أنسنة اللقاح

Views: 34

أ.د. مشير باسيل عون

لا إعجاز في الحياة، بل اجتهادٌ يحتمل الخطأ والصواب. والصواب ليس مطلقًا، والخطأ ليس مميتًا. قد يكون الإعجاز في هبة الحياة الأصليّة، على ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسيّ ميشِل هنري (1922-2002)، إذ تتفتّح الحياة في الكون وفينا على عفويّةٍ وثّابةٍ تأبى الانسلاك الإكراهيّ في مقولات الإدراك البشريّ. أمّا مسرى الحياة، فلا يني محكومًا بالمحدوديّة والمعطوبيّة والمائتيّة. من صميم الواقع التاريخيّ المرسوم هذا يغترف الإنسانُ عناصرَ تدبّره، وأدواتِ إدراكه، ووسائلَ صناعته، وسبُلَإنجازاته. لذلك لا بدّ للبحث العلميّ عن اللقاح الناجع أن يتّسم بسمات الوضعيّة الإنسانيّة هذه. فلا سبيل إلى تصوّرِ لقاح إعجازيّ يتجاوز به الإنسانُ أحكامَ بنيته الجسديّة، وقرائنَ انتمائه الطبيعيّ، وضرورات تفاعله البيولوجيّ مع عناصر الكون الفسيح.

 

ظنَّ الناسُ، والحال هذه، أنّ العثور على لقاح كورونيّ سيُعفيهم من عدوان الكوفيد التاسع عشر، لكي يعودوا عودًا حميدًا إلى نسق حياتهم المألوفة. ولكن فاتهم أنّ الكوفيد التاسع عشر كان، وما انفكّ، جزءًا من الطبيعة الكونيّة الأرحب. بعد انقضاء السنة الأولى على انفجار الجائحة الكونيّة، تَبيَّن أنّ البشريّة تستضيف، على غير توقّع، ثلاثة أو أربعة فيروسات جديدة كلّ عام، حتّى بلغ مجموع الاستضافات المزعجة حوالى أربعمئة فيروس على تعاقب عقود القرن العشرين. ومن ثمّ، يعتقد أغلب العلماء أنّ الكوفيد التاسع عشر ليس ثمرة تلاعبٍ مختبريّ تعمّدته أجهزةُ المخابرات الكونيّة من أجل استئصال قسطٍ من البشريّة والإبقاء على قسطٍ آخر. والأمر هذا من المحال التاريخيّ! جلُّ الحقيقة أنّ عدوان الإنسان نفسه على الطبيعة هيَّج الكائنات الحيوانيّة المعتصمة بمحميّاتها الذاتيّة. فاستُؤصلت الغابات والأشجار التي كانت الخفافيش، على سبيل المثال، تعتصم بها. (https://escapecitybuffalo.com/) واستذوق الإنسانُ طعمَ الغرابة اللحميّة، فانهال على أصنافٍ من الحيوانات الوحشيّةِ البنية والتركيب والنظام والمسلك، يجالسها ويؤانسها ويستأكل جلدها ولحمها وعظمها. فكان لا بدّ للبيئة الحيوانيّة الوحشيّة من أن تُستزرع استزراعًا مرعبًا في البيئة الإنسانيّة. فحصل ما حصل في غابات أمِريكا اللاتينيّة وأفريقيا وآسيا، وجرى الاحتكاك التلوّثيّ بين الإنسان وفيروسات المحميّات الطبيعيّة التي طفقت تفتك بنا فتكًا أليمًا.

 

في الوضعيّة الكونيّة المشلولة هذه، لا بدّ للمرء من أن يسأل عن طبيعة اللقاح المكتشف. إذا ثبت أنّ اللقاح يحمل على الأقلّ في بنيته الحمضيّة صورةً جينيّةً تحاكي أو حتّى تماثل بناءات الطبيعة الحيوانيّة المشتقّ منها، فهل يجوز أن نستدخل على التركيبة الجينيّة في الطبيعة البشريّة عناصرَ حيوانيّة قد تبدّل تبديلًا خطيرًا في تركيبة الإنسان الجينيّة الأصليّة؟ مثل السؤال هذا يفترض سؤالًا أشدّ إغراقًا في التطلّب والتأصيل، عنيتُ به السؤال الذي يتحرّى عن طبيعة الإنسان الأصليّ. فهل للإنسان من طبيعة أصليّة، ثابتة، مرسومة رسمًا واضحًا متقدّمًا على التحوّلات الطارئة؟ أم إنّ الإنسان يصير على ما يصنعه بنفسه، حتّى لو اتّضح أنّ الطبيعة البشريّة تحمل في ذاتها قابليّاتٍ شتّى من التطوّر الطبيعيّ قد تُفضي بها إلى غير ما هي عليه اليوم؟

 

من البديهيّ أنّ الإنسان لا يمكنه أن يجزم جزمًا قاطعًا في هذه المسألة. مِن الناس مَن يعتقد أنّ الطبيعة الإنسانيّة بُذرت بذرًا كاملًا في هيئتها الخلويّة الأولى. وما التحوّلات التي تصيبها سوى التعبير عن الطاقات السحيقة المنطوية فيها أصلًا. قد يكون الفيلسوف اليونانيّ أرسطو (384 – 322 ق. ب.)، فيلسوف الواقعيّة الديناميّة أو الحيويّة الواقعيّة، واللاهوتيّ الإيطاليّ توما الأكوينيّ  (1225-1274) من أشدّ المدافعين عن نهائيّة الطبيعة الإنسانيّة وثبات جوهرها، وذلك على الرغم من الحيويّة الانتقاليّة التي تدفع بالكائن الإنسانيّ من طور إلى طور، بحسب قابليّات التحوّل الإمكانيّ المنطويّة في ذاتيّته الخاصّة. في مقابل الدفاع الصلب عن الطبيعة الإنسانيّة، ينشط تيّارُ القائلين بانفتاحيّة الكائن الإنسانيّ المشرَّعة على كلّ الاحتمالات. قد يكون الفيلسوف الإسكوتلَنديّ ديفيد هيوم (1711-1776) والفيلسوف الفرنسيّ جان-بول سارتر (1905-1980) من أبلغ مناصري الحرّيّة الناشبة في واقع الكيان الإنسانيّ برمّته، تدفع به في اتّجاهاتٍ لا يحدّدها سوى تفاعله التراكميّ مع نظرائه ومحيطه وبيئته، ومع الطبيعة والعالم والكون. يُصرّ هيوم على القول بأنّ الحال الطبيعيّة صوغٌ كلاميٌّ أنشأته المخيِّلة، في حين أنّ الواقع الإنسانيّ كنايةٌ عن تجاور ظواهرَ تأتلف ائتلافًا ظرفيًّا لا ضرورة سببيّة فيه على الإطلاق. أمّا سارتر، فيجعل الحرّيّة المفتوحة العامل الأساسيّ في تكوّن الهويّة الإنسانيّة المشرَّعة على جميع الاحتمالات.

الفيلسوف اليوناني أرسطو

 

أسأل عن الطبيعة الإنسانيّة في سياق الكلام على اللقاح الكورونيّ، وفي إحساسيّ أنّ الإنسان أوشك أن ينتقل من طورٍ إلى طورٍ في المنعطف العلميّ الأنتروبولوجيّ التاريخيّ الثقافيّ الذي نعاينه اليوم من على بعد. لا مهرب من الاستفسار عن أثر اللقاح الحيوانيّ في تغيير ملامح الطبيعة الإنسانيّة التي تعوّدنا الركون إليها، سواءٌ ثبتت صمديّتُها الراسخة أو بُرهنت انفتاحيّتُها المشرَّعة. يعلم الجميع أنّ اللقاحات الكلاسّيكيّة أصبحت جزءًا من الإنسان. بيد أنّ التفاعل بين عناصر الطبيعة الجامدة نسبيًّا وجسم الإنسان لم يبلغ حدود التحوّل الكيانيّ في الطبيعة الإنسانيّة. فالثابت في الاختبار التاريخيّ أنّ الإنسان استدخل إلى جسده جميع العناصر الطبيعيّة الممكنة، من هواء وتراب ومعادن وذبذبات وموجات وأثيريّاتواحترارات. أمّا في نطاق التفاعل مع الحيوان، فلم يتورّع عن الاغتذاء بجميع أنواعه وأجناسه وأصنافه.

اللاهوتيّ الإيطاليّ توما الأكوينيّ

 

غير أنّ الجديد المقلق اليوم إنّما يختبره الإنسان في تغيير مبانيه الجينيّة الأصليّة، إذ يبثّ فيها العلمُ تراكيبَ جينيّة مستلّة من المباني البيولوجيّة الحيوانيّة. لا شكّ في أنّ العلوم الطبّيّة أجازت استزراع الأعضاء الحيوانيّة في الجسم الإنسانيّ أو، على الأقلّ، استخدام الأنسجة الخلويّة الحيوانيّة في استبدال بعض الأعضاء والشرايين. وأتيح أيضًا للإنسان المعاصر أن يُثبت داخل البنيان الجسديّ الإنسانيّ شرائحَ إلكترونيّة تضطلع بوظائف شتّى، تبدأ بتنظيم ضربات القلب ولا تنتهي بالتأثير المباشر في التفاعلات الناشطة في مستوى الخلايا العصبيّة الدماغيّة، حيث تُحتضن وتُستنضج وتُستولد القراراتُ الوجوديّة الحياتيّة الخطيرة في تعيين مصير الإنسانيّة.

الفيلسوف الإسكوتلَنديّ ديفيد هيوم

 

هنا يسأل المرء عن أثر الاستزراعات الطبّيّة هذه في تحوير البنية البيولوجيّة الإنسانيّة، وفي تغيير المزاج التدبيريّ في صوغ قرارات الوجود الإنسانيّ الأساسيّة. إذا ما نظرنا في صورة الإنسان منذ مئة ألف عام حتّى اليوم، هالنا التطوّرُ الخطير الذي أصابنا في الشكل وفي المضمون. لذلك قد نظنّ أنّ الإنسانيّة،  وهي في تحوّلٍ مطّرد منذ أقدم الأزمنة، ثابتةٌ على وجهٍ ألِفناه وهيئة تعوّدناها. بيد أنّ المسافة الزمنيّة هي التي تهدِّئ من روعنا. فلا نُصدم بجسامة التحوّلات الطارئة. شأنُنا في ذلك شأنُ الإنسان الذي يختبر ولادته ونموّه ونضجه واعتلاله وعجزه وفناءه على تراخي العقود. فيُفعي نفسَه من معثرة الانتحار الفوريّ إذا ما تغيّر إيقاعُ التطوّر البيولوجيّ، فانتقل الطفل إلى الإيفاع في غضون سنة، وفي غضون سنة أصبح في المراهقة، وفي المهلة عينها استوى شابًّا ونضج بالغًا. وما لبث في المهلة عينها أن سقم وعجز وكهل وشاخ وانطفأ ومضى. فما تكون عليه مشاعر الناس الذين يختبرون مثل التطوّر السريع هذا في غفلةٍ من الزمن لا تتجاوز بضعًا من السنوات؟ والحال أنّ سنّة الحياة تقتضي اليوم أن ينبسط الوجودُ الإنسانيُّ الفرديُّ، في جميع أطواره، على تعاقب ما يناهز العقود العشرة، حتّى إذا بلغ الإنسان مبلغًا قصيًّا من العمر، يرضى بالموت المقبل. لذلك كان الزمان المنبسط في تؤدة من أجمل التعزيات المسكوبة على وعي الإنسان. وإلّا إذا عاينتُ في صبيحة كلِّ يوم إخدودًا يرتسم على محيّاي، كفرتُ بالدنيا واعتزلتُ الحياة وأوقفت مسرى الزمن.

الفيلسوف الفرنسيّ جان-بول سارتر

 

هو المجرى الزمنيّ عينه يحمينا من صدمة معاينة الآثار الجسيمة التي تخلّفها التحوّلاتُ النازلة بنا منذ الزمن القرديّ الأوّل. مَن منّا يستطيع أن يتحمّل صورتَه القرديّة، وقد اختُزلت بيننا وبينها المسافةُ الزمنيّة؟ مَن منّا يقوى على استدماج مئات آلاف السنوات من التطوّر وتكثيفها في مدًى تاريخيّ منظور؟ لقد أسعفتنا الحياة إسعافًا حميدًا حين جنّبتنا مثل المواجهة الصادمة هذه. غير أنّنا لا نستطيع إلّا أن نستفسر عن الجانب الإنسانيّ الممكن صونُه في خضمّ التحوّلات البنيويّة والجينيّة والروبوتيّة والإلكترونيّة هذه. هنا أعود إلى السؤال الفلسفيّ عينه: ما الطبيعة الإنسانيّة؟ أو بالأحرى: ما الإنسان في الجسديّات؟ وما الإنسان في النفسيّات؟ وما الإنسان في الروحانيّات؟ أفيكون هو إيّاه على اختلاف الهيئات التي يتجلّى بها كيانُه؟ هل يكون الإنسان مختلفًا عن الطبيعة وعن الأشياء وعن العالم بوعيه فحسب، أم بوعيه وببنائه الجسديّ وبالتصاق وعيه بهذا البناء، أي باعتلان جوّانيّته وتحقّقها في جسديّته، على ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسيّ موريس مِرلوبونتي (1908-1961) حين يعلن أنّ الجسد هو الكائن الإنسانيّ عينُه، وقد تمظهر في كلّيّة متّحدة متناسقة في الخارج المنظور؟

الفيلسوف الفرنسيّ موريس مِرلوبونتي

 

يبدو لي أنّ الإنسانيّات اختراعٌ إنسانيّ محض يستند إلى إرث الوعي الثقافيّ التاريخيّ المتراكم. ولكنّ الإنسان ليس واقعًا بديهيًّا. لذلك قال حكماء العرب إنّ الإنسان أشكل على الإنسان. الواقع أنّ إنسانيّة الإنسان هي مجموع الارتباطات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي ينسجها الشخص الفرد على تعاقب اختباراته الوجوديّة. أمّا إذا شاء أن يخلط بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، فإنّ الحدود الفاصلة قد تسقط سقوطًا مُهلكًا بين الغيريّات الإنسانيّة والشيئيّة والحيوانيّة والفضائيّة. في هذا السياق، يذكّرنا العلماء بأنّ الحياة كلّها أصلُها السحيق ناشبٌ في موادَّ فضائيّة قديمة قدَمَ الكون. لذلك قد يصيب فيلسوف الوحدة الهولنديّ باروخ سبينوزا (1632-1677) حين يعلن أنّ الطبيعة الرحبة هي في أصلها وحدةٌ جدليّةٌ متجانسة، تأتي إلينا في وجهَين اثنَين: الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة. معنى هذا القول أنّنا منضوون في بوتقة كونيّة ضخمة يأتلف فيها، على غير إدراك منّا، جميعُ العناصر، وتتفاعل فيها، في غير مشاركة واجبة لنا، ضروبٌ شتّى من الاحتمالات والإمكانات والقابليّات. من صميم هذا التفاعل قد ينشأ لنا كائنٌ إنسانيٌّ هجينُ البنية سمّته العلومُ المعاصرة إنسان السيبورغ (cyborg)، ينعقد كيانُه على تآلفٍ اصطناعيّ بين لحميّةٍ متوارثة وآليّةٍ مستوردة. وإذا أضفنا إليه الحيوانيّة المشتقّة من اللقاح الكورونيّ، انفطر إنسانُنا السيبورغيّ على ثلاثيّة جسديّة روبوتيّة حيوانيّة نستبدل بها الثلاثيّة الكيانيّة الكلاسّيكيّة التي تصرّ أغلبُ الفلسفات القديمّة والأديان التوحيديّة على صونها، ألا وهي ثلاثيّة الجسد والروح (العقل أو الفكر) والنفس.

فيلسوف الوحدة الهولنديّ باروخ سبينوزا

 

لا غرابة، من ثمّ، أن تستثير هذه الاستفسارات دهشة الناس الذين يُطلب منهم أن يقرّروا دِموقراطيًّا صوابيّة الإقبال على اللقاح. فكيف لنا أن نقرّر دموقراطيًّا إذا افتقر قرارنا إلى المعرفة العلميّة الهادية؟ من يضمن لنا ألّا نتحوّل إلى هذه الثلاثيّة المستقبحة التي تجعلنا نتحسّر على الثلاثيّة الكلاسّيكيّة؟ والمعلوم أنّ الفلسفة المعاصرة لم تعد تستحسن التقسيم الثلاثيّ الكلاسّيكيّ، بل طفقت تحدّد الإنسان كائنًا منخرطًا بكلّيّته في العالم، متّحدًا اتّحادًا وثيقًا في جميع أفعال وعيه وإرادته. أعود فأسأل: هل تستطيع البشريّة أن تهضم اللقاح الحيوانيّ الجينيّ التركيبة؟ لا شكّ في أنّ الجواب عن هذا السؤال هو الذي سيعيّن لنا سبُل التفكّر في مصيرنا القريب والمتوسّط والبعيد.

عالم الأنتروبولوجيا الفرنسيّ إيف كوبِّنز

 

يعتقد عالم الأنتروبولوجيا الفرنسيّ إيف كوبِّنز (Yves Coppens) في كتابه أصول الإنسان: من المادّة إلى الوعي، أنّ هناك تواصلًا غير منقطع بين عالم الحيوان وعالم الإنسان بحيث يبدو ظهور الإنسان الأوّل في أفريقيا منذ حوالى مئة ألف عام أشبه بخليطٍ ظرفيّ ضمَّ في بنيةٍ متطوّرة إسهامات جميع الكائنات القرديّة المنتقلة من وضعيّة الانتصاب الجسديّ إلى حال التفتّح الإدراكيّ البدائيّ. غير أنّ سؤاله الأخطر يتناول التحوّل الحاسم الذي اختبرته الجينات الحيوانيّة، فقفز بها قفزةً بنيويّة جليلة أفضت بهذه الكائنات إلى مزاولة أفعال التذكّر والربط والتخيّل والابتكار في سياق نموّ ملَكات الوعي والإدراك والتفكير.

الفيلسوفة الفرنسيّة إليزابِت دُفونتنِه

 

في هذا السياق عينه، تسأل الفيلسوفة الفرنسيّة إليزابِت دُفونتنِه (Élisabeth de Fontenay) في كتابها صمتُ البهائم: الفلسفة في محنة الحيوانيّة، عن الحدود الحقيقيّة بين الإنسان والحيوان. فتذهب إلى أنّ الإنسان حيوانٌ زيَّن كيانَه بنشاط ذهنيّ صريح. أمّا إذا قارن المرءُ التقدّم الذهنيّ النسبيّ هذا بما يدّعيه الإنسانُ من تفوّقٍ في الإمساك بحركة الكون الأرحب، كان لا بدّ له من الاتّضاع والاكتفاء بإنجازات يسيرة في مسرى الوعي الكونيّ الأشمل. ومن ثمّ، فإنّ مسألة اللقاح الحيوانيّ تعيدنا إلى ضرورة تدبّر الحدود المرسومة بين العالم الحيوانيّ والعالم الإنسانيّ. من عِبَر التاريخ أنّ الإنسان لا يحتاج إلى لقاح حيوانيّ حتّى يعود إلى ولوج عالم الحيوانات. فلَكَم من كائنٍ ينتسب في بنيته البيولوجيّة إلى العالم الحيوانيّ يتصرّف تصرّفَ الرقّة الإنسانيّة، ولَكَم من كائن ينتسب في بنيته البيولوجيّة إلى العالم الإنسانيّ يتصرّف تصرّفَالبهائم الجاهلة!

الباحث في العلوم الجينيّة جان-فرانسوا ماتّيي

 

تضطرّنا هذه المساءلة إلى استجلاء حدود التحوّل الإنسيّ أو الإنسيّة المتحوّلة (transhumanisme) الذي يصيب الإنسان في استضافاته الجسديّة والآليّة والحيوانيّة. في الكتاب الذي وضعه الطبيبُ الفرنسيّ والباحث في العلوم الجينيّة جان-فرانسوا ماتّيي (Jean-François Mattéi)، وعنوانُه مسائل ضميريّة: من العلوم الجينيّة إلى ما بعد الإنسيّة(2017)، يجري الاستفسار الفلسفيّ على هذا النحو: هل يكون مقام الجسد الإنسانيّ جزءًا من الشخص الواعي المستقلّ الحرّ المريد، أم مجرّد هيكل خارجيّ تنتظم فيه أعضاء شتّى يمكن استبدالها أو تطويرها. أمّا الخلفيّة التي ينسلك فيها هذا الاستفسار، فترسم أنّ الإنسان ينبغي له أن يحزم أمره، فيبحث عن فرادة مقامه بحثًا رصينًا مسؤولًا. أفتكون الفرادة في الهندسة الجينيّة الناشبة في صميم بنيته البيولوجيّة؟ أم في طاقة الحرّيّة التي يُفرج عنها الوعيُ حين يدّعي القدرة على تغيير هذه الهندسة تغييرًا يربطها بأعضاء وأنسجة وتراكيب تُفضي بالهيئة الإنسانيّة المألوفة إلى تبدّلات جسيمة تجعل الإنسان يعطّل إنسانيّته، فيذهب بها مذاهب لا يقوى العقلُ على تصوّرها الآن؟

الفيلسوف الفرنسيّ ميشِل هنري

 

أختم بالعودة إلى ضرورة الأنسنة الحضاريّة الشاملة. إنّ ما يعنيني اليوم،بمعزل عن طبيعة اللقاحات المبتكرة، هو أن يظلّ الإنسانُ إنسانًا بحسب المعنى الكلاسّيكيّ الناشب في عمق الوعي الكونيّ. فالإنسان إنسانٌ بالرفق والودّ والعاطفة والاعتناء؛ وإنسانٌ بالانفتاح والتلاقي والتحاور والتقابس؛ وإنسانٌ بالتآخي والتعاون والتضامن والتكافل؛ وإنسانٌ بالوعي والتعقّل والحكمة والمسؤوليّة؛ وإنسانٌ بالحرّيّة والمبادرة والابتكار الخلّاق. هل تصبح الفيروسات الكورونيّة إذًابنيةً لصيقةً بالوجود الإنسانيّ؟ هل تخرج الإنسانيّة في يومٍ من الأيّام من نفق الجرثومات الآتية إلينا من عالم الحيوان الذي اقتحمناه حين اقتحمنا المحميّات الطبيعيّة المباركة؟ هل يستطيع الإنسان أن يتكيّف تكيّفًا مطلقًا مع الغرابة الشيئيّة والحيوانيّة والفضائيّة؟ لستُ أعلم، صدّقوني. سؤالي يظلّ هو إيّاه: هل يستطيع الإنسان أن يضع الحدود العقليّة في المعالجات الطبّيّة التي تستدخل عناصرَ غير إنسانيّة إلى بنيته الجينيّة؟

اعتقادي الراسخ أنّ الهيئة الخارجيّة والقدرات والطاقات والإمكانات قد تتغيّر في الإنسان. ولكنّ الأمل معقودٌ على أن يظلّ الإنسانُ على إنسانيّته هذه. ليست الأنْسَنة بالإعراض هذا اللقاح أو ذاك، ولو أنّ التفطّن واجبٌ في المسرى العلميّ الشائك هذا، بل الأنْسَنة أن يكفّ الإنسانُ عن التصرّف الحيوانيّ البهيميّ. قد يكون الآتي على الإنسان من أعظم المخاطر الكيانيّة. وقد تجرّ الإنسانيّة على نفسها ويلات الاختناق والانقراض. وحدها الحكمة المستنيرة تستطيع أن تُسعفنا في انتهاج سبيل الرفق بالإنسان، وبالطبيعة، وبالبيئة، وبالحيوان، وبالفضاء الأقرب.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *