الحرب الباردة تشتعل
د. إيلي جرجي الياس
*الحلقة 21 من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!!
رغم أنّ الحرب الباردة الأولى 1947-1991، والحروب الباردة عموماً، كان الهدف منها أن تكون حروباً استخبارية باردة بين الجبّارين السوفياتيّ وخلفه حلف وارسو من جهة، والأميركيّ وخلفه حلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، الّا أنّه قدّر لهذه الحرب الباردة أن تشتعل مواجهات مباشرة استخبارياً وعسكرياً في أوقات عديدة…
كانت الحروب الباردة فرصة حقيقية لمنع اندلاع الحرب العالمية الثالثة النووية المدمّرة، لكنّ تأثيرها كان عنيفاً على بعض دول العالم الثالث كما بالنسبة لفيتنام خلال فترة زمنية محدّدة، وبالنسبة لأفغانستان وأوكرانيا خلال مراحل زمنية عديدة…
الحرب الباردة الأولى
وفي ستينات القرن العشرين كان للحرب الباردة الأولى أن تشتعل، على ضوء وجود الجنرال الألماني ّ الأميركيّ راينهارد غيهلن – قائد الاستخبارات الألمانية في المناطق السوفياتية تحت الاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية – على رأس الاستخبارات الألمانية الغربية، نتيجة لخبراته الفائقة في المجال السوفياتيْ…”وبعد الحرب العالمية الثانية، وبتوجيه من القائد السوفياتيّ العامّ جوزف ستالين، تعززت مسيرة المخابرات السوفياتية برعاية الرجل الخطير لافرينتي بيريا، على محورين: داخليّ، بالقضاء على كل معارضة ممكنة أو محتملة، واستعمال القوّة المفرطة للسيطرة بشكل كامل على كل الدولة والحزب!! وخارجيّ، بالتصدّي الكامل لمشاريع المخابرات المركزية الأميركية!! ولن يتغير هذا التوجّه حتى ولو تغيرت القيادة العليا، ومهما كان اسم الزعيم: جوزف ستالين أو نيكيتا خروتشيف أو ليونيد بريجنيف…. ويبرز هذا التوجه العنيف في التخلّص من بيريا، بعد وفاة ستالين، ولعلّ بيريا ساهم في تسريع وفاة ستالين نفسه!! وفي مواجهة استخبارية جريئة وعنيفة ومستعرة بين الأميركيين والسوفيات، والاهتمام الأميركيّ الاستخباريّ مثلاً بمراقبة الرئيس السوفياتيّ فائقة، بينما الرئيس الأميركيّ نفسه جون كينيدي، تعرّض للموت اغتيالاً في دالاس في ولاية تكساس، في 22 تشرين الثاني 1963، فيا للعجب!!
حلقات من العنف والاختراقات المتبادلة
لقد شهد الصراع الاستخباريّ العنيف بين المخابرات المركزية الأميركية سي أي إيه وذراعها الحديدية في أوروبا المخابرات الألمانية الغربية من جهّة، والمخابرات السوفياتية كي جي بي، حلقات من العنف والعنف المتبادل، وسلسلة اختراقات واختراقات مضادّة، وتراوح الصراع بين النجاح والفشل لكلّ من الطرفين!! أبرز الاختراقات الأمنية السوفياتية الخطيرة في الجدار الأميركيّ – الألمانيّ الغربيّ الحصين، عملية توقيف هاينز فالفي سنة 1961، فالعميل التابع لمدير المخابرات الألمانية الغربية راينهارد غيهلن في خدمة سي أي إيه، تبين أنّه عميل مزدوج للسوفيات أيضاً وقد قدّم لهم خدمات هامّة!!
أطاحت قضية فالفي بالمستشار الألمانيّ الغربيّ كونراد أديناور الذي استقال سنة 1963، وطوّقت حركة راينهارد غيهلن، وشكّلت ضربة مؤلمة ل سي أي إيه!! ولم يكن السوفيات أوفر حظّاً في هذا المجال، فاخترقت المخابرات المركزية الأميركية العرين السوفياتيّ، وأمّنت هروب إبنة الزعيم الشيوعيّ التاريخيّ جوزف ستالين سنة 1967، سفاتلانا ستالين، الى الولايات المتحدة الأميركية!! وهذا ما أغضب القيادة السوفياتية، والزعيم السوفياتيّ ليونيد بريجنيف، فكان الردّ بقيادة جديدة وفاعلة لل كي جي بي بقيادة يوري آندروبوف، حيث أصبحت سطوة الجهاز أكثر قوّة وحضوراً!! ومع آندروبوف الذي سيتولى لاحقاً القيادة السوفياتية العليا، برزت نخبة قيادية سوفياتية وروسية جديدة!!
معاناة أوكرانية مستمرة
حاول الجنرال راينهارد غيهلن، مدعوماً من المخابرات الأميركية، إشعال ثورة أوكرانية ضخمة بوجه السوفيات، مرتكزاً الى خبراته المتراكمة في المجال الأوكرانيّ!! وكان ردّ فعل السوفيات عنيفاً: سيطرة قوية بقبضة من حديد على أوكرانيا، وقمع كل معارضة محتملة، وهذا ما جعل أوكرانيا في معاناة مستمرة أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها وصولاً الى أيّامنا الحاضرة!! وبلغت المخابرات السوفياتية حدّ قتل ملهم الحراك الأوكرانيّ الثوريّ ستيبان بانديرا سنة 1959…. كما دعم غيهلن الحرك الكرواتيّ المستمرّ في قلب أوروبا، بمواجهة الدولة اليوغسلافية بقيادة الزعيم الشيوعيّ جوزف بروز تيتو، بواسطة القائد الكرواتيّ الدكتور برانيمير جيليك الذي يدير تحركاته انطلاقاً من ألمانيا الغربية نفسها، والذي فشلت المخابرات السوفياتية في اغتياله!! وتشدّد تيتو في قمع المعارضة الكرواتية داخلياً وخارجياً!!” (من مقالتي العلمية: أوروبا تشتعل في خضمّ الحرب الباردة، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 80، تشرين الأول 2019، ص 151، 152).
***
* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.