ماءٌ وسَراب!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار
مَرَّ أَربَعَةٌ في وادٍ مُوْحِشٍ، فَأَخَذَتهُمُ الرَّهْبَةُ، فَأَغَذُّوا في السَّيرِ، خَوفًا، وإِذْ بِصَومَعَةٍ، وناسِكٍ مُتَعَبِّدٍ يُصَلِّي. فَذُهِلُوا، وقالَ الأَوَّلُ، في نَفسِهِ: هي الحَماقَةُ بِعَينِها. يَبِيعُ الحاضِرَ، الرَّاهِنَ، لِيَشتَرِيَ الغَيْبَ المَجهُول…
أَمَّا الثَّانِي، فَناجاهُ ضَمِيرُهُ: هو الخَوفُ مِنْ مَشاغِلِ الحَياةِ، وأَعبائِها، والهَرَبُ إِلى حَيثُ لا جُهْدٌ، ولا عَرَقٌ، ولا صِراع…
أَمَّا الثَّالِثُ فَسارَّهُ قَلبُهُ: هو الجُنُونُ المُطْبِقُ، فَالحَياةُ أَجمَلُ مِنْ أَنْ تُسفَحَ، والثَّمَرُ اليَنِيعُ أَوْلَى بِهِ القِطاف…
والرَّابِعُ، غَمَرَهُ سَلامٌ، وناداهُ، مِنْ داخِلِهِ، مُنادٍ: هي النِّعْمَةُ تَتَجَلَّى على النَّفْسِ فَتُنَقِّيها مِنْ أَدرانِها، وتَرقَى، بِها، إِلى مَراتِبِ القَداسَة…
***
ولَمَّا جازُوْا المَكانَ، أَدرَكُوا حاضِرَةَ الحِكمَةِ، فَقَصَدُوا مِحَابَها، وأَسَرُّوا لِكاهِنِها، الرَّائِي، ما جالَ في خَواطِرِهِم فَقال:
لَمَحَ عَطِشٌ، مُسافِرٌ في صَحراءَ، ماءً يَتَلَأْلَأُ، في البَعِيدِ، فَاستَبشَرَ بِما رَأَى، ولَمَّا وَصَلَ إِلى مَكانِهِ تَحَقَّقَ مِنْ كَوْنِهِ سَرابًا. وأَكمَلَ مَسِيرَهُ، وإذْ لَمَحَ، عِندَ الأُفُقِ، ماءً مُتَرَقرِقًا، قال: تَبًّا لِهَا السَّرابِ، وضَلالِه. ولَمَّا أَدرَكَ قِبْلَتَهُ وَجَدَهُ ماءً عَذْبًا، يَشُقُّ الرِّمالَ المُلتَهِبَة!