عن شارع الحمراء

Views: 331

د. أ. ناجي بختي*

 

في العام 2017، جلس انتحاري – مفترض على رصيف مقهى الكوستا في شارع الحمراء وهو يحتسي قهوة أكسبرسو دون سكر، ويقضم لوح شوكولا بالحليب. كان يفضل الشوكولا السوداء الداكنة لو توفرت. تأكد من حزامه الناسف المفخخ بثمانية كيلوغرامات من المتفجرات مستغلاً الوقت المتبقي. جلجل الحزام بعد أن هزّه هزّة خفيفة. كان محشوّاً بكرات حديدية وشظايا كي يتسبّب بأكبر ضرر ممكن. لو نجح الانتحاري بتنفيذ عمليته، لتحول شارع الحمرا المزدهر النابض إلى شارع منكوب يصعب التعرّف عليه. لكنه لم يفعل.

وفق حساباتي الأخيرة، يوجد في شارع الحمرا 12 إشارة سير، 76 عامود الكهرباء و183 شجرة.

أمل إلى الاعتقاد أن الانتحاري الذي جلس هناك يرتشف قهوة الاكسبرسو المرّة مع لوح الشوكولا بالحليب، كان سيتأمل ماسحاً معالم شارع الحمرا. كان سيسمع أبواق السيارات وسائقي سيارات الأجرة المبتذلين وهم يشتمون ويلعنون وسط زحمة السير. كان سيرى خمسة أو ستة شبان يتجمعون حول سيارة رانج روفر تتسبّب بصفّ طويل من السيارات خلفها وهي تحاول عبثاً الانحراف بطريقة مستحيلة لركن السيارة.

كان سيندهش “لزوربة” الدراجات النارية بين الفتحات الضيقة، التي تركت على مضض، بين سيارتين غير متحركتين. كان سيلاحظ تدفق مياه الأمطار والمجارير عبر الشارع لتغطي الاحجار الزائفة وتحثّ سائق الأجرة على الشتم والسباب بصوت وحماس أعلى. كان سيسمع الضحك: ذلك الذي يصدر من أعماق رجال متقاعدين ولا يحمل أيّاً من الوعي – أو الخجل. كان سيلاحظ الإعلانات الضوئية، وإشارات السير والمرور وعواميد الكهرباء والأشجار. كان سيكتشف أنه لم تسنح له الفرصة سابقاً بعدهم، أو أنه في الحقيقة، كان يودّ أن يفعل ذلك يوماً ماً.

قد يفكر عندها بترك حملته الصليبية هذه. ويوبّخ نفسه لاستعماله العبارة تلك. كرجل ينتمي “لداعش”، وجب عليه أن يكون أكثر معرفةً. كان يقصد “الجهاد”، لكن العيش في بلد متعدّد ومختلط كلبنان مربكاً في بعض الأحيان. كان قد غرّد عمر عاصي سنة 2016 تحت حساب “أبو محمد اللبناني”: “نحن نموت في لبنان في ذلّ وقمع. لا استطيع أن أتحمّل الدولة اللبنانية أكثر. هي ملك الشيعة والمسيحيين”.

رغم المذهبية المضلّلة للتغريدة والمرفقة بأصولية انتحارية فاسدة التوجيه، تبدو حال الإحساس باليأس والاحباط المتضمنة للتغريدة غير مستغربة بالنسبة للبنانيين. وهي التغريدة نفسها التي لفتت انتباه مجند داعش المدعو “ليلو” والتي أدّت بالنهاية إلى هجوم الشاب عمر عاصي.

حسب معرفتنا، لم يتسنى لعمر عاصي البالغ 25 عاماً الوقت لعدّ الأشجار، عواميد الكهرباء أو إشارات السير في شارع الحمراء. بعد ممازحته النادلة وقبل قليل من مداعبته مع الموت، وصلته مكالمة هاتفية فخرج من المقهى ليجيب على الاتصال. لدى عودته، أطلق ضابط أمن النار على قدمه وجرى اعتقاله.

خلال أيام من محاولة عاصي الفاشلة، امتدح رئيس الجمهورية ميشال عون “العملية الاستباقية” التي منعت وقوع مجزرة مؤكدة.

سبقه إلى ذلك رئيس الوزراء الحريري وحربقته في اغتنام الفرصة لإظهار النصر. كان الحريري ووزير داخليته، نهاد المشنوق، هدف للمصورين الصحافيين في مقهى الكوستا. الملفت في إحدى الصور كان خلوّها من فناجين القهوة، نظرة الحريري الخاوية والمحدقة في الفراغ ووجه المشنوق الذي بدا وكأنه يذوب تحت ضوء الكاميرات. تجمع خلفهما بعض الفضوليين الذكور لاستراق نظرة على أولئك الذين سيؤدي إهمالهم – ونظرائهم –بعد ثلاث سنوات إلى نسف مدينة بكاملها. لا تفسح ملامح وجه المشنوق مجالاً للمساءلة والمحاسبة. هكذا، نجح وزير الداخلية السابق في التهرّب من المسؤولية عن دوره في انفجار مرفأ بيروت بواسطة عرقلة التحقيق الذي تابعه القاضي طارق بيطار، وذلك بدعم قوي من حلفاء الرئيس: حزب الله. يقبض هذا الأخير على الحكومة “الانقاذية” (الملتبسة الاسم والمعنى)، والذي هو ممثل فيها، كرهينة لايقاف التحقيق.

“البلد بخير” صرّح الحريري للصحافيين بعد زيارته “لمقهى الكوستا”… “خاصة بوجود رئيس حريص على الأمن”.

لسنا بحاجة للتذكير، أن البلد لم يعد بخير، وكما تبين أن الرئيس لم يكن حريصاً أو خفيفاً على الأمن. قبل 15 يوماً من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، استلم الرئيس رسالة تكشف عن وجود 2750 طن من مادة الامونيوم نايتريت مخزّنة في المرفأ. كانت الكمية مرمية هناك منذ 7 سنوات. ولم يحصل أمام هذا الأمر أي عمل استباقي.

في الحقيقة، إن الانهيار الاقتصادي، وخسارة الليرة اللبنانية لقيمتها الشرائية، والتقنين في الكهرباء، والنقص من الدواء والبنزين والفيول، بالإضافة لانفجار مرفأ بيروت – الناتج عن سنوات طويلة من الإهمال والمخالفات من الطبقة الحاكمة نفسها – جميعها أصبحت أكثر تعقيداً بسبب غياب عمل استباقي وقائي.  

لأشهر مضت، شاهدت شبان في شارع الحمرا على دراجة نارية يحاولون سرقة حقيبة امرأة مسنّة. وقعت المرأة على ركبتيها وجُرّت في الشارع لبضعة أمتار. كانت فترة بعد الظهر من يوم سبت ، وكنت قد أمضيت كمعظم اللبنانيين، الوقت الثمين من الصباح منتظراً في صف طويل من السيارات للحصول على البنزين المرتفع الثمن. ركضت ظاهريا وراء الشبان الذين تمكّنوا من الهرب، كما شاركني المطاردة – بأقل رمزية – الزوج الذي وجد صعوبة بالحركة، وليس في الشتم. أما الضحيّة فتشبثت ممسكة بحقيبتها فيما تسمّرت عيناها على عجلة ڤان قريب.

لو كان لها أن تنظر إلى فوق، لرأت شارع الحمرا: عواميدها الكهربائية الـ76 منطفئة، إشارات سيرها الـ12 غير شغّالة، أشرطتها منخفضة بشكل كافٍ لكشط رؤوس المشاة الأكثر طولاً، واجهات المحال لا تعرض شيء سوى الغبار وشنط السفر وابتسامات محفورة في الزجاج لأصدقاء تركوا البلد تدريجياً عندما كانت الحمرا لا تزال حمرا، وكنت أنت حقاً أنت. “اذهبوا إلى البيت”، قالت المرأة المسنّة ونحن نساعدها على النهوض والوقوف على قدميها.

اختفى مقهى الكوستا أيضاً مع مقاهي أخرى أساسية تعود إلى التسعينات، بالإضافة للحانات التي كانت منتشرة على طول الشارع في زمن عظمته. تقوم محال الصيرفة اليوم بالدور الذي كانت تقوم به المقاهي، كأماكن للنقاش، باستثناء أن المادة المستفاد منها هي واحدة فقط. دون شك، كان عمر عاصي سيثني  على النخبة الحاكمة لنجاحها فيما فشل هو في تحقيقه بنفسه: وهو تدمير شارع مزدهر، ومدينة بكاملها، وتفكيك بلد برمّته.

في طريق عودتي إلى المنزل، استوقفني صوت رجل عربي لم أستطع تحديد هوية لهجته، أراد أن يعرف مكان شارع الحمرا الاسطوري.  “هناك” جاء صوت أعرفه خلفي، هيدا هو الشارع “بس بدّك ما تواخذنا”.

***

*Published in “Discontent” (January 2022)

ترجمة عن الإنكليزية. زياد كاج 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *