سجلوا عندكم

هدى عيد في “حبيبتي مريم”: البحث عن الهويّة المفقودة

Views: 497

جان توما

تردّك هدى عيد إلى المسالك الروائية المُتْعِبَة، في عزّ الزمن المُتْعِبْ. إنّ روايتها” حبيبتي مريم” ( دار الفارابي، نيسان ٢٠٢٢) فخّ روائيّ محكم. تأخذك في نصّها، المشحون بالحبكة الروائيّة، على ألسنة أبطالها إلى حيث لا تستطيع العودة إلى البدايات.  منذ مطلع الرواية تحوط هدى القارىء، بشبكة عنكبوتية لا يستطيع التخلّص منها، إلّا إذا وصل إلى نهايتها، فيغرق في الصفحات ليندهش، في الخاتمة، أنّه خرج من الشبكة الروائيّة إلى شبكة قصصيّة مستدامة باقية في عقله وخاطره بحثًا عن الحقيقة، التي تبحث عنها الروائيّة هدى عيد، ولن تعثر عليها، ولو أخرجتها من تحت التراب.

” حبيبتي مريم” الغائبة الحاضرة، المختفية/ الموجودة، بطلة الرواية من خلف الكلمات، لا تتكلّم، يتكلّمون عنها، يبحثون في أشيائها، في كومبيوترها، في أيقوناته بحثا عنها، فلا يقعون على هويّة لها، ولا عن مخارجها من الحياة، وهل خرجت؟ ومن أي باب؟ والأبواب كلّها مسدودة أو مفتوحة ، لا همّ، طالما يرسم مسيرة حياتها، كما قي المسرى الرحباني، ” الشخص”، ذلك المجهول الذي يخطط وينفّذ، ولا تظهر صورته، بعكس “راجح” الذي يصل، في النهاية، وبخلاف ” غودو”  صموئيل بيكيت الذي ينتظره رجلان، يتعرّضان إلى مجموعة من المحاورات في غمرة انتظارهما، ولا يأتي، كذلك “مريم” هدى عيد، ينتظر حقيقتها الجميع، فيدورون في حلقة من الأحداث وفق يومياتهم، ولا يقعون عليها. 

يغرق القارىء في عصبية أبطال الرواية، إذ يسود شدّ العصب الشخصيّ والعام، بدءا من شوارع لندن وتدميم الوجه والسرقة، إلى حادث السيارة، مرورًا بانفجار مرفأ بيروت. تستقي النصوص في الرواية من دماء هنا وهناك، كأنَّ عرس الدم لا ينتهي في هذا العالم، وسيؤول كلّ بحث عن الحقيقة إلى سراب. ” هذه أرض تلوك الحقائق وتبتلعها كغول، من يسترد يا حبيبي مفقودًا من بطن غول؟” (ص 198). هذه لغة اختراعيّة، وفق الطلب النفسيّ التعبيريّ، فلا الأرض تلوك، ولا الغيلان تسرح في العالم، لكن هدى عيد لم تجد في قاموس العالم الطبيعيّ ما يفعله إنسان الأرض بأخيه، فاستقدمت مفردات تسهم في بلورة إطار لجشع الإنسان وسلطته المتوحشة.

تسود رائحة الموت في الرواية، ما يدفع القارىء إلى التنفّس من تحت التراب، حيث يرقد الوهم والسراب والكذبة الكبيرة. من هنا دعوة هدى عيد إلى إزالة ما التصق بالإنسان، أو بالحقيقة ،من وحل صنيعة يديه. إنّ إزالة التراب عن العينين يعيد الشفافيّة الإنسانيّة، وتوضح الحقائق، وينتقل البشر من البصر، الذي تتمتّع به كثرة،  إلى البصيرة التي تتمتّع بها قلّة مختارة. يتحمّل القارىء التعابير المقلقة لأنّها تخدم النصّ الروائيّ: “فلتمت كلّ نساء الأرض” (ص65)، إلاّ أنّ المرأة هي سيّدة القصة، مفاصلها، مرافقها، موضوعها، ولو تكرّر الموقف الهجوميّ عليها: ” النساء هنّ أساس كلّ الشرور”(ص 88). لكن القارىء يخرج من مسالك الرواية إلى أنّ المرأة، في النهاية، مظلومة، وأنّ البحث عنها جارٍ، وما زال، على الرغم من طي الصفحة الأخيرة من الرواية، إذ تدخل ” مريم” إلى وجدان القارىء، ليبحث مع الباحثين عن مريمية الوطن المفقود.

هل قصدت هدى عيد أن تبرّر نظرية رولات بارت في ” موت المؤلف”؟ فقد اعتمدت روايتها على انطباعات القارىء، لا على شغفها بالكتابة فحسب، إذ يقوم نصّها الروائيّ على دور القارىء في كشف المعنى وتحديد الدلالة. تذهب هدى عيد إلى ممارسة إبداع التلقّي بين المؤلف والنصّ والمتلقّي. يصير القارىء، ختامًا، الموقف الروائيّ النصير لمن أخفاه التراب زورًا، ليصير القارىء الكاتب الجديد لنصّ جديد، ونظرة متجدّدة، حاولت هدى عيد أن تصيغ قضيتها همّا وطنيّا جامعًا، قائما على احترام المرء، وأنسنة المحيط، ليكون العالم أفضل وأنقى وأجمل.

تشير الرواية إلى أنّ الغياب يملأه حدث بسيط، كإلفة قطّة حضرت :” يا إلهي ، إنّها أمي أتت”.(ص68). يبرز إنسان هدى عيد حسًاسًا إلى درجة الالتباس، بين حقيقة الإيمان ومظاهر الاجتماع ، كما في أسماء ابطالها المعبّرة عن واقع الحال: غريب، جوّال، حكيم، جودي، وماذا عن رغدة (ص 105) وهو من الرغد والفرح والأمل الآتي. تأتي هدى عيد بشخصياتها، كما اليوميات، عجلى، داعمة للنصّ الروائيّ، دون أن نقف على مصائرها. تقصد أن تفتح أمام كلّ موقف أبوابًا لنهايات يختارها القارىء ويجنح إليها، كأنّها ترتاح إلى عدم اقرار نهايات، بل تعمل على استقراء نهايات بعين القارىء، خاصة أنّها تشير إلى تبدّل الأمزجة في عالم ينقسم إلى عالم ” المهاجر الرقميّ”، لجيل ما قبل السبعينيات، وإلى عالم ” الجيل الرقميّ” المعاصر (ص  128).

سعت هدى عيد إلى المواطن الواقعيّ، لكنها مضت مقتنعة بنظرية ” المواطن الافتراضيّ” الذي صاره العالم، فجاء نصّها الروائيّ” حبيبتي مريم” مشبعًا بمفاهيم العالم الذي صار قرية افتراضيّة صغيرة، فتنقّل نصّها بين القارات، وما فوق التراب، وما تحته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *