مفهوم “الجماهير” في اللّغة الأيديولوجيّة العربيّة المُعاصرة

Views: 73

د.كرم الحلو*

مفهوم “النُّخبة” من أكثر المفاهيم شيوعاً في الفكر العربيّ المُعاصِر، لكنّه كذلك من أكثرها غموضاً والتباساً، إنْ لجهة معناه ومدلولاته أو لجهة الفئة أو الفئات التي يُمثِّلها. فهل النُّخبة هي تلك المُسيطِرة على القرار السياسيّ أو هي المالِكة لمَصادر الثروة أو هي تلك التي تكرّست بفعل العرف والسَّلف والتاريخ؟ هل النُّخبة حقٌّ أُعطي بجدارةٍ لفئةٍ من المُجتمع ارتقت بعطائها ومميّزاتها الفريدة أو أنّها اغتَصبت مَكانتها بحيلٍ وأساليبَ مُختلفة ليس أقلّها التسلُّط والقوّة والخداع والديماغوجيّة؟ هل النُّخبة هي الحُكّام أو الأحزاب أو المثقّفون أو الزعامات التقليديّة القبليّة والعشائريّة والطائفيّة والمذهبيّة؟

لو نَظَرْنا في الفكر الأيديولوجي العربي المُعاصر لرأينا أنّ ثمّة أزمة عميقة بين المُجتمع والنُّخبة بكلّ أشكالها ومدلولاتها، مُمتدَّة من التراث إلى الآن مروراً بالحقبة النهضويّة ثمّ اللّيبراليّة بمُختلف ألوانها وتوجّهاتها، الاشتراكيّة والقوميّة والديمقراطيّة. فليس من العسير أو الصعب مُلاحَظة مظاهر الفصام والقطيعة أو العداء والكراهيّة بين النُّخب والجماهير، حيث يسود الحَذَر والشكّ والخَوف والخداع والديماغوجيّة والشعارات الكاذبة والمُضلِّلة. لكأنّ اللّغة الأيديولوجيّة الحديثة امتدادٌ للغةِ التراث حيث عومِلَ العوامّ باحتقارٍ على الرّغم من الإقرار بأهمّيتهم للعمران والمُدافَعة. فالجاحظ أقرَّ بحاجة السلطة إلى العوامّ ولكنّه مع ذلك ازدرى بهم ودعا إلى إبعادهم عن السياسة، ناصحاً أولياء الأمر بقوله: “قارِبوا هذه السفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أنّ الغلبة لمَن كانت معه، وأنّ المقهور مَن صارت عليه”. وأبو حيّان التوحيدي يَنعت العامّة بـ “الهَمَج والرّعاع الذين إن قلتَ لا عقل لهم كنتَ صادقاً، وإن قلتَ لهم أشياء شبيهة بالعقول كنتَ صادقاً، إلّا أنّهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها… فإنّهم يُخرجون الغريق ويُطفئون الحريق ويؤنسون الطريق”. أمّا النهضوي عبد الرّحمن الكواكبي فقد رأى من المنظور التراثيّ ذاته أنّ “العوامّ هُم قوّة المُستبِدّ وقوتُه، بهم عليهم يَصول ويَطول”؛ لكنّهم مع ذلك “يذبحون أنفسهم بسبب الخوف الناشىء عن الجهل والغباوة”.

في ظلّ هذا الإشكال التاريخي يُمكن اعتبار العلاقة بين السلطة والشعب في العالَم العربي صورة نموذجيّة لأزمة العلاقة بين النُّخبة والمُجتمع. فالدولة التسلّطيّة العربيّة تَنظر دائماً إلى الناس كمَصدر قلق وخطر وتهديد لسلطتها وبقائها في الحُكم، فتُحيط نفسَها بالمُخابرات والأجهزة والقوى الخاصّة. تتجسَّس على كلّ تحرُّك قد يتجاوز حدود رقابتها، وتُحاوِل التخلُّص من كلّ رأي أو اعتراض لا يُثني على “إنجازاتها” و”مآثرها” العظيمة، وتَرى في أيّ تقدّم قد يحرزه المُجتمع المدني تراجُعاً لجبروتها وسلطانها، فتعمد إلى تضييق عمل النقابات والمؤسّسات وتُحاوِل الإمساك بقياداتها من خلال تدخُّلها في انتخاباتها والضغط على إرادتها وقرارها.

تَنظر الدولةُ التسلّطيّة إلى المُجتمع على أنّه قاصرٌ ومُحتاجٌ على الدوام إلى وصايتها وإرشاداتها وتوجيهاتها، وعليه أن يقبل خُططها ومشروعاتها وبَرامجها بلا مُناقَشة أو تساؤل، وإذا دُعي إلى انتخابٍ أو استفتاءٍ فيَجب أن يختارَ ما توحي به عبر أجهزتها وإعلامها “المسؤول والموجَّه”.

على المُجتمع أن يُحارِب إذا أَعلنت السلطةُ الحربَ، حتّى ولو كان ذلك جنوناً أو انتحاراً، وعليه أن يقبل نتائج هذه الحرب وأن يتحمّل أوزارها وشرورها راضياً مسروراً باعتبار ذلك “واجباً وطنيّاً” و”تضحية قوميّة”. كما عليه أن يُهلِّل للسلام الذي تختاره السلطة حتّى ولو كان ذلك تنكُّراً للمُسلّمات الوطنيّة والقوميّة، فليس مَسموحاً له أن يرفض أو يُبدي رأياً أو يُناقش. عليه إذاً أن يكون الضحيّة دائماً، في الحرب أو في السِّلم.

في المُقابل، ينظر المُجتمع عموماً إلى السلطة على أنّها مفروضة عليه فَرضاً، كقَدَرٍ خارجٍ عن إرادته، ينتظر ساعة الخلاص من طغيانها. وكثيراً ما راقب الجمهور أزمات السلطة وعثراتها بالحقد والسخرية والشماتة، كأنّما ثمّة حرب خفيّة وغير مُعلَنة بَينه وبينها. ليس أدلّ على ذلك من الأمثال الشعبيّة الساخرة التي تنطلق وتشيع في أزمات السلطة التاريخيّة. وتُشبه علاقة الأحزاب بالمُجتمع علاقة الدولة به. فالأحزاب العربيّة عموماً لم تكوِّن حالةً شعبيّة وجماهيريّة بل ظلّت قِلاعاً مُغلَقة على هموم الناس ومَخاوفهم وآمالهم أو جيوباً على هامش المُجتمع لا تصغي له ولا يصغي لها. لقد اعتبرَت نفسَها عقلَ المُجتمع وقلبه وروحه، وطليعته الفكريّة والعقائديّة والقوميّة، ونَظرت إليه على أنّه كتلة بشريّة عمياء مُستعدّة للسَير في الاتّجاه الذي ترسمه لها. فكان أن تحوَّلت الأحزابُ العربيّة إلى واعظٍ أيديولوجي مرفوض يمطر المجتمع بالأيديولوجيا والشعارات، كأنّما الأمّة “حقل تجارب” أيديولوجيّة أبطالها واقعيّون يدفعون الثمن من حياتهم. وطالما ضلَّلت الأحزابُ الجماهيرَ بوعودها وشعاراتها اللّامُجدية، وكانت النتيجة هذا الفصام المُخيف وهذه الغربة القاتلة بينها وبين الناس.

في ظلّ هذا الواقع المأزوم، غَدت العلاقةُ بين الأحزاب والمُجتمع محكومةً بالشكّ والحَذَرِ والريبة، وبدا وكأنّ بينهما هوّة لا يُمكن ردْمُها بالتنظير والديماغوجيا. هوّة لا يُمكن ملؤها بأطروحات “الطليعة المُلهِمة” و”الوعي الريادي التاريخي”. ولا تقتصر الأزمة على العلاقة بين الأحزاب والمُجتمع بل إنّ ثمّة أزمة كذلك بين قيادات الأحزاب وقواعدها.

أمّا علاقة “النُّخبة المثقّفة” بالمُجتمع، فليست أقلّ تأزُّماً، إذ طغى عليها بالإجمال إحساسُ التفوُّق والاستعلاء، ونَظرتْ إلى المُجتمع على أنّه “حالة دونيّة” يجب الارتقاء بها بالإرشاد والتوجيه، لتُفاجأ برفضِ المُجتمع وسلبيّته، فآثرت الابتعادَ والتقوقُع في أبراجها العاجيّة، حتّى بات التساؤل الذي يَطرحه البعض حول دَور المثقّف وجدوى الثقافة مُبرَّراً ومشروعاً. أليست الأصوليّة في استشرائها العتيد دلالة مأسويّة على هزيمة المثقّف العربي وانكفائه؟ أليس استمرار التدهور الحضاري العربي النتيجة الحتميّة لحالةِ الصَّمَمِ شبه الكامل بين النُّخبة المُثقَّفة والجماهير؟

إلى جانب هذه الأزمات التي تُهدِّد الأُمّة بالانشطار، بلغة محمّد عابد الجابري، ثمّة أزمة عميقة سواء في علاقة النُّخبة الثريّة بالمُجتمع وأكثريّته الفقيرة أم في علاقة الزعامات التقليديّة بالأجيال الصاعدة من الشباب والمتعلّمين الباحثين عن دَورٍ في الساحة السياسيّة والاجتماعيّة.

إزاء هذا المأزق الحضاري ندعو إلى إعادةِ نَظَرٍ شاملة في سلوك النُّخب وآليّات تفكيرها وطريقة تعاملها مع المُجتمع. فمِن الضروري أوّلاً: إلغاء اطروحات “الطليعة” و”الريادة” و”القيادة”، والنّظر تالياً إلى المُجتمع، لا على أنّه قاصر وحقل اختبار، بل كأساس لكلّ تقدُّم ونهوض. فقد أَثبتَ التاريخ العربي أنّه كثيراً ما كان وعي النّخبة متخلّفاً عن وعي المُجتمع، وأنّ الجماهير التي طالما وُصفت بالتخلُّف، كانت هي الأسبق والأقوى في مُواجَهة التحدّيات والمِحن؛ وثانياً: إدماج النّخبة عضويّاً في المُجتمع وإزالة بواعث الشكّ والحَذَر والعدائيّة بينها وبينه، من خلال اعتراف الدولة بأولويّة المُجتمع واستشراف حاجاته وتطلُّعاته؛ وثالثاً: النَّظر إلى المُجتمع على أنّه الغاية في حدّ ذاته وليس وسيلة لتحقيق أهداف النُّخبة وتصوُّراتها ومشروعاتها. ما يجعل الديمقراطيّة القاعدة التي يجب أن تُبنى عليها العلاقة بين النُّخبة والمُجتمع؛ ورابعاً: العمل على تخفيف الفروق الاجتماعيّة والطبقيّة واستخدام الثروات العربيّة في إنماء العالَم العربي؛ وخامساً: الكفّ عن الديماغوجيّة والتبشير الأيديولوجي على حساب الواقع والتاريخ والحقيقة.

هذه أفكارٌ قد تؤسِّس لمُجتمعٍ عربيّ أكثر اندماجاً وأقلّ عنفاً وتناحُراً، ما يَجعل التطلُّع إلى وحدة العرب أمراً واقعيّاً ومعقولاً.

***

*كاتب من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *