“مقتل شاعر”… من جرير في رثاء الفرزدق إلى ميشال ديل كاستييو

Views: 162

أنطوان يزبك

 

قيمة الشعر والشعراء في  محطات زمنية …

 

يقول أبو نواس : إذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها فالمقلّد ناسج كفنها وحافر قبرها!

إن أخطر وأسوأ عصر تصل إليه الإنسانية في الانحطاط  ودرك التشويه العدمي،في ميادين الشعر والأدب،  هو ذلك الذي ينتحل فيه كل من خطر بباله ، صفة شاعر، ويتسلّح باللقب وكأنه وريثه الشرعي ، وينبري يدافع عنه كما لو كان قلعة عسكرية أو عرضًا أو شرفًا أو وطنًا، علمًا ان لا القلعة قلعته ولا العرض عرضه ولا الشرف شرفه ولا الوطن وطنه !!

وليعلم القوم أن انتحال الصفة في عالم الأدب جريمة موصوفة، خطرة بخطورة خيانة الوطن والعمل على دماره. فمن يسعى إلى تدمير الفكر والأدب والشعر بانتحاله لصفته واستحلاله خدمة  لمجده الشخصي  هو خائن غفلة ، ومجرم عنوة ومرتكب في عزّ صحوة!

وعليه ؛ لمن لا يعرف ما هو الشعر أقول:

الشعر ليس قلعة أو عرضًا أو شرفًا أو وطنًا فحسب ؛ لا بل إنّه كلّ هذه الصفات وأكثر ، إنّه المقدّس في زمن المدنّس ، وقد أثبت قداسته عندما بدأ الإنسان الأول يكتشف وجود الله وأخذ يصلي ويبتهل له شعرًا ومن ثمّ نزلت الكتب السماويّة .. لذلك لا يحتاج الشعر إلى شهادة من أحد أو تبرير ولا تفسير أو دفاع، فقط يحتاج الشاعر إلى الصدق والاخلاق العالية السامية ليستحق موهبته! وليتذكر ما قاله اميل سيوران: “ما من طريق أقصر إلى الفشل في الحياة ، من دون أن تقتحم الشعر من دون الموهبة” .

في الماضي، كان الشعراء نبلاء في أممهم ، وحكماء في أوطانهم وبين أهلهم ! والأهم  كانوا شرفاء عظماء أباة أصحاب نبل ومروءة ووفاء. تعالوا نقرأ ما قاله جرير في رثاء الفرزدق:

لعمري لقد أشجى تميما وهدّها

على نكبات الدهر  موت الفرزدق

عشيّة راحوا للفراق بنعشه

إلى جدث في هوّة الأرض معمّق

لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي

إلى كلّ نجم في السماء محلّق

أجل نعت جرير الفرزدق بالنجم المحلق في السماء بعدما هدّ قبيلته تميم هدّا ؛ ليتابع ويقول :

عماد تميم كلها ولسانها

وناطقها البذاخ في كل منطق

أجل هذه هي قيمة الشاعر الحقيقية تبكيه البلد عن بكرة ابيها، فلا تبخسوها حقها وحذاري ان تسيئوا إليها ، ومن لم يجد بين شعراء اليوم ، في شخصه صفاتها فلينسحب لأن هذا أشرف من التعدّي والاستحواذ على ما لا حق لنا فيه ولا مكسبًا.

في رواية Mort  d un poète مقتل شاعر للكاتب ميشال ديل كاستييو ، ينقل لنا الكاتب يوميات دولة تعيش في ظل حكم ديكتاتوري توتاليتاري جائر مقيت ، يكفي ان يموت شاعر فيها مقتولا ،  حتى تتحرك الدولة وتفتح الأبواب على مصراعيها وتبدأ التساؤلات وإعادة النظر في كل القضايا الساخنة التي يغلي المجتمع جرّاها ويختصم.

ويقول الكاتب في تصوره إن الشاعر هو في الحقيقة سليل ملك من الملوك وربة من ربّات الآلهة. ولا شيء يحرك الناس بقدر المساس بشاعر.

خلاصة الكلام صار لزامًا أن نحترس في مسألة الشعر والشاعر ، وننتبه حيث يجب ولا يجب أن نطلق صفة شاعر أو من وما يستحق أن يكون شاعرا أو قصيدة ، ونستعيد ما قاله محمود درويش :

أمشي بين أبيات هوميروس والمتنبي وشكسبير ، أمشي واتعثر كنادل متدرب في حفلة ملكية! ..

التواضع ونكران الذات هما بالفعل من صفات الشاعر الحقيقي ، أما الذي ينشد التبجيل والعظمة فهو  ليس شاعرًا ولا أديبًا ولا  حتى إنسانًا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *