الشّاعر محمد نعيم بربر… كوكبٌ يُنير بالكلمة عَتمَة الغُربة
نزار سيف الدين
للوهلة الأولى يشعر قارئ شعر محمد نعيم بربر بأنه أمام حالة خاصّة جدًّا، ولكنها ترتبط بثَمّة علاقة قوية بذلك التاريخ الطويل للشعر العربي.
صحيح أنه كوكبٌ ينير بالكلمة عتمة الغربة، ويروم إقامة الدنيا هذه، ليصنع من خياله دنياه الخاصّة التي يتربع ملكًا على عرشها. ولكنّه مع ذلك يشعر بأنه أحد فرسان تلك الكوكبة من الشعراء التي عرفت كيف تنتقي وكيف تختار وكيف تتجدّد، ولكن من خلال العمود الشعري وأوزان الخليل (الخليل بن أحمد الفَراهيدي، وَاضِع عِلْمِ العَروض)..
محمد نعيم بربر لم يُفَرْقِع اللّغة ولم يُفجّر الأساليب، بل اعتمد خطًا بيانيًّا يدلنا كيفما اتجهنا عليه. صحيح أن لكلّ شاعر قصة مع الشعر قلّما تختلف في حَيثيّاتها عن قصص الآخرين، إلا أن ميزة شاعرنا تكمُن في تلك العفوية التلقائيّة والطفوليّة فيما نظم من شعر، مكرّسًا المعاني الجميلة للعلاقات الإنسانية في تفاعلها مع جميع الكائنات الحيّة من خلال الطبيعة، كلوحات ورموز تُمَجّد الخالق في صنعته، إلى الإنسان بكلّ ما يكتنفه من أسرار وغموض وسلوك، إلى هذا الكون الذي ما يزال يحار فيه الفكر بكل ما تعني هذه الحيرة من لحظات صفاء وتجلٍّ وغموض تتداخل فيها حالات من الصوفيّة والعقلانيّة بين الحين والآخر.
والشعر برأيه هو أداة لفهم هذا الكون وأسراره، بقدر ما هو صور جميلة موسيقيّة غنائيّة، تلوِّنه المشاعر الإنسانية الدافئة.. وهو في هذا يقول:
“الشّعر فَنٌ لا حُــــــــدودَ لحُسْنِه/ وبِوصْفِه قدْ تَعْجَــــــزُ الأسْمَاءُ/أسْرارُ هذا الكون بعضُ حُدودِه/حُفَّتْ به أرضٌ لَهُ وسَمَـــــــــاءُ”.
وشاعرنا يُدِينُ انْسِلاخ بعض الشعراء عن مفهوم الأصالة، ويُؤكّد أنّ شَططًا كبيرًا قدْ أصاب الشعر العربي، ولا عَجَب في ذلك وهو الذي تَتَلْمَذَ على يَدّ الشاعر الكبير أحمد الصّافي النّجفي، وتَعرّف إلى العديد من الشعراء اللّبنانيين ونخُصُّ منهم شاعرنا سعيد عقل.
إذًا التربة خصبة والبذور صالحة، ولا بدّ من ربيع تتفتح براعمه وتزهو مع النسائم الحالمة كلماته التي منها تلك القصيدة الرائعة: “رِحْلَة العَوْدَة”، التي تُذكّرنا بتلك المدرسة التي أنشأها اللّبنانيون في المَهْجَر وأغْنَتْ المكتبة العربيّة بتجْرِبة فريدة على غِرَار تلك التّجْرِبة الرّائعة التي عرفها العرب في الأندلس.
وإن كانت الحرب اللّبنانية قدْ نَسَجَتْ خُيوط دمّ تفجّرت في كلّ الوطن، إلا أنها أيضًا فجّرت تلك العاطفة الرّائعة التي حَارَ العالم في تحليلها وتفسيرها. فنحن نُحبّ هذه الأرض في حنوّها وفي غضبها، في هدأة أنسامها وفي لهيب نارها.. إنّنا نُحبّ هذا الوطن، ونُحبّ ما أنشده محمد نعيم بربر:
“غَداً سَألْقَــى هَوَى الأحْبَابِ فِي وَطَنِي/فَأحْصُدُ الشَّوْقَ، أشْكَــالاً وَألْوَانَــــــا/أُعَانِقُ الأرْضَ وَالأشْجَــارَ فِي فَرَحٍ/وَأحْضُنُ الأهْلَ وَالْخِلاَّنَ، نَشْوَانَــــا”.
إلى أن يقول شاعرنا بما يُشْبهُ الوَجَع:
“طَالَ اغْتِرَابِي وَطَالَتْ رِحْلَتِـــي مَعَهُ/هَلْ يُرْجِعُ الْوَصْلُ عُمْرَ الْحُبِّ رَيَّانَا؟!/أمْ يَتْرُكُ الْعُمْرُ فِي النِّسْيَانِ صَاحِبَـــــهُ/وَقَدْ خَبَــا وَهْجُــــهُ، بُعْداً وَهِجْرَانَــا ؟!/كَــــالنَّجْمِ تَهْفُـــــــــو إلَى أنْوَارِهِ، مُقَلٌ/فَمَا اسْتَطَاعَتْ لَهُ فِي الْبُعْدِ بُرْهَانَـــــــا”.
ولعمري إن هذه القصيدة تُعتَبر من عيون الشعر العربي.
***
* مِنْ كتاب “رِجَال وذِكْريَات”، قيْد الإعداد، فصْل بعنوان: “قالوا في الشّاعر محمد نعيم بربر، قديمًا وحديثًا”: مقالة للأديب نزار سيف الدين بعنوان: “الشَّاعر مُحَمَّد نَعِيْم بَرْبَر: كَوكَبٌ يُنِيْرُ بالكَلِمَةِ عَتْمَةَ الْغُرْبَةِ”، نشرت في مجلة “الإقليم” سنة 1997.
(link)