في فلسفة البيت والسعادة

Views: 340

د. رفيف رضا صيداوي*

إيمانويل كوكسيا Emanuele Coccia فيلسوفٌ من أصولٍ إيطاليّة، مُختصّ في الفلسفة القروسطيّة، اشتهر بأعماله التي تتناول قضايا وموضوعاتٍ مبتكَرة، منها: “الحياة الحسّاسة” – 2010 (La Vie sensible)، و”حياة النبات” – 2016 (La Vie des plantes)، “تحوّلات” – 2020 (Métamorphoses)، وآخرها “فلسفة البيت. الحيّز المنزلي والسعادة” – 2022 (Philosophie de la maison. L’espace domestique et le bonheur). في ما يلي ترجمة فقرات من كتابه الأخير حول البيت وأهمّيته وفلسفته.

“الحياة التي تُحاول أن تتطابقَ مع الفضاء المديني أو الحضري، وأن تسكنَه وتُقيمَ فيه، يكون الموتُ هو قَدَرها: ساكن المدينة الحقيقي والمُطَلق هو الشخص الذي يكون من غير مأوىً، المُتشرّد، الحياة الهامشيّة وغير المحصَّنة، والتي هي بالتعريف مشرَّعة على الموت.

وإنّه لمِن المألوف أنّه بواسطة البيت، وبواسطته دائماً وأبداً، يُمكننا أن نكون في المدينة: سواء تعلّق الأمر بباريس أم ببرلين، بطوكيو أم بنيويورك، استطعتُ أن أسكنَ المُدن التي عشتُ فيها دوماً بفضل غرف النوم والمطابخ، والكراسي والمكاتب، والخزائن، وأحواض الاستحمام ومُرسلات الأشعّة.

الأمر لا يتعلّق بمشكلة مكانيّة. أن تسكنَ لا يعني أن تكون مُحاطاً بأشياء، ولا أن تكون لك حصّةٌ من الفضاء الأرضيّ لتشغله؛ فالأمر يعني نسْجَ علاقةٍ قويّة ومكثّفة مع بعض الأشياء ومع بعض الأشخاص إلى حدّ جعْلِ سعادتنا وأنفاسنا غير مُنفصلَتَيْن. البيت هو قوّةٌ تُغيِّر نمطَ وجودِنا وكلَّ ما يدور في دائرته الساحرة والغامضة. للهندسة أو للبيولوجيا شأنٌ قليلٌ في هذا السياق؛ وبكلّ تأكيد، فإنّنا حين نبني بيوتاً لا يكون ذلك من أجل حماية أنفسنا من سوء الأحوال الجويّة، ولا من أجل أن نُوفِّقَ بين الحيّز المكاني والنّظام الخاصّ بالجينيالوجيا أو ذوقنا الجمالي. كلّ بيت هو واقعٌ أخلاقيٌّ بحت: نبني البيوت لاستقبال، وبشكلٍ حميميٍّ، جزءٍ من العالَم – مؤلَّف من أشياء، وأشخاص، وحيوانات، ونباتات، ومناخات، وأحداث، وصُوَرٍ وذكريات – يجعل سعادتنا نفسَها مُمُكنة.

 

من ناحيةٍ ثانية، فإنّ هذا الوجود نفسه، لمُمارَسةٍ تقضي ببناء بيوت، يجعل من البديهي ألّا تُختزل مسألة الأخلاق – نظريّة السعادة – في مجموعة تعاليم ومبادئ متعلّقة بمواقفنا السيكولوجيّة، أو في قواعد ضبط المشاعر الطيّبة، وفي الانتباه، أكثر من أن تكون شكلاً من أشكال النظافة النفسيّة.

هذه المُمارسة ما هي إلّا نظامٌ مادّي يتضمّن أشياءً وشخصيّات، واقتصاداً يمزج الأشياء، والتأثيرات، ويمزجنا نحن والآخرين ضمن الحدّ الأدنى من الوحدة المكانيّة لما نسمّيه الرعاية، بأوسع معانيها – البيت. السعادة ليست شعوراً، ولا تجربة ذاتيّة خالصة. إنّها الانسجام الاعتباطي والسريع الزوال الذي يُمسِكُ بالأشياء والناس لفترةٍ من الوقت، في علاقةٍ فيزيقيّة وروحيّة حميمة.

لكنْ، وعلى الرّغم من ذلك، كانت الفلسفة على الدوام تُعير أهميّة قليلة للبيت. ولمّا كانت مسلوبةً بحُلمٍ، مُقترن منذ قرون بالهويّة الذكوريّة، ومُتمثِّل بالتألُّق في المُجتمع، وبأن يكون لها السلطة والتأثير في المدينة، نسيت الفلسفةُ المجالَ المنزليّ على الرّغم من الروابط التي تربطها به أكثر من ارتباطها بأيّ مدينةٍ في العالَم.

هكذا، وبعد الأطروحات اليونانيّة الرئيسة الأولى حول الاقتصاد (L’oikonomia)، النّظام وحُكم البيت، الذي لم يكُن لتأثيره مثيلٌ، طَرحتِ الفلسفةُ المجالَ المنزلي من أُفقِ اهتماماتها. وهذا الإهمال بعيدٌ من أن يكون بريئاً: فبسببه، أصبح المنزلُ مكاناً اختبأت فيه الأضرار، والظلامات، واللّاعدالة واللّامساواة، وغَدَت منسيَّة، وأصبح يُعاد إنتاجُها بطريقةٍ لاشعوريّة وميكانيكيّة على مدى قرونٍ من الزمن. وإنّه لفي داخل المنزل ومن خلاله مثلاً، كانت اللّامساواة بين االجنسَيْن تُنتَج وتُثبَّت وتُبَرَّر. فمن خلال البيت الحديث – كمكانٍ لا يُمكن إلّا في بعض الحالات الاستثنائيّة القليلة أن يُقيمَ فيه غيرُ البشر – تأسَّس وتدعَّم التعارُضُ المُطلق بين البشري وغير البشري، بين المدينة والغابة، بين “المُتحضِّر” والمتوحِّش.

 

نسيان البيت كان وسيلةَ الفلسفة لكي تنسى نفسها هي. هذا الديكور المَخفيّ، كان في الواقع الحاضنَ لقسمٍ كبيرٍ من الأفكار التي غذَّت الكوكب وتاريخه. ففي هذا الفضاء ذي الهندسة المتغيّرة، غير المُماثِل لنفسه حتّى في قلبِ مدينةٍ بعَينها، يصير الجسدُ كلمةً.

خدعة ساحرة للفلسفة

يتعلّق أمرُ نسيان البيت، بالنسبة إلى الفلسفة، بجعْل نفسها غير سعيدة، وبجعْل السعادة مسألة غير مفكَّر فيها، وذلك بإخضاعها للمدينة والسياسة. بإخضاع المنزل لسُلط الأنساب والملكيّة، أَجبرته الفلسفةُ على الانكماش إلى حدّ اندماجه مع الجسم التشريحي، وعلى أن يُبعِدَ خارج أسواره، في المدينة، كلَّ ما يتعلّق بالسعادة. وإذا كانت السعادةُ قد أصبحت عرضَ ظلال، فذلك لأنّها بانقطاعها عن البُعد المنزلي تحديداً – حيث لم يعُد هناك من مكانٍ لها – ادّعت أنّها أصبحت فعلاً سياسيّاً، وواقعاً مدينيّاً خالصاً. وبخلاف ذلك، فإنّ المدينة الحديثة ليست سوى ابتكار غير عاديّ لمجموعة مُتبايِنة من الأمكنة، والتقنيّات، والأجهزة القائمة على أساس التعارُض مع النظام المنزلي بهدف إنتاج الحريّة والسعادة اللّتَين لم يعُد بالإمكان توليدهما في الحيّز المنزلي. ففي المدينة، ومن خلال العمل والاستهلاك والتنوير والثقافة أو الترفيه البسيط، أصبح في وسعنا تجاوُز الحالة الغريبة من الإهمال المُتجنِّس أو غير المفكَّر به، حيث الأشياء لا تتغيّر بسبب أنّ نظاماً “بيولوجيّاً” مُفترَضاً أو ضرورةً لا يُمكن التهوين من شأنها، قد أمليا ذلك. على مدى قرونٍ خَلت، العالَم الذي كان يُمكن أن نكون فيه على قَدم المساواة مع الآخرين – أقلّه على الورق – كان بالكاد قد بدأ عندما أغلقنا خلفنا باب المنزل. مدارس، صالات سينما، مسارح، مطاعم، بارات، متاحف، ملاهٍ ليليّة، تجارة، حدائق عامّة، طرقات، وحتّى برلمانات أيضاً، كنائس، معابد يهوديّة (كِنيس)، جوامع: كان العالَم يخوض غمار تجاربه فعليّاً خارج المنزل؛ وإنّه لخارج المنزل بات العالَم مسكوناً بوجوهٍ وأشياءٍ وأفكارٍ مكثّفة جدّاً وأكبر من أن تستوعبها المساحة المُغلَقة للغُرف والمطابخ.

 

من أفلاطون إلى هوبز، ومن روسّو إلى رولز، كانت المدينة الحديثة خدعةً ساحرة للفلسفة: كانت خطأً فلسفيّاً بصريّاً، حُلماً في الهواء الطلق مصنوعاً من حريّة ومن أوهامٍ جماعيّة تمثَّلت وظيفتها الأساسيّة في جعْلِ البيت نسياً مَنسيّاً، واختزاله قدر الإمكان إلى مجرّد سقيفة تُخزَّن الأشياءُ فيها لكي يتسنّى لاحقاً نسيانها من دون شعورٍ بالذنب.

لم تكُن الفلسفة وحدها هي التي تقوم بهذه المهمّة؛ فلطالما كان البيتُ موضوعَ إهمالٍ نظريّ؛ كما لو أنّه تحوَّل بإرادته الذاتيّة إلى آلةٍ غريبة يترتّب عليها استقبال كلّ ما لا يُمكن الكلام عليه علانيّةً، وما نكون بحاجة إلى نسيانه. لقرونٍ خلت، كان البيت “بقايا”: إنّه ما تبقّى بعد انتهاء العرض، مجموعة الأشياء كلّها التي لم ننجح في تقاسمها مع الآخرين.

بخلاف المُدن، فإنّ البيوت التي تؤلِّف جسدَها هي أمكنةٌ من النادر أن نتقاسمَ تاريخها في العَلن: باستثناء حالاتٍ نادرة، من المستحيل أن تكون لدينا فكرةٌ واضحة عن الذي أقام في هذه المساحة أو تلك، وحول الطريقة التي تمّ تأثيث البيوت من خلالها على مدى العقود، أو حول أيّ أحداثٍ كانت هذه البيوت مسرحاً لها. وحتّى هنا، حيث تتواجد الذاكرة، فإنّه لم يتمّ تشاركها، كما هو الحال مع ذاكرة المدينة”.

***

*مؤسّسة الفكر العربي

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *