المهدي المَنْجْرَة المُنذر بآلام العالم ومَآسِيه… في الذّكرىَ الخامسة لرحيله

Views: 1960

مدريد- د. محمّد م. خطّابي

قيل ذات مرّةٍ عن عالم المستقبليّات المغربي المعروف المهدي المنجرة: “من حُسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب افريقيا مناجم الذهب، ولدى مصرالأهرام، ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسّمك والمهدي المنجرة.كان يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال الشاهقة في الصّين القديمة”.

 قال عنه وزير الخارجية الفرنسي السابق “ميشال جوبير” في احدى المناسبات : “إنّ الجلوس بجانب هذا “المنذر بآلام العالم ومآسيه” لساعاتٍ طويلة يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق”.

جاب هذا الطائر المحلّق أزيدَ من مئة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة، والمعرفة، حاور مختلف الثقافات، وجاورالعديد من المعالم الحضارية، ولامس أفكاراً، وناظر عقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيٍّ صغيرٍ وأمامه طاولةٍ بسيطة في غرفة ضيّقة تحوطها كتب كثيرة مُبعثرة بكلّ اللغات، إنه يذكّرنا بالطاولة الخشبيّة الصّغيرة التي جعل منها الزّعيم محمد بن عبد الكريم الخطّابي مكتباً له بمركز قيادته بأزغار بأجدير الحَصين خلال حرب الرّيف التحرّرية الماجدة التي خاضها ورفقاؤه ببسالةٍ منقطعة النظير ضدّ الاستعماريْن الإسباني والفرنسي، إنه المهدي المنجرة المثقف المفرد الفريد الذي نراه اليوم ويراه العالم معنا في ذكرى رحيله الخامسة رجلاً مُفرداً في صيغة منتهى الجُموع “.

في ذكرى رحيله

 في الثالث عشر من شهر (حزيران/ يونيو) الفائت 2019 حلّت الذكرى الخامسة لرحيل عالم المُستقبليات المفكّر المغربي المعروف المهدي المنجرة، كان مُثقفاً فريداً ذا عقلٍ راجح بشهادة علماء ومفكّرين أجانب مرموقين، إلاّ أنه قوبل بنوعٍ من الجحود، والنسيان، والتغاضي من طرف بعض أبناء جلدته، وبني طينته، وقومه، ولا غرو، ولا عَجب فلا كرامة لنبيٍّ بين قومه..! كما نُسِجتْ أباطيل، وحِيكتْ مزاعم، وأشيعت ادّعاءات حول مدى تكوينه العلمي، ومستواه الأكاديمي الرفيع، إلاّ أنه مع ذلك أمكنه أن يتبوّأ أرقىَ المراتبَ، وأن يُدرك أسمىَ المنابر العلمية على الصّعيد الوطني والعالمي، كما أمكنه أن يتسنّم منازلَ عليا، وأن يحظى بتقدير الأوساط الثقافية، والعلمية، والفكرية، والسياسية في مختلف أنحاء المعمور، وقد طفق نجمُه في السّطوع عندما بدأ يُدلي بدلوه عمّا أصبح يُطلق عليه ب ” حرب الحضارات”، ولقد إعترف له بالتألق، والتفوّق، والنبوغ المفكرالأمريكي المعروف “صمويل هنتنغتون”، ونوّه به وبقصب السّبق الذي أدركه في هذا المجال في كتابه الذائع الصّيت “صدام الحضارات”.

 

المنجرة والأندلس

 كان المنجرة مُداوماً على زيارة مدريد التي كنت أقيم بها حيث تعرّفتُ عليه فيها أواسط الثمانينيّات من القرن الفارط، كان يشطّ بنا الحديث فيها عن تاريخ هذه الحاضرة العريقة، وإشعاعها، وماضيها التليد، نظراً لكونها تتميّز بخاصّيةٍ فريدة في تاريخها بإعتبارها العاصمة الأوربية الوحيدة التي تحمل إسماً عربيّاً، كما أنها أسِّستْ من طرف المسلمين تأسيساً، وكان الحضورالعربي- الأمازيغي فيها حضوراً قويّاً وزاخراً، وقد أمست تُعتبر اليوم من أكبر المدن الأوربيّة وأجملها، الأمير محمد بن عبد الرّحمن الثالث، خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس هو الذي أسّسها في القرن التاسع الميلادي تحت إسم “مجريط. كان المهدي المنجرة مولعاً كذلك بزيارة بعض المدن الإسبانية الأخرى خاصّةً في منطقة الأندلس لإلقاء بعض المحاضرات عن العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية، أو المشاركة في العديد من المناظرات، والندوات الثقافية الدولية وسواها التي كا يُدعى للمشاركة فيها، ولقد كتبتُ عنه إبّانئذٍ، وعن أنشطته، ومشاركاته في بعض هذه الملتقيات في بعض الجرائد العربية الدولية الكبرىَ الصّادرة في لندن التي كنتُ أكتبُ فيها بإنتظام في ذلك الأوان، كتبتُ عنه إيماناً منّي بفكره النيّر، وإعجاباً بعلمه المستنير، وبمداخلاته القيّمة، وإسهاماته الرّصينة في هذه الندوات .

مَتاعب السّؤال ومُنغّصاته !

الحديث عن المهدي المنجرة حديث ذو شجون يجرّ بعضُه بعضاً، وممّا كنّا قد سمعناه عنه أنه كان فتىً نشيطاً، يقظاً، ذكيّاً، مشاكساً، ومشاركاً منذ نعومة أظفاره، منذ أن كان صبيّاً طريَّ العود، غضَّ الإهاب، في شرخ الشباب، وريعان العمر خلال المرحلة الطلاّبية، في مختلف التجمّعات الشعبية التي كان ينظمها الوطنيّون، كما أنه كان يؤمّ المدرسةَ الحديثة و”الكُتّاب” (يُسمّى في المغرب المسيد)، وعندما التحق لإستكمال دراسته العليا بجامعة “كورنيل” في الولايات المتحدة الأمريكية كان لمّا يَزَلْ في ربيع حياته، كان شغوفاً كعادته بحبّ الإطّلاع والإستطلاع، مُشبَعاً بالفضول العلمي، والخوْض في مختلف حقول العلوم والمعارف، والتطلّع نحو إستكناه وإستقراء المستقبل، وسَبْر آفاق المجهول، وكان فضوله المعرفي المبكّر يدفعه دائماً إلى السُّؤال والإستفسار عن كوامن الأشياء، وعن أسرار الحكمة، وعن حقول المعرفة بدون إنقطاع، كان لا يتورّع من أن يسأل عن كلّ ما كان يخطر بباله ويدورفى خلده، أو يعنّ له في دروب الحياة التي كانت تملأ رأسه، وذات مرّة ضاق به أستاذه ذرعاً في هذه الجامعة لكثرة تساؤلاته وفضوله العلمي فصاح فيه مُنبهراً : مَنْ أَنْتَ..؟ وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً له باسماً :” تساؤلاتك المتوالية الدقيقة ستعود عليك بالكثيرَ من المعارف، ولكنها قد تجلبُ لك معها كذلك الكثيرَ من المتاعب والمُنغّصات”.. وصدق أستاذه وأصاب ..!

 

قِيمةُ القيَم

وفي إطلالة عاجلة على فكر، وبعض تأمّلات المهدي المنجرة في المجتمع، والتنميّة، والحياة، ومستقبل الثقافة، والإقتصاد، والعلم، والتعلّم الذي يُعتبر من المقوّمات الاساسية في حياة الفرد والجماعة في محيطه الإجتماعي، كان يقول في كتابه ” قيمة القيم” : “… ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسّيما في أفقر الدول، حيث يزداد الإهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصّادرة منه . وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصاً بما يتعلق بدول صُنفت إقتصادياً بـ (دول نامية) أو (في طور النموّ)، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطوّرة) مستفحلة كلما إرتبطت بما يُسمّى “مساعدات” من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الإقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للإعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ أنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في “النهوض” إنطلاقاً من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنها “.

الثقافة المتوسطيّة

ونقرأ كذلك في هذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى حول أهمية “الثقافة المتوسطية” التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط فيقول: ” إنّ ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على إعتبار أنّ الثقافة لها إرتباط عريق، و صلة وثقى بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى ” نقل الثقافة “، لأنّ التعدّد وارد بحُكم أن لا شمولية لثقافة مّا من جهة، ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها، أوإستنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء”.

ويقول المنجرة في هذا المجال أيضاً :” إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها، لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية إلخ..أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للإنقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معانٍ سامية”، وعليه فإنّ مفهوم “الثقافة” بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة –” لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، وذلك نظراً لما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل”، ويؤكّد المنجرة في هذا القبيل : “إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شئ من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما إزددتُ إهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة”.

 

الهويّة الثقافية

وفي مَعْرِض حديث المنجرة عن “الهويّة الثقافية” التي يعتبرها سبباً في وجود “منظومة القيم” وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول :” بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الإنتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية”. ويركّز المنجرة على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية “التعلّم” من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم) مشيراً في هذا المضمار: “وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور الحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول”.

المنجرة وحاسوبه

كان المهدي المنجرة يستعمل بإستمرار منذ ذلك الإبّان حاسوباً صغيراً يستخرجه خلال محاضراته، ويسجّل فيه مداخلاته وملاحظاته، سواء كان مُحاضراً، أم مُشاركاً، أم مُستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً، كان قد وضع له إسماً أمازيغيّاً طريفاً إذ كان يسمّيه وينعته ب ” يَطّو ” وهو اسم الفتاة الرّيفيّة التي لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على إسترداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليزعام عام 1648 م بقيادة أحد كبار قادة المولىَ اسماعيل المناضل علي بن عبد الله الرّيفي .

عشنا معه أيّاماً رغيدة ضيوفاً على طعام مُزٍّ، وشرابْ مُرٍّ، ( كما كان يقول الشاعر الضرير- البصير بشّار بن بُرد !)، وفِكرٍ خلاّق، وأدبٍ رّفيع، ومع فيضٍ من قبسات، وقفشات، ولمزات، وهمسات، وإشارات، وإرهاصات، واستكناهات، واستقراءات، واستغوارات، خبايا وخفايا “مِهنة” أو بالأحرى ” مِحنة” السياسة…!

ومرّت الأيّامُ خلسةً، و”قصّرنا” في ليالينا ( أيّ سهرنا) مع رفقته الطيّبة، ولكنّنا لم ” نقصّر” قطّ في صفاء صداقتنا، ونقاءعِشرتنا، وبهاء أنسنا، حافظين للودّ الجميل، وللذكرى العطرة، راعين لهما، حريصين على استحضارهما وصَوْنهما في كلّ وقتْ وحين ما حيينا…! وأنستنا هذه الأمسيات اللطيفة الحافلة باللحظات الرغيدة، والهنيهات السعيدة، والأحاديث الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة، وعوّضها دفء الصّداقة، وطلاوة المودّة التي مدّ الله حبلهما طويلاً ومتيناً، وما فتئنا نحافظ على شعلتهما المتّقدة إلى اليوم .

****

(*) د. محمّد م. خطّابي، كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *