محمد حسنين هيكل وهنري كيسنجر… وجهان لعملة واحدة
المحامي معوض رياض الحجل
عندما يتحدث الباحثون والاكاديميون عن علوم الدبلوماسية، أول اسم يتم تداوله على لسانهم وفي صالوناتهم هو “هنري كيسنجر” من دون مُنازع. ولكن عند البحث ودراسة الأمور بعمق نرى أن ظاهرة الكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، تتشابه إلى حدٍ ما مع ظاهرة الدكتور هنري كيسنجرونجوميته. فما أُطلق على كيسنجر من القاب وصفات استثنائية يُمكن أن يُطلق على هيكل، الذي يعتبر من أهم الشخصيات الصحافية ، السياسية والدبلوماسية المصرية، بل والعربية، الشاهد الأبرز على مُعظم الاحداث والتغييرات في النصف الثاني من القرن العشرين. ومثل الدكتور كيسنجر، يمكن أن نقول إن الترويج الدائم لـ هيكل، كظاهرة وفكرة ومدرسة صحافية ودبلوماسية أستثنائية، تُعد أهم نجاحاتهِ على الإطلاق.
نقاط مُشتركة
نكشتف بينهما نقاطًا مُشتركة كثيرة واختلافات ثانوية. التشابه الاولي البسيط بينهما هو مولدهما في العام نفسه أي 1923، وكلاهما تخطى التسعين من عمرهِ، ما يجعل خبرتهما وسيرتهما مُشوقة ومُثيرة للغاية، شاهدان بارزان وفاعلان على أهم أحداث العصر دولياً، وشرق أوسطياً. إلا أن أهم أوجه الشبه بينهما يتركز حول تقديسهما التام لفكرة الدولة، وسموّها على حقوق المواطنين السياسية المُرتبطة بقيم الحريات أو الديمقراطية أو سيادة القانون.
رَدّ هيكل في حوارٍ لهُ حولَ رؤيتهِ للتوفيق بين طرفي مُعادلة الأمن والحرية، قائلاً إنهُ يرى وطناً ينتحرُ باسم الحرية، وتناسى أن من يضحي بالحرية مُقابل الأمن لا يستحق كليهما.
أما الدكتور كيسنجر فكان، ومازال، مكيافيلي الهوى والتفكير بصورةٍ تُشعر مُحاورهُ أنه إنسان آلي خالٍ من المشاعر الانسانية، مُهمتهُ الحفاظ على مصالح بلادهِ العليا، حتى لو كان الأمر على حساب إبادة الاعداء وتدميرهم.
دَخلَ كل من هيكل وكيسنجر غرف صنع القرار والسياسات الاقليمية والدولية من الباب العريض: الأول في جمهورية مصر العربية والثاني في الولايات المُتحدة الاميركية، قبل أن يتمدد نفوذهما السياسي بشكلٍ سريع خارج حدود دولهما.
تَمددَ نفوذ كيسنجر عالمياً من دون مُنازع في مُختلف القارات، في حين تَمددَ دور هيكل عربياً وأفريقيا وآسيوياً.
سمحت فرصة تولي الرجلين لمناصب حكومية حساسة في بلورة خبرتهما الواسعة وصقلها، سواء الأكاديمية والبحثية في حالة الدكتور، أو الصحافية في حال هيكل، حيث كانت تُعتبر صحيفة الاهرام المصرية حينها من أهم خمس صحف تصدرُ دولياً مُنافسة الصحف الاميركية والاوروبية.
تولى هيكل مناصب حكومية حساسة في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات. بينما تولى الدكتور كيسنجر منصبي وزير الخارجية ومُستشار الأمن القومي خلال رئاسة ريتشارد نيكسون(1969-1974) ومن ثم في العهد الرئيس الاميركي جيرالد فورد.
الاختلاف الابرز بينهما
أما الاختلاف الابرز بينهما فهو طبيعة علاقة كل من كيسنجر وهيكل برؤساء الجمهوريات: بينما كانت علاقة كيسنجر بالرئيس نيكسون علاقة عمل بحتة خالية من الصداقة أو المودة، كانت علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر علاقة أخوية، صادقة وعائلية لعقود وعقود، أما علاقتهِ بالرئيس السادات فكان يسودها الفتور أحياناً والتوتر والجفاء أحياناً اخرى.
فى الفترة ما بين الخامس من تشرين الاول أكتوبر 1973 حتى أول شباط 1974، قبل حرب تشرين الأول/أكتوبر بيوم إلى ما قبل خروجهِ من «الأهرام» بيومٍ واحد، كتبَ هيكل مجموعة مقالات أسست لقطيعة نهائية ضمها في ما بعد كتاب «عند مفترق الطرق»، أراد أن يقول: «إننى أختلف، وهذه أسبابى التى أتحمل مسؤووليتها ونتائجها» .أسباب الاختلاف مع الرئيس السادات لم تكن شخصية ولا عابرة، فقد عكست ضمن ما عكست خيارات مُتناقضة فى استراتيجية الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.
تَركَ الدكتور هنري كيسنجر للاجيال القادمة إرثاً مؤسسياً عظيماً، تمثلَ في تغيير طبيعة مجلس الأمن القومي الأميركي ودوره، إضافة إلى إسهاماتهِ الأكاديمية والفكرية الواسعة والعميقة التي لا تُعد ولا تُحصى. أما هيكل، فعلى الرغم مما تركهُ من كتبٍ ومقالات وشهادات مهمة حول مُختلف مراحل حياتهِ، إلا أنهُ لم يترك للاجيال القادمة مؤسسةً فكرية وثقافية وبحثية يستفيد منها آلاف الصحافيين المصريين والعرب ممن يعانون غياب المهنية والتدريب والدعم الفني، على الرغم من امتلاكهِ الموارد المادية والمعرفية التي تُسهل تنفيذ المهمة ونجاحها.
اقتربَ الدكتور كيسنجر من أعلى الهرم في السلطة، على الرغم من وجود عوائق عديدة، فلغته الإنكليزية ثانية بعد لغتهِ الأصلية الألمانية، أما هيكل فقد أقترب، من مجالس الحكام وتعمّق في زواريب السياسة العربية وخفاياها لعقود وعقود.
عاش الرجلان حياة طويلة وزاخمة بالاحداث، وتوفي هيكل عن عمر يُناهز 93 عاماً في مُنتصف العام 2016، في حين يحيا الدكتور هنري كيسنجر حياة ناشطة عن عمر يُناهز الــــــ 99 عاماً.
هل التقى الرجلان؟
هذه المُقارنة بين الرجلين تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: هل حصل يوماً لقاء بين الرجلين ومتى حصل أول لقاء وظروفهِ.
شهدَ العام 1971 أول مُحاولة لترتيب لقاء مُباشر بينهما وقامَ بالمُبادرة حينها رئيس مجلس أدارة شركة “بيبسي كولا” دونالد كاندال، كان صديقاً مُقرباً جداً من الرئيس الاميركي وقتها ريتشارد نيكسون. طرحَ كاندال على هيكل فكرة اللقاء مع كيسنجر أثناء مُناقشة دارت بينهما في العاصمة المصرية القاهرة في ربيع العام 1971 بحضور الدكتور زكي هاشم المُحامي المصري ذو المكانة الدولية البارزة ووزير السياحة المصري في ما بعد.
وبعد أسبوع من عودة كاندال إلى واشنطن طلبَ موعداً من المُشرف على شؤون الرعايا المصريين في الولايات المُتحدة الاميركية وهو سفير جمهورية مصر العربية حينها في واشنطن: الدكتور أشرف غربال وأكدَ لهُ حماسة الرئيس ريتشارد نيكسون لفكرة اللقاء بين كيسنجر وهيكل، ثم حماسة الدكتور كيسنجر نفسهُ لاتمام هذا اللقاء. وكتب َإلى السفير أشرف غربال رسالة بما دار بين هيكل وكاندال. (https://www.hotelogix.com)
وبعد قُرابة شهر طلب كاندال موعداً للقاء السفير الدكتور محمد حسن الزيات مندوب مصر الدائم في الامم المُتحدة وقتها ووزير الخارجية المصري في ما بعد لكي يستعجل وصول هيكل الى واشنطن حتى يتم اللقاء المُقترح الذي حددوا لهُ موعداً في عطلة نهاية الاسبوع الاخير من شهر تشرين الاول/اكتوبر من العام 1971. وكانت الترتيبات تقضي بأن يتم اللقاء بين الرجلين بعيداً عن وسائل الاعلام في رحاب مزرعة كبيرة يملكها كاندال في ولاية كونيتيكيت الاميركية، يقضي فيها الطرفان معاً يومين كاملين، ثم يعودان إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الاميركي نيكسون في البيت الابيض، من دون أن يُنشر أو يُذاع عن هذا اللقاء شيء. والهدف المحوري منهُ الاستطلاع الهادئ والمُباشر لرؤية ووجهات النظر المصرية والاميركية في الحلول المُمكنة لازمات الشرق الاوسط.
وكتبَ الدكتور الزيات تقريراً عما دار بينهُ وبين كاندال في تقرير خطي بعث بهِ الأمين العام السابق للجامعة العربية السيد عبد الخالق حسونه ليسلمهُ إلى رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت، وهو الدكتور محمود فوزي وعرض الدكتور فوزي الأمر على رئيس الجمهورية الراحل أنور السادات، وكان على دراية كاملة بالموضوع.
اعترفَ هيكل أنهُ ترددَ في قبول أقتراح اللقاء مع كيسنجر، رغم حماسة كل الاطراف لهُ، ثم أعتذرَ عنهُ حينها لملابسات وأسباب شرح بعضها في مقال بعنوان ” كيسنجر… وأنا مجموعة اوراق”، نشرهُ في جريد الاهرام في نهاية العام 1972، وكان ذلك في معرض الرد على حملة شعواء من تلك الحملات التي تعرض لها. لكن المُهم أنهُ قبل أعلان الاعتذار رَاحَ يُحاول دراسة وفهم وتحليل فكر كيسنجر وأسلوب عملهِ، ثم ظل أهتمامهُ بالرجل قائماً حتى التقى معهُ فعلاً في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام1973في أعقاب حرب تشرين الأول/اكتوبر العظيمة ويومها دامَ أول لقاء بين كيسنجر وهيكل قرابة الثلاث ساعات.