سجلوا عندكم

قراءة في كتاب “دير ومدرسة سيّدة مشموشة… 1736 – 2022″، من النشأة إلى اليوم

Views: 309

جوزيف طانوس الحاج

 

في اتّكاء الزمن على العقود الحجريّة العتيقة،في دير سيّدة مشموشة، يتردّد قول الكتاب: الربّ بنى، وأثمر تعبُ البنّائين…

وفي أرجاء مدرسته، ورغم الأزمنة القاحلة،ينبعث المجمع الماروني قائلا: ما زالت روح عين ورقة في شبابها…

دير ومدرسة سيّدة مشموشة، يا نعمة الرسالتين: الروحانيّة والتربية!… في خدمة الأرض والإنسان، انتماءً وسموًّا…

وبَعد…

مَن أولى من المؤرّخ والباحث د. الياس القطار بالكتابة؟ فالدير والمدرسة يسكنان ذاكرته منذ الفتوّة، منذ ابتعاده عن أهله وبيئته ليتلقّى علومه داخليّا، فوق، على مرمى حجر من ساحة ضيعته وصيحات أترابه.

في هذه التحفة الإنشائيّة، مسارٌ عبر مئات السنين، لا ينتهي. وإن؟… – عند عتبات السماء.

في الخلاصة: هنيئًا لنا بحَبّةٍ تليق  بمقدّمة التاج، وبأوراقٍ تُحيي سينودس العطاء.

د. الياس القطار

 

يبدأ الكتاب بإطلالة على القرن الثامن عشر. في مستهلّه، عرض للنهج السياسيّ –الاجتماعيّ لمكوّنات الجبل اللبناني. كنيسة راعية رسوليّة مجتهدة ومؤمنة، تضع حجر الأساس، وأمراء يباركون الانتشار والعيش الواحد، وإقطاعيّون يسهّلون ويرحّبون… وعامّة تستلهمخلية النحل، فأنّى دعاها الحقل ترفّالأجنحة لتتبارَك المؤونة. وكانت البداية مع المطران سمعان عواد ويديه الساعيتين الى ارتفاع الهيكل. هوذا الآتي من شمالٍ متصومع أوان الشّدّة وطامح الى البعيد أوان السّعة.

منذ اليوم الأول، لعب دير سيّدة مشموشة دور المرجعيّة في المنطقة. توسَّعَ شبرًا شبرًا، وعائلة وعائلة، حتى باتت الأسماء تعجّ بالمواسم، والمنحدرات تترسّم كمعلّقات شعريّة.كل هذه الموثوقات، بالزمان والمكان، أسردها المؤلّف بأمانة مترهّبة، ودقّة متناهية.لا عجب، فالخبر في هكذا موقع يصبح رزقَ وقف، ووديعةً ثمينةً، تُحفظ لأجيال وأجيال.

كما لم يغضّ الطرف، الدكتور القطار عن أيّ شائبة حصلت على مرّ السنين، بين الدير وجواره، عابرةً كانت أم متحكّمة. وإشكاليّة بلدته بتدين اللقش خير دليل على موضوعيّة الكتاب. والأمثولة الحلوة التي تشعّ منها، تشهد للبتدّينيّين بعزيمتهم الجسورة،وانتمائهم القويّ، وتعبّدهم للعذراء مريم. وفي النهاية،وبالرغم من تنوّع الأساليب والضغوطات،تملّك أبناء البلدة مساحات كبيرة جاورت ملكيّات الدير والبحر والسماء، وتماهت صلواتهم مع تراتيل الرهبان. وكانت الغلّة حيث الحصاد الوفير، فيض دعواتٍ فاضلة،انضمّت الى جمهور الدير آباء وإخوة عاملين بكرم الربّ.

في مفهوم الناس، أنّ معظم أرزاق الرهبنة هي تقدمة من ميسورين يرون في وقفيّتهم بعضًا من الوفاء، وردّ جميل لعطاياه اللامتناهية. أمّا الوثائق فتبرز عكس ذلك، والرهبان جسّدوا مقولة “الرزق هو غلّة التعب”. فلا الوراثة، ولا الهبات رسمت حدود هذه المملكة، بل كل نقطة عرق ممزوجة بصلاة فرض، وهِممٌ تستيقظ مع نواقيس الصباح. (fleshbot.com) كما أنّ الأزمات والتضحيات والزلازل لم تزعزع إيمان الآباء والأخوة، وقد كانت موجعة في أكثر من محطّة،بل تخطّوها بالرجاء الثابت. فبعد تملّك الجوار، واستثماره، راحت العيون الى البعيد،فكانت مستعمرات خير في النبطيّة، بحنّين، ريمات، الدامور، جبل طورا، جديدة بكاسين وغيرها…

أمّا المدرسة، فيطول الكلام فيها الى ألف ليلة… لأنّ كل من حظي بنعمة التعلّم فيها ولو لسنة واحدة، تخرّج منها بصفة “تلميذ مشموشة”. هذه الشخصيّة تختزل النظام والانضباط، الصلاة والتأمّل، البحث المستفيض في مناهل المعرفة، حبّ الطبيعة والانسان وماذا بعد؟… في حنايا الكتاب ألف تجربة وتجربة جمعها الدكتور القطار من أزمنة مختلفة، تعلن بنشيد واحد تلك العلاقة الحميمة المزدوجة، الإيمان والتربية…ودائمًا وأبدًا في ظلّ حمايتها.

ليست المدرسة التي نشأت في 1922، هي الأولى بتاريخ الدير، بل سبقتها مدرسة ابتدائية إبّان إتمام بناء الدير، وكانت تعلّم بحسب توصيات مجمع 1736، القراءة والكتابة باللّغتين العربية والسريانية حيث معظم النصوص من الكتاب المقدّس. وواجهت هذه المدرسة بعض المصاعب في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الى أن انطلقت مع بداية الانتداب بخطوة ثابتة تخدم أبناء الشوف والجنوب وصيدا.

وعلى مساحة 50 صفحة،لمدىً من مائة عام، يطلعنا الدكتور القطار على نظام مدرسة مشموشة بتفاصيله اليوميّة، والقيّمين عليها من رهبان وعلمانيّين سهروا ورعوا، والمدرّسين والطلاب الآتين من أصقاع وأبعاد. هذا المختبر الإنسانيّ نراه في عيون وقلوب وآفاق الكثيرين الكثيرين. نجاحات على مدّ الوطن.

أما المحطّتان المميّزتان فكانتا الاحتفاليّتين الفضيّة والذهبيّة… حيث عاشت المنطقة أجواء التمجيد حضورًا وكلماتٍ وخطبًا، هي شهادات امتنان وتقدير في بهرجة وطنيّة، وسلسلة برامج فنيّة وفكريّة ورياضيّة متنوّعة.

في النهاية، تقدّم لنا مسيرة دير ومدرسة سيدة مشموشة، أمثولةً غنيّة على جميع الأصعدة، الروحيّة والوطنيّة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة، التربويّة والثقافيّة… والأسمى في مزاياها، الرسوليّة. لأنّه، حين ننتمي الى هذا التاريخ وهذه الجغرافيا، فهذا يعني أننا نتمي الى لبنان الحقّ، والجوهر والدور.

هنيئا بهذا الكتاب، للرهبنة اللبنانية المارونيّة، لمنطقة جزين، وللأجيال الآتية.

وشكرا للدكتور القطار، لفكره ومنهجيّته… في هذه الغلّة الجديدة على بيادره!…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *