مقاومة تهميش الذات في رواية “وطن مزوَّر” للكاتبة الكويتية عائشة عدنان

Views: 134

القاهرة- خالد بيومي

لماذا نحكي القصص؟

والإجابة نحكي القصص للإقناع أو للتسلية أو للاتهام والتبرئة أو للتنوير والإرشاد؛فالسرد يبنى بشكل واعٍ لقواعد البناء الاجتماعي ونظمه،وهو يمتثل في الغالب للقواعد الأخلاقية والأعراف العامة .فالبناء والمحتوى وأداء القصة محددة ومحكومة بالوضع الاجتماعي،وكثيراً ما يساهمان في إعادة إنتاج الأيديولوجيا الموجودة وعلاقات الهيمنة بين السلطة واللامساواة. ولا يقتصر الوعي السردي على الالتزام بالقوعد العامة للبناء الاجتماعي وإنما يقدم رؤية استشرافية للمستقبل،إذ يتم السرد داخل البناء الاجتماعي للإشارة إلى واقع اجتماعي معين تم تعتيمه من جانب الخطاب السائد ممثلاً بأنساق النظام الاجتماعي إما لكشف حقيقته وإما لاستشراف المستقبل من خلال الرؤى السردية.

فالخطاب الروائي كما يقدمه باختينيعد خطابا ذا دلالة اجتماعية؛وهي دلالة لا تعبر عن احتكار الروائي للخطاب بما يحمل من أفكار وأيديولوجيا.فالحوارية التي يقدمها الخطاب الروائي تجعل من الشخصيات الروائية بما تحمل من افكار ورؤى وأيديولوجيا مجالاً خصبا لدراسة الوظيفة الاجتماعية للرواية،على خلاف المدرسة الشكلية الروسية التي تحتفي بالخصائص النوعية للأدب في حين تنصرف عن مقاربة موضوعاته ومدلولاته الاجتماعية.

عائشة عدنان

 

” وطن مزور” هي الرواية الأولى للكاتبة الكويتية عائشة عدنان ، بعد مجموعة قصصية بعنوان” آخر إنذار”، وكتاب في أدب الرحلات بعنوان:” في حضرة السيد Fuji San  .. رحلة الشتاء والصيف ” مشاهدات سائحة في اليابان”. تنطلق أحداث هذه الرواية ابتداء من نهاية النصف الأول من القرن العشرين وحتى اليوم ،وتتوزع أحداث الرواية بين اليمن وإحدى الدول النفطية الغنية في الخليج ” لم تسمها” وأبطال الرواية ينتمون إلى عائلة العاطف التي تنتمي إلى طبقة البرجوازية الصغيرة ” عائلة العاطف”  في جنوب اليمن،والتي تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي،وتمكنت من بسط نفوذها وسطوتها على المحيط.

تأتي ” وطن مزور” في سياق الرغبة الملحة في الإجابة عن الأسئلة الأكثر تعقيداً،والمتعلقة ليس بالماضي وحده،لأن الماضي انتهى وأنجز،ولكن من أجل فهم حاضرنا والانغماس فيه بقوة أكثر.

والكاتب كما نعرف، لا يعيد إنتاج التاريخ،وإلا فلا قيمة لما يقوم به،لأنه في هذه الحالة سيضع العربة قبل الحصان،والمفترض ألا يفاجأ إذا راوح كل شيء مكانه في الرواية التاريخية،علينا أن ندخل عالما معقداً ،نقرأه في حركيته وتناقضاته،وليس في حالة استقراره،لأننا في هذه الحالة لن نعثرعلى ” الريتم”  الذي يتوجبه النص الدرامي والتاريخي الإبداعي تحديداً.

أبطال الرواية ينتمون إلى ثلاثة أجيال: الجيل الأول ” سيف العاطف وزوجته صالحة”   الذي ترك القرية وعمل سائقا في ميناء عدن ،واصبح لديه أسطول سياران لنقل الركاب، ولكنه يلقى مصرعه في حادث سير، الجيل الثاني ” سالم العاطف وزوجته جنه” الذي يعمل سائقا في جيش إحدى الدول النفطية الغنية المجاورة لليمن،ولكنه يفشل في الحصول على أوراق الجنسية رغم طول البقاء في هذه الدولة، الجيل الثالث ” الحفيد عمر ” الراوي الرئيس في الرواية،ولكنه الراوي العليم والمهيمن ، والذي ولد ونشأ في الدولة النفطية الغنية وتعلم في مدارسها، وعمل في شركاتها،ويعاني التهميش في الوظائف والمطارات حتى الزواج يفشل في الارتباط ب” ليلى” التي تنتمي إلى هذه الدولة النفطية، لتعقد آليات وفرص الارتباط بينهما، وفي النهاية يضطر إلى مغادرة وطنه والعودة إلى قريته في جنوب اليمن” مسقط رأسه”.

 

تبدأ مظاهر التهميش بداية من الجيل الثاني جيل الأب ” سالم العاطف” الذي اضطر إلى مغادرة القرية عقب وفاة والده” سيف العاطف” وزواج أمه ” صالحة” من مدير أعمالها  ” عادل ابن بكر” حيث كان يشرف على الأراضي الغربي في القرية التي تمتلكها صالحة، في القرية،فاضطر سالم إلى النزوح إلى دولة خليجية غنية واعدة بالثراء، ومزدحمة بفرص العمل ،هذا الوطن الجديد الذي وهبه فرص الثراء والإمكانيات القوية، عكس أبناء قريته الذين يتجرعون قسوة الحاجة ومرارة تفاصيلها. والتحق سالم بقطاع الجيش الذي كان في طور التشكل والذي كان يضم عدداً من الوافدين وإن كانوا ممن يفتقرون إلى الخبرة أو تعوزهم المعرفة العسكرية. (plu68.com) وفي زمن محدود تمكن سالم من أن يصبح أحد أفراد القطاع المتميزين الذين يصعب التخلي عنهم.

وتحدثنا الساردة عن وضعية هذه المدينة الناشئة التي لها عين على الماضي وعين على المستقبل، فتقول في صفحة 62 :” كانت هذه المدينة الوليدة حينها تخطو أولى خطواتها صوب الحضارة متعثرة بتقاليدها الموروثة،ومٌحاولة الخروج من عباءة أفكار مجتمعها الصغير،يٌربكها التعداد المحدود مٌحاولة فرض مدنية ومؤسساتية تٌحاول التخلق بصعوبة”. فعائشة عدنان مسكونة بمقاومة الدونية والتهميش ،كما أنها تتحدى سلطة الكتابة المهيمنة،وتبحث عن نغمتها الخاصىة وسط ركام المألوف والمعتاد،بعيدا عن  غواية المركز،حيث الهوامش التي لا تعرف سوى الإبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجة إلى كشف .

والملمح الأول من التهميش هو فشل سالم في الحصول على وثيقة الانتماء السحرية” أوراق الجنسية” التي تهبه رسوخاً مستحقا على هذه الأرض.وزاد الطين بلة هو دعم اليمن للغزو العراقي على الكويت ، فتم تجريده من رتبته العسكرية وإن ظل متمتعا بمستحقاته المالية وعاد سالم بصحبة أسرته إلى قريته مرة أخرى التي لم تمنحه سوى اليتم والأسى المُبكر، في انتظار ضوء في آخر النفق المظلم.

والملمح الثاني للتهميش يتعلق بالابن عُمر رابع أبناء سالم العاطف ،وآخر عنقود العائلة الكبيرة، والراوي للأحداث في ” وطن مزور” حيث  لفظته المدارس الأولية التي ينتسب لها الأطفال عادة،”فالمدارس التابعة للحكومة كانت قاصرة على أبناء المواطنين ولا يتاح التعليم ما قبل الإبتدائي إلا وفق رسوم مرتفعة،لذا ارتأى أبي الاستغناء عن هذا التعليم والاكتفاء بالتعليم النظامي الذي يبدأ من المرحلة الابتدائية”.

عائشة عدنان

 

وبعد انتهاء مأساة الغزو عادت الأسرة مرة أخرى إلى الوطن البديل، ولكن هذه المرة عانوا نظرات الاحتقار والازدراء” تلك الفجوة التي كانت تفصلنا عن الآخرين باتت أكثر اتساعاً ووضوحاً كشأن التعامل الإنساني مع المحيط الذي اكتسى بلون آخر كان علينا أن نعتاده ونتقبله”.

بعد حصول عمر على الشهادة الثانوية فشل في تحقيق حلمه في الالتحاق بالهندسة الكيميائية ” رغم تفوقه” لأنها متاحة للمواطنين فقط، واضطر والده إلى إرساله لاستكمال تعليمه بالجامعة العثمانية في الهند على نفقته الخاصة ولكن عمر تتدهور صحته هناك بعد عام ونصف من الدراسة فيضطر للعودة إلى الوطن ” المسروق” ويستكمل تعليمه بقسم نظم المعلومات في الجامعة الحكومية،ببعثة مجانية مع احتساب بعض المواد التي اجتازها في الهند.

ويحكي الراوي ملمح آخر من التهميش يتعلق بصديقه فهد الذي كان رفيقه في إحدى رحلات العودة من الهند وكانت صلاحية التأشيرة الخاصة بفهد ستنتهي بعد شهر ورفضت السلطات ركوبه الطائرة والإبقاء عليه في المطار لحين النظر في إمكانية سفره أو إعادته إلى البلد الذي جاء منه أو إلى الوطن الأم،” ربما قدر المنتمين إلى ديار بلقيس أن يعيش أبداً في ظلال قهره ووجعه أن يدفع ضريبة الانتماء إلى تلك البقعة القصية الناعسة وعلينا أن نقبل مقتضياته وأحكامه”. وغادر صديقهم الثالث محمد وظل عمر برفقة صديقه فهد وتم احتجازهما في غرفة أمنية منكفئة في زاوية الممر المعتم بدون طعام، باستثناء بعض أقداح الماء من وقت لآخر، وتم الإفراج عنهما بعد مرور أكثر من ثمان وأربعين ساعة بعد أوامر مشددة بضرورة تجديد صلاحية التأشيرة .

ومن مظاهر التهميش في حق المرأة هو حرمان” جواهر” شقيقة عمر، من استكمال تعليمها تحت ذريعة” انتي بنت ولا مكان لك في الجامعات المختلطة ذاك شر مستطير لا ترضاه أسرتنا المُحافظة الوقورة” ص 143 . كما تم تزويجها إلى أحد الأقارب البعيدين والذي يكبرها بأعوام والذي أراد أن تكون أماً بديلة لأبنائه الخمسة بعدما توفيت زوجته الأولى .. وتم كل شيء كما رسموه وأرادوه بمباركة الجميع ودعمهم.

 

ولا تملك الكاتبة في مواجهة واقع مختل سوى السخرية التي تنتزع براثن القمع وتوقع الإدانة على من يستحق الإدانة ،وتتطلب هذه الكتابة درجة عالية من المهارة والرهافة،المهارة التي تٌبقي على الشعرة الدقيقة الواصلة والفاصلة بين المسموح به والمنهي عن التصريح به،متوسلة باللقطة المحايدة في الظاهر،والوصف الذي ينطق الحال على نحو غير مباشر،والتعليق البريء على مستوى السطح. ويقضي ذلك اطراح النزعة الانفعالية بما يضفي حياداً مراوغا في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات ،جنباً إلى جنب الرهافة التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء ،فتؤثر التلميح الذكي على التصريح الفج ،متجنبة العبارات النابية والجمل العاطفية،رافضة الاستسلام لغواية أي حال من حالات الهشاشة الوجدانية في البوح.

كما تعرضت عدنان إلى قصة الحب غير المكتملة بين عمر وليلى التي تنتمي إلى أسرة من المجتمع المخملي والبرجوازية الصغيرة،ويرفض أهلها فكرة الارتباط والزواج للفارق الاجتماعي الكبير بين أسرتها وأسرة عمر يقول السارد في صفحة 180:” تجربتي في الوصول إلى أهلها،حديثي الخائب مع والدها،تلك الوساطات المتعددة من أصدقاء وأقارب،وضعي المادي المستقر وثرواتي المالية الصغيرة،كلها لم تكن كافية لإقناع أحد”.

 وتناولت عائشة عدنان في ” وطن مزور” تجربة مليئة بالتناقضات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية ،وهي تثير لدى القاريء أسئلة كثيرة تخص المنظومة الأخلاقية والثقافية التي تسود مجتمعاتنا ،إنها تمثل بوضوح التفاعلات الطبيعية بين الأفكار والرغبات والمجتمع ،ففي” وطن مزور” لدينا رغبة بسيطة ومشروعة هي الرغبة في الحب والدراسة والحرية والاختيار .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *