الطفلة الفيلسوفة في ( بين أنا وعيوني) تنقض مقولة نيتشه عن الجمل والأسد
د. ميرنا ريمون شويري
الكثير من الأعمال الأدبية تميّزت بالصوت أوالأصوات التي كتبت من خلالها، فبعض الروائيات كتبن بصوت الرجل أوالعكس ، أمّا القاصّة سمية تكجي فاختارت أن تكتب كتابها القصصي ( بين أنا وعيوني)على لسان طفلة فيلسوفة.
المميّز في هذا الكتاب المزج بين عالم الرشد والطفولة حتى إنّ أحد المشاهد يعكس مشهد لقصة رباب والذئب ليتساءل القارىء إذا كتبته تكجي للأطفال أو الكبار. ليس فقط المضمون بل ترتيب الكتاب أيضًا( من القصصص القصيرة إلى القصص القصيرة جدًّا) إلى ومضات ( يشبه طفلة صغيرة ترمي على الماء حصى، فترسم دوائر كبيرة ثمّ أصغر فأصغر، و اللافت أنّ مضمون هذه الدوائر متعلّق ببعضها، فمثلًا قصّة “لوحة الليل” امتداد لقصّة “عرش البحر”، و “عصا” امتداد “لسمفونية عصا” إلخ…)
والإهداء لحفيدتها إذ تقول لها: “اقرئيه لكي أبقى حين أموت” . وربما تقديم جوهر الحياة وقمّة الرقي الإنساني على لسان طفلة فيلسوفة ينقض مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه على أنّ الإنسان يجب أن يجتاز ثلاث مراحل حتى يصل إلى قمّة رقيّه، وهو السوبرمان.
يحدّد نيتشه في (هكذا تكلّم زرادشت) المراحل التي يجب أن يجتازها الإنسان حتى يتحول إلى سوبرمان أيْ قمّة الرقي الإنساني. هذه المراحل هي: الجمل ثمّ الأسد والأخيرة هي الطفل. يقول نيتشه إنّ الجمل بصبره يشبه الأبطال: “قولوا للروح التي تريد أن تتعلّم الصبر أن تركع مثل الجمل مبدية استعدادها لأن تحمل الكثير. (Clonazepam) “.
أمّا المرحلة الثانية فهي الأسد، لأنّه يملك الإرادة، وبالتالي يتحكّم بمصيره، فيسيطر على الصحراء. لكن اللافت أنّ نيتشه يؤكّد بأنّ المرحلة الأخيرة هي الطفل، لأنّ براءته تقدّم له الحرّية من كلّ التجارب المؤلمة. (139، 2019) ، لكن الشعراء أحيانًا يفكّكون مقولات الفلاسفة والمفكّرين، فتكجي في كتابها تختصر المراحل للوصول إلى القمّة الإنسانية بواحدة وهي الطفولة. لا تعطي القاصة اهتمامًا كبيرًا لقيم الراشدين الذين يشوّههم الواقع والخيبات بل تضيء على قيم الأطفال، ومنها: العدالة الحقيقية، الشكّ في كلّ المسلّمات ، التصالح مع الموت، القناعة، التسامح، الحرّية، ففي (فيلسوفة صغيرة) تروي قصّتها مع نغم التي تعلّمها درسًا في العدالة، فترفض هديّتها، وتقول لها السبب:
“لا أحد من رفاقي المتسولين يملك باربي، ونحن سعداء لأنّنا متساوون.”.
“مضيت في طريقي ورأسي تتلاطم فيه مئات الأسئلة.”( 38)
وفي مهرّجي الصغير تتمنّى تكجي لو تستطيع أن تكون مثل حفيدها: “تمنّيت كثيرًا يا مهرّجي الصغير لو أكون مثلك…لو أقدر أن أحطّم ما بنيته من جدران في داخلي لأحتمي بها…فكانت جلادي.”( 31). وهذا يدلّ على أنّنا نبني سجونًا في داخلنا ، فقط إذا عدنا أطفالًا نتجرّأ أن نهّدمها ونتحرّر.
وفي (أبي في صندوق) تتساءل الطفلة الفيلسوفة عن السواد الذي يلفّ الموت في عالم الكبار:
“أبي كان يحبّ قوس قزح، كنّا نشاهده معًا، لماذا لا تلونون الصندوق بألوانه؟ كان أبي المفاجأة…أبي داخل الصندوق.” (12)، وفي (دنيا دولاب) يتعلّم الوالد من ابنه أن يتقبّل قسوة الحياة.
وعلى الرغم من أنّ براءة الأطفال هي الحلّ الوحيد لبشاعة هذا العالم إلّا أنّ تكجي تصوّر معاناة الأطفال ليس فقط من قسوة الحياة بل أيضًا من لاإنسانية الكبار مثل التحرّش الجنسي بالصغار، ولعلّ فساد الكبار أقسى عليهم من الواقع . حتى الحبّ عند تكجي لديه وجه الطفولة بلا أقنعة، ففي قصّة (لا تتبرّجي) تقول الحبيبة لحبيبها:” السماء تمطر، تعال معي، بلّل يديك بالمطر، امسح ببطء كلّ ما يغطّي وجهي، ثمّ عانقني طويلًا”. ( 32)
وفي (حكايا العجوز) تقول لنا تكجي إنّ الأقرب إلى الأطفال وبالتالي الأنقى هم العجائز، فالطفل كريم يخاف من العجوز كورنيلا، فيسألها أسئلة تشبه أسئلة ليلى للذئب:” لماذا وجهك كثير التجاعيد؟ لماذا عيناك صغيرتان؟”، وعندما تجيبه يتخطّى خوفه، ويضمّها.
تقول تكجي: “وكأنّ الإنسانية اكتملت في تلك اللحظة.”( 35)، ومن الممكن أنّ الكاتبة تقصد بذلك أنّنا يجب أن نشكّ في كلّ شيء كالأطفال، وأن لا نرى العالم من خلال الموروثات الاجتماعية.
تغمّس تكجي ريشتها ببراءة الأطفال لتكتب تصوّرًا جديدًا لهذا العالم حتى إنّها تحثّ القراء أنّ يعودوا لطفولتهم حتى يفهموا هذا الكتاب الذي هو مزيج من عالم الطفولة والرشد، و كأنّها تكتبه على حدود بين جيلين وزمنين وربما لذلك العنوان (بين أنا وعيوني) يشي بأنّ لهذه القصص كاتبتين: تكجي الراشدة، وأخرى متقمّصة طفولتها.
أهمّية اختصار تكجي كلّ المراحل في التطور الروحي للطفولة تذكّرنا بأنّ الصبر والصلابة يصلان بالكثير مِمّن يفتقدون الأخلاق إلى السلطة، وبالتالي إلى دمارأكبر لإنسانية هذا العالم، أمّا الطفولة فلا تشكّل أيّ خطر على هذا العالم بل بالعكس العالم يصلبها.
***
Nietzsche, F.W. (1872). The birth of tragedy. Retrieved November 10, 2020, from Blackmask Online website: http://www.russoeconomics.altervista.org/Nietzsche.pdf
*تكجي، سمية. بين أنا وعيوني البعيدة. بيروت: دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع، 2018