الحرب السوفياتية/الروسية – الأميركية الضارية منذ 1975!! (2)

Views: 342

د. إيلي جرجي الياس

 

*الحلقة التاسعة من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!! 

 

بين يوري آندروبوف، الجريء والمتهوّر في قراراته وتوجّهاته الاستخبارية، وفيكتور تشابريكوف، المتحفّظ والملتزم في أفكاره وطموحاته الأمنية الرصينة، على مستوى قيادة الاستخبارات السوفياتية كي جي بي، مساحة واسعة ورؤية مختلفة…

كان لسلسلة محاولات اغتيال الرؤساء والزعماء، عبر العالم، وصولاً إلى لحظة محورية خطيرة عبر محاولة اغتيال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وقتذاك، شهادة على مقدار مضيّ آندروبوف إلى دائرة الخطر الشديد وحافة الهاوية القصوى… “بالنسبة لرئيس ال كي جي بي فيكتور تشابريكوف، من كانون الأول 1982 حتى مطلع تشرين الأول 1988، فقد كان على جانب عالٍ من الذكاء الأمنيّ والدهاء الاستخباريّ، بشهادة أقطاب سي أي إيه أنفسهم، إلا أن رهانه على غورباتشيف لقيادة الاتحاد السوفياتي كان مغامرة صعبة ومقامرة خاسرة!! فتشابريكوف نفسه، أبعد فيكتور غريشين عن منافسة غورباتشيف، إذ كشف لأعضاء المكتب السياسي للحزب، في خطوة جريئة عن زواج ابن غريشين ثانية ولكن هذه المرة من إبنة بيريا غير الشرعية… لافرينتي بيريا الذي يرجّح تورطّه في التخلّص من ستالين، قبل أن يتمّ التخلّص منه شخصياً، والسيء السمعة دائماً!! لعل فيكتور تشابريكوف سيعبر لاحقاً عن ندمه الشديد!! في آذار 1986، حذر تشابريكوف من الخطر المتمثل بالدور الهدام للإيديولوجية، بما هي سلاح تستخدمه الأمبريالية في مواجهة الاشتراكية. ويرسم خطأ فاصلا بين الصراع الإيديولوجي، الذي يرى فيه أمراً مقبولاً في العلاقات بين الدول، والتخريب الإيديولوجي، بما هو أحد أشكال العمل التهديمي الذي تنهض به الأمبريالية عبر الأجهزة المختصة. ثم يعود في تشرين الثاني 1987، إلى التحذير من التخريب الإيديولوجي، وعدم تناسي وجود أفراد عندنا، يحملون أفكاراً وآراءً أجنبية، حاقدة على الاشتراكية وبأن العناصر المتطرفة… تتسم بخطورة شديدة، ثم يتوقف ليطلق هذا الانذار: إن كافة شرائح الشعب مستهدفة من قبل الأجهزة الأمبريالية.

 

التخريب الإيديولوجي

 ولا ينسى تشابريكوف في أيلول 1988، وفي مقابلة مفصلة البرافدا، أن يستعيد موضوعه المفضل – التخريب الإيديولوجي، الذي يرمي إلى تمزيق التصور الإشتراكي للعالم عند السوفيات…. ودفعهم للقيام بأعمال معادية للسوفيات. بعد فترة من محاولة اغتيال غامضة تعرض لها الرئيس الأميركي رونالد ريغان (20 كانون الثاني 1981 – 20 كانون الثاني 1989)، المناهض بشدّة للشيوعية في 30 آذار 1981 أمام فندق الهيلتون في واشنطن، على يد جون هينكلي جونيور الذي أُودع لاحقاً في مصحّة للأمراض العقلية لعلاجه، تعرّض قداسة البابا يوحنا بولس الثاني القديس (16 تشرين الأول 1978 – 2 نيسان 2005)، وهو رأس المعارضة ضدّ الشيوعية والأنظمة التوتاليتارية، لمحاولة اغتيال قاسية في 13 أيار 1981 في ساحة القديس بطرس في الذكرى السنوية لظهور العذراء في فاطيما في البرتغال، على يد مسلح تركي هو محمد علي أقجا!! 

عزا البابا الداعم لزعيم المعارضة ضدّ الشيوعية في موطنه الأصليّ بولونيا ليش فاليسا، إنقاذه لعذراء فاطيما التي تدخلت لمصلحته ولعل سرّ من أسرار فاطيما قد تحقّق!! اعتبر البابا فويتيوا أنه نجا من الموت بشفاعة العذراء سيدة فاطمة، قام بثلاث زيارات إلى مزارها في البرتغال، في العام 1982، أي بعد عام على محاولة الاغتيال، ثم في العامين 1991 و2000. وقرر أن توضع الرصاصة التي استخرجت من جسده في تاج العذراء سيدة فاطمة.

 

 شجاعة الغفران وسمو المحبّة

وبعد سنتين ونصف السنة على الحادث توجّه البابا يوحنا بولس الثاني إلى سجن ريبيبيا بروما حيث كان علي أقجا قابعاً، حيث أجرى لقاء مطولاً مع الرجل الذي حاول قتله! إنها شجاعة الغفران وسمو المحبّة!! وفي آذار 2006 توصلت لجنة برلمانية إيطالية شكلها سيلفيو برلسكوني لإعادة التحقيق في الحادث، إلى خلاصة أنّ الاتحاد السوفياتي كان وراء محاولة الاغتيال، وهذا ما يؤكد فرضية المخابرات المركزية الأميركية سابقاً. وأصدرت إيطاليا عفواً من أقجا عام 2000 وسلمته لتركيا حيث سجن بتهمة قتل صحافي عام 1979 وجرائم أخرى وأفرج عنه عام 2010. وظلت محاولة اغتيال البابا يوحنا الذي توفي عام 2005 محاطة بتساؤلات حول وجود شخص أو جهة ربما تكون دبرتها. وقالت لجنة تحقيق برلمانية إيطالية في عام 2006 أنه لا يوجد مجال للشك بأن المحاولة دبرها زعماء الاتحاد السوفياتي السابق. لعلّها العملية الأجرأ والأخطر في تاريخ الاستخبارات السوفياتية، “كان قد ذهب إلى السجن ليقول لعلي أقجا مجدداً أنه غفر له ولإعطاء معنى لمبادرة المحبة المسيحية… 

 

أقجا لم يطلب الصفح أبداً!

ولم ينس يوحنا بولس الثاني من هذه المقابلة محطتين. أولاً وهو أمر أحزنه حتى نهاية حياته وهو أنه لم يسمع علي أقجا يطلب الصفح أبداً. لماذا لم تمت؟… ثاني محطات المقابلة التي لم ينسها يوحنا بولس الثاني والتي لزمت قلبه كالجرح وجعلته في بعض النواحي يفهم من كان القاتل ومن خطط لذلك. وكتب في الذاكرة والهوية، كتابه الأخير: إن علي أقجا، كما يقول الجميع، قاتل محترف، وهذا يعني أن محاولة الاغتيال لم تكن نتاج مبادرته الفردية، بل خطط لها شخص آخر، كلفه أيضاً شخص آخر… ولم يضف فويتيالا المزيد.

 

 قبل بضع سنوات، كتب الكاردينال ستانيسلو دزيويز، الذي كان سكرتيراً خاصاً للبابا يوحنا بولس الثاني: كيف يمكننا أن لا نفكر بالعالم الشيوعي؟ كيف لا نصل، ونحن نفتش عن من قرر عملية الاغتيال، كيف لا نصل، على الأقل افتراضياً، إلى جهاز المخابرات السوفياتي. لقد التقيت في الأيام الأخيرة الكاردينال دزيويز. قال : كانوا يريدون خنق الصحوة البولندية. لو صحت الفرضية كاملة، فهي خطوة شديدة التهور تُعزى إلى يوري آندروبوف، ربما دون علم ليونيد بريجنيف المريض، وكانت لتكون تداعياتها أكثر تأثيراً على السياسة الدولية، لولا أنّ العناية الإلهية أنقذت البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني!!” من مقالتي العلمية: الحرب الباردة تمتدّ والمواجهات الاستخباريّة تشتدّ (1975-1990)، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 86، ص 140، 141.

 

***

* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *