ الناشئِ معَ القراءة، بعدَ إعراضِهِ عنْها، وغرقِهِ في رمالِ وسائلِ التَّواصلِ الحديثةِ المتحرّكة. ويَسْعى، ثالثًا، إلى إعادةِ الاعتبارِ إلى  الاستظهار، أحَدِ فروعِ مادَّةِ اللُّغةِ العربية، الذي همّشَتْهُ مناهجُ التَّعليمِ العامِّ في بلادِنا العربية، إلى حدٍّ كبير. 

(4)

    في رأيي، إنّ عزوفَ الصِّغارِ عنِ القراءةِ أو إعراضَهُمْ عنْها يَتَحَمَّلُ مسؤوليّتَهُ الكِبار، إلى حدٍّ كبير؛ فنحنُ لمْ نُقدِّمْ لَهُمْ ما يُثيرُ اهتمامَهُمْ، ويُدغدِغُ مشاعرَهُمْ، ويُحرِّكُ مُخيّلاتِهِمْ، ويَصقُلُ أذواقَهُمْ، ويَنزِلُ إلى مَقامِهِمْ الرَّفيع، بلِ اكتفَيْنا، غالبًا، بتقديمِ  نصوصٍ خشبيّة، عاجزةٍ عن مخاطبتِهِمْ، قاصرةٍ عن مواكبةِ روحِ العصر. منْ هُنا، كانَ هذا الكتابُ محاولةً لِكسرِ هذهِ الخشبيّة اللّغويّةِ، فَقُمْنا بتقديمِ حكاياتٍ شعريّةٍ أو قصائدَ سرديّة، بلغةٍ طازجة، تقومُ على المفرداتِ المأنوسةِ والتراكيبِ البسيطة. واستخدمْنا البُحورَ الشّعريّةَ الخفيفةَ المجزوءةَ التي تُوائِمُ بينَ الإيقاعِ والصُّورةِ والفكرة، لعلّنا نصلُ إلى القارئِ اليافع، ونُصيبُ منْهُ مَوقِعًا. وهذهِ المهمّةُ صعبةٌ لكنّها ليسَتْ مُسْتَحيلَة، وهيَ تَستحِقُّ شَرَفَ المحاولة، بالتّأكيد، فإنْ أصبْنا فَذاكَ حلمُنا، وإنْ أخفقْنا فَحَسْبُنا شَرَفُ المُحاولة. 

(5)

    إنّ الكتابةَ للأطفال، واليافعونَ منْهُمْ، هيَ مَسألةٌ على قدرٍ من الصُّعوبة، حينَ تكونُ في النوعِ الأدبيِّ الواحد، وهيَ صعوبةٌ مزدوجةٌ تتعلّقُ بالشَّكلِ والمضمون، فكيفَ حينَ تجمعُ بينَ نوعَيْنِ أدبيَّيْنِ اثنَيْن، كما هيَ الحالُ في هذا الكتاب. وَهُنا، لا بدَّ لي من الاعترافِ بِأنّني واجهْتُ في كتابةِ هذهِ الحكاياتِ / القصائدِ صعوبتَيْنِ اثنتَيْنِ؛ الأولى، تتعلّقُ بالمستوى اللُّغويِّ وضرورةِ المحافظةِ على التَّوازُنِ الدَّقيقِ بينَ التَّقعُّرِ والاستسهال، والبقاءِ في منزلةٍ بينَ المنزلتَيْن. والثانية، تتعلّقُ بالنَّوعِ الأدبيِّ وضرورةِ المحافظةِ على التَّوازُنِ الدَّقيقِ بينَ السَّردِ والشِّعر، بحيثُ لا يَطْغى أحَدُهُما على الآخر. على أنّني أزعُمُ أنّني تَخطّيْتُ هاتّيْنِ الصُّعوبتَيْنِ بفضلِ الله وَمَنِّه، وبنتيجةِ التمرُّسِ الطَّويلِ في الكتابةِ نقدًا وشِعرًا ونثرًا.

(6)

  في “حكايات شعرية“، تلعبُ الحيواناتُ أدوارَ الشُّخوص، وهذا ما يُشكِّلُ قيمةً مُضافةً إلى الحكايات، سواءٌ في أصولِها النّثريّةِ أو في صيغتِها الشّعريّة. وَغَنيٌّ عن التّعبيرِ ما تُشكِّلُهُ الحيواناتُ للقرّاءِ، بِشَكْلٍ عام،  وللأطفالِ والنّاشئةِ منْهُمْ، بِشَكْلٍ خاص. ولعلّ وَضْعَ كتابِ “كليلة ودمنة”،على ألسنةِ الحيوانات، هوَ ما أتاحَ لَهُ البقاءَ على قيدِ الحياة، بعدَ مرورِ اثنَيْ عَشَرَ قرنًا ونيِّفٍ، على صدورِه، وهوَ ما جعلَهُ يَترُكُ تأثيرَهُ على الآدابِ العالميّة. وفي هذا السِّياق، لعلّي لا أعْدو التَّواضعَ كثيرًا إذا ما زعمْتُ أنّ الحكاياتِ / القصائدَ هيَ نوعٌ من “كليلة ودمنة شعريّة”، معَ فارقِ أنّها مُستقلَّةٌ بعضُها عن بعض، ولا يَتناسَلُ بعضُها من بعض، كما هيَ الحالُ في “كليلة ودمنة”.

(7)

   وَبَعْد، “حكايات شعرية” هوَ انعطافةٌ فعليّةٌ في مَساري الكتابي، ولعلّهُ خطوةٌ  في الكتابةِ للأطفالِ والناشئةِ، سَتُعقِبُها خطواتٌ لاحقة، بإذنِ الله. وهوَ دعوةٌ إلى الأدباءِ العربِ لإيلاءِ هذهِ الشريحةِ العُمْريّةِ ما تَستحِقّهُ من اهتمام، لعلّ العطّارَ يُصلِحُ ما أفسدَ الدَّهر. الأطفالُ هم مستقبلُنا، ولقدْ آنَ الأوانُ لِنَخرُجَ من غياهبِ الماضي، ودهاليزِ الحاضر، إلى آفاقِ المستقبل.

   في “حكايات شعرية“، حاولْتُ الاجتهادَ والإصابة، فإنْ أصبْتُ سَيَكونُ لي أجرانِ اثنان، وإنْ أخفقْتُ فَحَسْبي شَرَفُ المُحاولة، والله وليُّ التَّوفيق.

بيروت، في 18 / 4 / 2020  

    المؤلف

***

* هذا النص هو مقدمة كنت كتبتها لمجموعتي الشعرية للأطفال “حكايات شعرية” الصادرة مؤخّرًا عن “دار جامعة حمد بن خليفة” في قطر، لكن اعتبارات فنية حالت دون صدوره مع المجموعة، فارتأينا نشره تعريفًا بالكتاب وتعميمًا للفائدة. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *