شاعر آخر يرحل الى الهنالكات
وفيق غريزي
افراس الشعر، كل فترة زمنية تخسر فارسا من فرسانها المبدعين، لتحيا بعد هذا الغياب في ضياع وسط صحراء القحط والجفاف، وامس ترجّل الصديق محمد علي شمس الدين عن صهوة الشعر، وذهب في رحلة طويلة الى الهنالكات، الى عالم البهاءات حيث ينتظره اخوانه الذين سبقوه…
محمد شمس الدين، شاعر من ارض الجنوب العابقة بدم الشهداء، حمل في كيانه عطر زهرة التبغ المنبعث من عمق الدخان والرماد، أنه شاعر حمل قضايا شعبه وامته وقضايا الانسانية، فمنذ انطلاقته حمل ايضا هم اللغة الشعرية، وحتى اليوم الأخير كان في اخصب العطاء والابداع، وبعض النقّاد يضعه في مصاف كبار شعراء المقاومة العرب والعالميين، حيث كان يعتقد بأن أولى واجبات الشاعر أن يعي رسالته، وأن يعي وظيفة الشعر، لأن الشعر اخيرا واولا هو معرفة، وهذه القاعدة تعني فهم الوجود، بحيث يضع الشاعر الشعر على خط مواز للنبوة والعلم معا. وفي يوم غابر كان لي لقاء معه في منزله في آخر شارع الحمراء قرب اوتيل “فرساي” وتناولنا العديد من القضايا التي تهمه وتهم الشعر.
بدايته الشعرية والعالم خارج الشعر
لم يطرح الشاعر محمد علي شمس الدين على نفسه سؤالا عن بدايته الشعرية في أي يوم من الأيام، لأن الكتابة تقترن بوجود العصب الذي يربط القلب بالاصابع، وقال: “اكتب لأنني اكتب كما أنني اعيش لأنني اعيش، التوقف عن الكتابة امر لايكون بالنسبة إلي الا بالموت”. ولعله يتصور نفسه بعد الموت على صورة حركة الاصابع تكمل في الريح كتابة ما تعذر من نشيد. هل المسألة بهذه الفداحة؟ يسأل نفسه ويجيب: “نعم واكثر من ذلك، متعة ولوعة الكتابة، هما متعة الوجود عينه. وربما لا أجد نفسي خارج الكلمات”. دائما يسطر الواقع، النساء اللواتي يتعامل معهن، مجريات العيش اليومي، حتى الطعام والشراب والجسد ايضا، كلها يعبر اليها من معبر الكتابة، ذلك قد يؤذي الآخرين وهو على علاقة بهم وقد وصف بشاعر المخيّلة، وهي هذه الحياة التي لا يعيشها الا هكذا.
والعالم خارج الشعر عنده “عدم يموج في عدم، الشعر يخرج العالم من العدم الى الوجود”. أي بتعبير فلسفي يخرج العالم من القوة الى الفعل، يتجسد الجسد في الشعر، وتتنفس الروح. والجنوب حسب اعتقاد محمد شمس الدين بين جغرافيا الارض والنفس يتحوّل الى عصب، هو ناي “وانا النغم”، نعم هو ناي وكل الكلمات هواء أو نفخ في هذا الناي، سيطلع اللحن من الصدر أو الفم، كيف ما اراد، لكنه ملزم بالمرور في جسد الناي، ربما هذا هو الجنوب.
زمن القصيدة
تساءل شاعرنا الراحل أن “هل للقصيدة زمن؟”. إن هذا الموضوع عميق وصعب جدا، ويحتاج للتفكير طويلا، وقال: “لكن أنا لا اعتقد بأن ازمنة قصائدي متشابهة، ولكنها مركّبة. والأزمنة المركّبة هي ازمنة مفتوحة على بعضها. تطير فيها اللحظات من وقت الى آخر بطلاقة. أنا صاحب قصيدة متسللة من الأماكن والاوقات”.
التسلل الذي يشير اليه شاعرنا يعني عدم ربط اللحظة بوتد المكان، وعدم اعتبار الساعة بوليس حراسة. فهو يقف في الشعر ضد الساعة. (sanjaytaxpro.com) وهي مسألة ذات انعكاس قطعي على اللغة، لأنها تجعل منها اداة استبدال واقنعة، اكثر مما هي اداة تقرير واثبات.
اما مسألة الزمن فيتدخل الموت تدخلا حاسما، الموت الذي تنتهي اليه كل المراكب، او القاع الذي ترسو فيه كل اجساد البحارة والمسافرين. ويقول محمد شمس الدين: “وفي مسألة الزمن تتدخل الحيوات المتعددة التي يمكن لنا أن نعيشها. اضف الى ذلك مسألة الاقنعة وما تعنيه في اللغة، وجوهر القول الشعري يا صديقي. هذه هي المسألة الامان في الشعر”.
ومحمد علي شمس الدين يقول في ديوانه “حلقات العزلة إنه مطاردا وما زال، وكان جوابه على ذلك: “إنني اطارد نفسي، وكل شيء حولي يطاردني. أنا اخاف من حركة الاشياء حولي، وما يحدث من تسلل إلي، هذا التسلل احاذر منه دائما، سيكون الخوف جزءا من سدى ولحمة الكتابة عندي”. ورغم ذلك فهو مشغول بالاضداد وما يتلاطم في الذات والعالم من مويجات، وتنهض الكلمات او تشرئب فوق كسور التناقض، ام تتماهى الاضداد حتى لا يميز فيها بين “لا” و”نعم”. ثم يتبين له أن ما كان الذي يصيد يصيده، في قصيدة بعنوان “سماء الطريدة” يقول:
“طيور اطاردها/ ودمي في فم البندقية/جعبتي منزلي/ كلما صوبت نحو الاعالي/وقعت في مقتلي”.
بين الرومي والعطار
آخر ما كتب شمس الدين، مقارنة بين مجنون بني عامر واشعار كل من جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار النيسابوري. والحقيقة، ان الشعر الذي نسب الى المجنون، ومثله الاشعار التي كتبها الرومي والعطار، هي اشعار ذات حس انساني رفيع، ولها جاذبية شدته اليها، وجعلته يتماثل معها في الكثير من الحالات ، ويقول: “لا اكتم سرا ان مصدرا عميقا من مصادر شعري هو هذا النبع العميق، لهذا الثالوث الكبير، فقد قرأته بامعان، وناسب جزءا من معرفتي وسلوكي”. وهو يعتبر نفسه شخصية مندرجة في هذا المجرى. ولعل ديوان “طيور الى الشمس المرة” وديوان “اميرال الطيور” وما بينها “اما آن للرأس أن ينتهي”، هي دواوين منسوجة من خيوط عرفانية.