من الثورة الروسيّة إلى الحرب الأوكرانيّة
د. إيلي جرجي الياس
*الحلقة 35 من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!!
لا تزال الحرب الأوكرانيّة، التي انطلقت بدخول القوّات الروسيّة إلى الأراضي الأوكرانيّة يوم 24 شباط 2022، بالرغم من علانيّتها ومراقبة مسار مجرياتها، تكتنز الكثير من الغموض، في أسبابها وأحداثها وتداعياتها، لا بدّ أن تكتشف وتكشف يوماً بعد يوم…
مسار طويل ومعقّد من الأحداث والمفاجآت، وسلسلة مذهلة من القيادات الروسيّة والسوفياتيّة، بين عامي 1900 و2022.
“لقد استطاعت الثورة البلشفية الروسية أن تحقّق إنجازاً مفصلياً في تاريخ روسيا، عبر وضع نهايةٍ حتميّة وحاسمة لحكم العائلة القيصرية الروسية…
وتتالى على الحكم سلسلة من القادة، ولكلّ منهم ميّزاته وأسلوبه في الحكم وإدارة شؤون الدولة… ولعلّ أكثر القادة استفادةً من تجارب الماضي، عبر التاريخ الروسيّ، الرئيس الروسيّ الحاليّ فلاديمير بوتين متابعاً شاملاً ومحلّلاً بارعاً لكلّ تلك التجارب وتداعياتها السياسية…
القادة الثلاثة الكبار
ثلاثة كبار، طبعوا التاريخ السوفياتيّ – الروسيّ الحديث والمُعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى: الزعيم السوفياتيّ الشيوعيّ القدير والمستبدّ الخطير جوزف ستالين، الذي يخامره الشكّ والقلق من كلّ رجاله المخلصين أو الطموحين، لكنّه يدير ظهره للفوهرر أدولف هتلر بكلّ ثقة، فيتلقّى طعنات الغدر منه، إلّا أنّه سيتصدّى للهجوم ثمّ للاحتلال النازيّ بكل إرادة صلبة وصمود أسطوريّ، وسيكتب له الانتقام من النازيين فرصةً للتعويض عمّا ارتكب في الداخل من حماقات وإعدامات!!
والزعيم السوفياتيّ الآخر ليونيد بريجنيف، المتألّق في الحكم والسلطة وإدارة مفاصل القرار في الدولة بحنكة عالية وحكمة واضحة، ولو أنّه حيّر الأقربين والأبعدين بقدرته على إدارة الملفّات المعقّدة بسلاسة!!
والرئيس الروسيّ العظيم، فلاديمير بوتين، العائد بروسيا التاريخية إلى ساحات القرار الدوليّ، بإمكانيات واسعة ورؤية ساطعة ومستقبل واعد، بفضل مهارة سياسية عالية وقدرات استراتيجية استيعابية نوعية!!
وبين الثلاثة الكبار، من رسم الطريق كفلاديمير لينين، ومن تمّ التضحية بتعاليمه كليون تروتسكي، ومن أمّن المرحلة الانتقالية كنيكيتا خروتشيف، ومن لم يمهله الزمن الوقت الكافي كرجل الاستخبارات العنيد يوري أندروبوف، وخلفه كونستانتان تشارنينكو، ومن أضاع مجد الاتحاد السوفياتي عن قصد أو من دون قصد، كميخائيل غورباتشيف، ومن مثله بدّد مجد روسيا، كبوريس يالتسن، إلّا أنّه أحسن في اللحظة التاريخية المنشودة، اختيار الوريث ليكون المنقذ الأكيد!! من دون أن ننسى صديق بوتين الوفيّ، والرجل السياسيّ الهادئ، ديمتري ميدفيديف، رئيساً!!
المستفيد الأكبر
نعم، لقد كان الرئيس بوتين أكثر المستفيدين من تجارب القادة السوفيات والروس السابقين… وإن كان منطق الحروب الباردة، قد غلب بعد الحرب العالمية الثانية المدمّرة، لأنّ أي حرب عالمية ثالثة لا يمكن أن تتمّ إلّا وتؤدّي إلى نهاية العالم المتحضّر، فالقدرات النووية لا حدود لها في مجال الدمار الشامل… ولكن، الرئيس الروسيّ العنيد فلاديمير بوتين ميّز الحرب الباردة الثانية 2000 – 2020، بجرأة سياسية غير اعتيادية، وإمكانيّات استراتيجية وعسكرية واستخبارية غير مسبوقة…
لقد اتخذ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين القرار الحاسم: عودة روسيا الاتحادية بقوّة إلى الساحات الدولية، ولو اقتضى الموضوع مواجهةً استخبارية حادّة مع الأميركيين خلال الحرب الباردة الثانية، بعدما كاد المشروع الأميركيّ بإنهاك روسيا ينجح في الفترة الممتدّة بين ولاية الرئيس السوفياتيّ الأخير ميخائيل غورباتشيف والرئيس الروسيّ الأوّل بوريس يالتسن…
الحاكم والحكيم والحكم
أحكم الرئيس فلاديمير بوتين قبضته الحديدية في الداخل، فأقصى مراكز القوى والمافيا الاقتصادية، وكلّ معارضة مدعومة من الغرب، وصولاً حتّى تجربة أليكسي نافالني… وعمل على حماية وصيانة المجال الحيويّ لروسيا: أعاد الشيشان إلى الحضن الروسيّ، ووضع حدّاً للطموحات الجورجية، وحاصر الأحلام الأوكرانية في مهدها فضمّ القرم – المنطقة الاستراتيجية – إلى روسيا، ووفّق بين أرمينيا وأذربيجان في سبيل المصلحة الروسية المطلقة، وتدخّل في سوريا فارضاً كلمته الفاصلة، على مسافة من الدهاء السياسيّ بين القدرات الإيرانية والطموحات السعودية والآمال التركية، وتفوّق حضوراً سياسياً واستخبارياً في البلقان، وبات الحاكم والحكيم والحكم، وكأنّه القيصر الروسيّ الجديد في مطلع الألفية الثالثة…”
(من مقالتي العلمية: الكرملين، من القيصر وكيرنسكي وراسبوتين، إلى تروتسكي ولينين وستالين: سلسلة من الأسرار والأحداث والمفاجأت!!، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 91، تموز 2022، ص 96، 97).
***
* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.