قلب بريء على درج الحنين في كتاب “نجمة الصبح” للودي جورج الحداد

Views: 20

يوسف طراد

  لم تكتب لودي الحداد مديحاً بالمميّزات الطّبيعيّة والتّاريخيّة لبلدتها “المحيدثة”، ولا شعرًا يتغنّى بجبالها وسهولها، إنّما قد أعطت صورة صادقة وحيّةً عنها، أرضًا وأناساً تراؤا لها في وجدان ماضيها وحاضرها.

فها إنّك تقرأ في كتاب “نجمة الصبح” الصّادر ضمن منشورات دار الفارابي، أدبًا بقلم أديبةٍ، أخرجت من الخيال والذّاكرة صوراً لشخصيّاتٍ، قد رفعتها إلى درجةٍ كبيرة من القدر، الذي لم يُعطَ لهم من أحدٍ من قبل.

  لم تكن لودي الحدّاد أوّل من أعلن عشقه لقريته، لكنّها كانت من الأوائل اللواتي أشعلن الجماد، فلقد نضحت نصوصها بالنوستالجيا المشوّقة، بحيث كانت ولم تزل تمثّله قريتها من إرثٍ وجوهرٍ للحياة، وقد أثبتت حضورها الدائم خلال السّرد بعفويّةٍ صادقة، وكان حبرها من نبض قلبٍ يحنّ إلى الأمس المفعم بالخير والبركة، ذلك الماضي الغابر الذي نفتقدُ إلى زمنه الآن.

  كتابها احتوى قرناً من الصّفحات، تضمّنتها إحدى وعشرون صورةٍ لأماكن ومنازل ومعابد، لكنّ الكاتبة استطاعت أن تدوّن في مئة صفحةٍ فقط كلّ لهفات حنينها، وجعلت في غمق بوحها رغبتها الدّفينة بالعودة إلى ماضٍ جميلٍ قد عبر، وبات في مواقد النّسيان.

قد تماهى الوصف الجميل للنّصوص مع أروع الألحان، التي تحملُ القارئ على أجنحتها وتحلّق به بعيدًا، محرِّكةً على مسامعه حنينًا كادت مطحنة العصر أن تطحنه.

  هل تعلّمت الكاتبة من مدارس الحياة، أن تبحث عن الحبّ في القلوب الطيبة، وعن الملامح الدّفينة المخبّأة تحت أفياء الحجر ؟

فقد تركت فسحةً جميلةً للفرح والنّور، رغم الحزن العميق، ورغم رماد العمر الهارب!

كانت في كتابها كالحكايات القديمة على موعدٍ مع نجمةٍ بعيدة، حين قالت: “لا أدري إن كنّا نحن من يسير في أغوار الحياة ويتعفّر في ترابها، أم هي الّتي تتغلغل في أعمارنا وتتوغّل في شرايين وجداننا”. (صفحة 15)

  يكتسي جبل حرمون بياض قلبها النّقي، والثّلج النّاصع يبدو كأنّه الحارس الأبديّ لقريتها فوق شرفات الدّهور. هنا من على شرفة منزلها في “نجمة الصّبح” نقشت لودي  الحدّاد حكايات متتالية مضمّخةٌ بحنان الأهل، وشقاوة الطّفولة التي ترويها الدروب، ويشهد لها بذلك جلال ذلك الجبل المطلّ على قريتها، حين قالت: “يأخذني إلى وجه أمّي وحضن أبي، إلى جذوري وأزقّة طفولتي، إلى حيث تركت بعضي يلهو حينًا على سحابةٍ، ويغفو حينًا آخر في أعماق نجمةٍ استراحت على كتف جبل اتّكأ منذ آلاف السّنين على صدر أمّه السّماء” (صفحة 17).

تضف قريتها بأنّها تغسل حواسها كلّ صباحٍ بشموس السّنابل، كإمرأة تراقص الفجر بنشوة الحياة، فتسكن بين أضلع أهلها نبؤةُ الفرح: “ترعرعت قريتي في كنف صباحٍ كلّما انجلى، تهادت خيوط شمسه إلى وجه محبوبته، فأشرقت ملامحها، وراحت تنشد تراتيل الأمل…” (صفحة 19).

  لقد قارب كريم الكوسا في روايته “الشيفرة الفينيقية أسرار الكأس المقدّسة” طقوس الذبيحة الفينيقية القديمة التي اعتمدت الخبز والخمر، والتي كانت تجري على قمّة جبل حرمون، بإفخارستيا الكنائس المسيحيّة في يومنا هذا، فهل كانت تلك التّراتيل القديمة تتهادى مع النّسمات إلى منازل تلوّح للشموس والنجوم في الأمد القريب والبعيد؟

تقول الكاتبة: “أمّا أمامك فجبل حرمون المكلّل دائمَا بتاج أبيض من الثلوج، يرسل مع كلّ نسمةٍ قبلاتٍ تبرّد جبين النهار، وفي المساء  تدغدغ وشوشات السّمر” (صفحة 21).

  على درج الحنين يفترش “البيت الكبير” ذكرى الأهل التّي تفوح في الأرجاء، والأيام تتوالى وتمنح “نجمة الصبح” بهاء ألوانٍ استعارتها من الفصول. وها هي ترسم صُوَراً جميلة عن “أيام الحصاد” وعن سواعد الفلّاحين المباركين بكنيسة القرية، من يد كاهنٍ جليلٍ يوزّع البركة بمياهٍ مقدّسةٍ على الأبواب التي لم تُقفل يوماً بوجه ضيفٍ قريب أو بعيد.

وجدت الكاتبة في خيالها لمحاتٍ غابرةً من أيّام الدّراسة الابتدائيّة  لتلك الفتاة التّي كانت قد ازدانت أيامها ببراءة الأقحوان، وانعتق الفكر في ردهات التأمّل الأصمّ كالجدران، ونطق “الأخرس” واستفاق الحلم في أحضان الغمام، مذكرًا الإنسان أنّ في الحياة سرّ السّماء، فعن الأخرس كتبت في الصفحة 78 : ” ربّما باح لأفياء الجدران بسرائره، فكتم الحجر… ومحا المطر…”.

  كمدى صواب النهر في ارتحاله الأعمى إلى البحر، قد يملأ “الضّرير” أحياناً وجه البشرية بضياء الأمل، فتراه قد ذهب بعيدًا في طرقات المستحيل، تقول الكاتبة: “كان يدرك ببصيرته بواطن الأسرار الّتي تغلّف الأديم، ويعي مناهل الجواهر التي ترصّع السّديم” (صفحة 81)

  عندما تُكتب النوستالجيا، تحضر إشكاليّة حوار بين الأمس والغد عند الحالمين من الكتّاب والشعراء، فيذهب بعضهم إلى المستقبل، لكنّ خياله يسعى دائمًا إلى إعادة تركيب صُوَر الماضي. أمّا لودي الحداد فقد اتعبها زمنها، لذلك استفاضت في الكلام عن ماضيها في قريتها الهانئة “المحيدثة”، وقد ختمت كتابها النّثري بقصيدةٍ بعنوان” اكسير العمر الرّهيف، فكان بوحها باسم كلّ من تغرّب عن القرية وأذبله الشّوق والحنين، وهي ليست بحاجة إلى وكالة بوح، لأن طفولتها السّاكنة فيها منحتها هذه الثقة، بقلبها الصّادق والبريء،

  نقول شكرًا للودي الحداد التي غمرت البقاع بأنوار أحرف أدبها، ووزّعتها ذيولاً من ضياء على مدى صفحات كتاب “نجمة الصّبح”.

ففي كلّ صفحةٍ، أعراسٌ من الماضي، تشعل لهفات وحنين كلّ قارئ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *