عبد الوهاب البياتي في تجربته الشعرية… قصيدة النثر والشاعر مجرّد من الأقنعة!
وفيق غريزي
لم يكن الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، شاعرًا يقف به الشعر عند نقطة معينة، يتحجر عندها، بل كان دوما مبدعًا خلاقًا متطورًا. وعندما يرصد المرء تطور البياتي، لا يستطيع أن يضعه ضمن حافتي نهر لاتساعه وتنوعه.” وكان دومًا في نفسي قبرة الصباح، تصعد في السماء في حلقات متتابعة، ولكن صوتها الجميل لا يزال يصل الى الأرض ويشنف اسماع السامعين “.
يتحدد البياتي ويتطور مع كل ديوان شعري جديد يصدر له، وليس هناك أصدق من قول الشاعر حين يتحدث عن تجربته الشعرية، وتطور حركة ابداعه عبر الزمن، فكل ما يقال عنه يبقى ناقصا.. ولهذا نجد الكثير من المبدعين يكتبون سير حياتهم باقلامهم للحيلولة دون اللغط والافتراضات من قبل الآخرين، وليس على الصعيد العربي فحسب بل وعلى الصعيد العالمي. ابتداء من جان جاك روسو وانتهاء بتولستوي، وقبل أن يكتب البياتي عن تجربته سبقه الشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور والشاعر السوري نزار قباني. لقد ساعد عبد الوهاب البياتي، ومن خلال كتابه “تجربتي الشعرية” الباحثين والدارسين لشعره، وقدّم للنقاد خدمة لا تقدر بثمن، حيث يلقي هذا الكتاب الضوء على جوانب خفية من حياته ومطالعاته وتأثراته وابداعه، وبما أن الكتاب يعود الى العام 1968 فقد ارفقه بمقدمة يحكي فيها عن المرحلة التي اعقبت هذا التاريخ حتى اليوم.
الطفولة المميزة
الطفولة هي النبع الغزير الذي يرفد الشاعر بكثير من الرؤى والافكار، يقول البياتي: “لقد طفت الازقة طفلا وكهلا وأنا اتنصت الى وعيد الحلاج وهو يساق الى الصلب، وسمعت المتنبي وهو يتمتم بأبياته راسمًا دوائر نارية ومشعلا الحرائق في كل مكان. والقتلة يطاردونه من حلب شعب بوان ومن الكوفة الى القاهرة.. وهكذا مرت حياتي بين بدايات جديدة لا حصر لها، وهكذا، ظل النص الحقيقي الذي كنت اريد أن اكتبه لم يكتب بعد، وكل هذا الفضاء المسكون بالرحيل والحركة والصرخات والكلمات والاحزان هو الذي منحني القدرة على أن اجد نفسي، أن اكون انا الحاضر والمستقبل”.
المخزون الثقافي
الموهبة التي يمنحها الله للانسان لا تكفي وحدها، لارتقاء الانسان مدارج الابداع، بل هناك المخزون الثقافي المكتسب الذي يساهم في صقل هذه الموهبة، وفض حجب الاشياء المرئية واللامرئية، ومن دون هذا المخزون لا تحقق الموهبة الطموحات المرجوة. والبياتي قد تسلح بمخزون ثقافي كبير، لانه منذ سنين طويلة كان يقرأ كما يقول: ” كل ما يقع بيدي من كتب. بدأت بالكتب الدينية اولا، فرأيت انها تتحدث عما كنت اريده ولكنها توجل الواقع الى العالم الآخر، ولهذا فقد اعرضت عنها، لأنني كنت ابحث عن السعادة والحب كما يسمونه في الأرض، الآن وليس في العالم الآخر، لقد كنت اشعر أن ثمة فخا قد نصب للبشر ليقعوا فيه”.
منذ سنين الفتوة تفتحت امام البياتي ابواب الثقافات المتعددة. وعرف مكسيم غوركي واسلافه من الكتّاب الروس: تولستوي، تشيخوف، بوشكين، وديستويفسكي”. ومن مبدعي الغرب عرف الكثير منهم وهم: “اودن واشعاره الغنائية، وشيلي، اللورد بيرون، كيتس، بودلير، رامبو، فيكتور هيغو، بالاضافة الى الرومانسيين”. ومن الشعراء العرب الذين تزود من معينهم: “طرفة بن العبد، ابو نواس، المعري، المتنبي، الشريف الرضي” ثم قرا باهتمام الشعراء: “الجامي، جلال الدين الرومي، فريد الدين العطار، عمر الخيام، رابندرانات طاغور”، ومن المعاصرين قرأ: بابلو نيرودا، ايلوار، لوركا، ناظم حكمت، الكسندر بلوك، وماياكوفسكي.
أما الوقوف على الضفة الأخرى والاستغراق في الصلاة الكهنوتية ليس هذا من صفات الفنان الحقيقي في أي عصر من العصور، وفي هذا الاعتقاد يلتقي مع كبار الشعراء شرقًا وغربًا، وعن النزعة التمردية يقول البياتي:
“لقد غمرت الروية التمردية كل المواضيع الشعرية التي كتبت فيها. فالموت المجاني الذي يضرب ضحيته دون سبب مفهوم، ذلك الموت الذي كان اشد بروزًا في ديوان “اباريق مهشمة”. هذا الموت كان لا بد من فهمه، وكان فهمه التمرد عليه…” وثمة موت من أجل الحرية، أي أن الموت قد اصبح ثمنا للحرية هي ثمنا له.
ففي بداية الخمسينات من القرن الماضي غمر النور الواقع الانساني امام عيني البياتي، حيث كانت الصورة التي ارتسمت امامه صورة واقع محطم يخيم عليه الياس والسوداوية. ولهذا
” كانت اشعاري الأولى محاولة لتصوير هذا الدمار الشامل والعقم الذي كان يسود الأشياء. لم أكن احاول البحث عن السبب الكامن وراء هذ العقم، وانني اكتفيت بالعثور على مبرر اجتماعي للتمرد، بل كان مرتبطا بالقضية الميتافيزيقية، حتى لقد كان المفهوم الميتافيزيقي لرفض الواقع والتمرد عليه، دون الثورة، هو بداية الالتزام”.
الحب والمرأة والبياتي
شكلت المراة عبر التاريخ الملهم الاول والاساسي للمبدعين، والحب هو العنصر المهم للوجود وللعلاقات السامية بين ابناء البشر. والبياتي يعتبر أن مشكلة الوجود والحياة تبدو، فهمهما والمحافظة عليهما، وتغيير مضمونهما هي المشكلة الاساسيةللفنان ويقول البياتي ” وهنا تبدو قضية الحب او مشكلته، جزءا من هذه المشكلة. والفنان كما نعلم، إنما يُعبّر عن جوهر الكل والجزء معًا، وربما لم تترك لي حياتي العاصفة التي عشتها الفرصة، أو لم تمنحني ذلك الحق المترف للوقوف امام قضية الحب كجزء منفصل عن كله، للتعبير عنه، وفي اشعاري يظهر مفهوم – او زاوية أخرى للحب، حب الأم والأرض والأطفال والوطن والانسان. اما الجنس فقد لا يكون مشكلة مورقة بالنسبة الى الفنان احيانا”.
والمرأة وفق رأي البياتي هي رمز زمني وابدي. رمز زمني لأنها اسم من لحم ودم، ثم تطور هذا الرمز لهذه المرأة فاصبح ابديًا (عشتار) يمتد من عشتار سومر الى عشتروت، وهي تحوّلت في ما بعد الى “عائشة”. ويقول “كثيرات احببنني واحببتهم وهذا ليس ادعاء، بل هو واقع حقيقي، وفي ذلك سر غامض انحدر من عصور السحر والاسطورة وحبس في القمقم، وظل حبيسا فيه، ولكن كان يتاح ذلك السر، في بعض الاحيان، أن يتحرك في القمقم ويأخذ شكل كلمات واشارات مبهمة”. ولقد بدأت قصته مع النساء في عالمه الصغير، عالم القرية والمدينة. ويقول البياتي في هذا الصدد: “ولا ازال اذكر حب الصبا الباكر الذي كان يبتدىء بنظرة وينتهي بقبلةاو بدمعة”. ولكن حبه للمرأة في طفولته وشبابه، امتزج بحبه للانسانية والوطن والثورة، انما البحث عن الحب الاعظم كلفه حياته كلها، لقد بترت وتمزقت اشلاء جسده وروحه ونثرها في كل مكان وزمان.
ويضم كتاب البياتي “تجربتي الشعرية” ذكرياته مع نظيره الشاعر التركي ناظم حكمت، أن هذا الكتاب لا يقل اهمية عن دواوينه الشعرية، بل هو قصيدة نثرية غنية بالمعلومات التي تضع الشاعر امامنا مجردًا من الاقنعة..