فيروز، بعد المدرسة الرحبانية وقبل زياد… في رحلة إلى المجهول
المحامي معوض رياض الحجل
نُشر الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث عن الأخوين رحباني وعن أعمالهم المسرحية الغنائية الخالدة بالتعاون مع العديد من الفنانين الكبار وعلى رأسهم السيدة فيروز، ولكن لم تُكتب مقالات عديدة تتحدث عن تلك المرحلة المُسماة “المجهولة”، أي بعد عام 1979 عندما أنفصلت فيروز عن العائلة الرحبانية لحين تعاونها بشكل كامل مع ابنها الموسيقار زياد الرحباني.
خرجت فيروز حينها من دولة فنية رحبانية لتدخل في دولة فنية رحبانية ثانية، “الدولة الرحبانية الفنية”، التي أنفصلت عنها منذ ما يزيد عن ثلاثة وأربعين عاماً، بناها زوجها الراحل الكبير عاصي وشقيقهُ الراحل الكبير منصور رحباني. والدولة الرحبانية الثانية التي دخلت اليها فنياً أسسها أبنها الموسيقار الكبير زياد الرحباني.
الخط الفني بين الطرفين مُختلف تماماً وإن كان “رحباني” الاسم. حتى وإن كان زياد أبن عاصي أحد مؤسسي المدرسة الرحبانية الفنية المعروفة باسم “الاخوين رحباني”. فمدرسة “الأخوين رحباني” لها مُميزاتها ومعالمها والوانها الخاصة، بحيث لم ينضم اليها، قبل زياد، الأخ الرحباني الثالث الراحل الكبير الياس الرحباني. فالياس الرحباني شَقَ خطاً فنياً خاصاً بهِ، وحلقَ عالمياً على صعيد الالحان التي تُستساغ في الشرق، وخاصة في الغرب، إذ تحدى نفسهُ وفجّرَ قدراته الأبداعية وخَاضَ بنجاح مُباريات فنية عالمية من المانيا إلى اليونان إلى بلغاريا، قاطفاً على حُنجرة الفنان اللبناني العالمي الراحل سامي كلارك النصر والميداليات والفوز. اشارة إلى أن أسم كلارك الحقيقي هو”سامي حبيقه” وقد شَرحَ الأستاذ الياس الرحباني في إحدى المُقابلات التلفزيونية في أوائل سبعينيّات القرن الماضي مع ظريف لبنان نجيب حنكش، سبب أختيار هذا الاسم كونهُ أسهل على اللفظ عند الحضور أمام الجمهور الغربي.
بَعدَ الياس الرحباني جاء دور الموسيقار زياد رحباني الذي لم ينضم أيضاً إلى خط المدرسة الفنية للاخوين”رحباني” وإن كانَ اشتركَ في أعمال لهذه المدرسة من خلال العزف على البيانو في مسرحياتهما الغنائية يوم كانت والدتهُ فيروز نجمتها، ثم مُلحناً لبعض ما تُغنيه والدته في هذه الأعمال، كما شَاركَ في أحد أعمال فيروز مع الأخوين رحباني بدورٍ تمثيلي أيضاً، فكان زياد يلعبُ دور الشرطي ويُلقي الحجز على سيارة فيروز وهي تُغني: “هالسيارة مش عم تمشي بدنا حدا يدفشها دفشة…”.
قبلها كان زياد يُحاول شق طريقهُ الخاص في مجالهِ الفني… فأعطى، عندما كان لا يزال في كنف العائلة الفنية، مسرحية “سهرية” (1973) ومسرحية “نزل السرور”(1974)، حيث بَرهنَ عن طاقاتهِ الملفتة تأليفاً مسرحياً وأخراجاً وتمثيلاً، بالاضافة إلى التلحين ووضعَ الموسيقى التصويرية.
وبعد انفصال والدتهِ فيروز عن والدهِ عاصي في العام 1979 بدأ الحديث يدور حول امكان تشكيل نواة فرقة تكون نجمتها فيروز مُلحنها زياد ومديرها صبري الشريف، الذي رَافقَ مدرسة الأخوين رحباني مع فيروز ردحاً طويلا من الزمن.
ومن أول المشاريع التي تم دراستها بعمق في العام 1981 هي رحلة عالمية تصل حتى الكارنيغي هول في أميركا. فانطلقت فيروز بادارة صبري الشريف، الذي توقفَ بدورهِ عن العمل مع الأخوين رحباني، في جولةٍ في الولايات المُتحدة الاميركية وكندا لتحيي حفلاتها الأولى دون عاصي ومنصور.
حَاولَ الأخوان بدايةً منعها من إعادة تقديم إنتاجاتهما خلال هذه الجولة، ثم سرعان ما تابعا وأشرفا على الحملة الإعلامية التي شنها أصدقاؤهما في الصحافة اللبنانية للمُراهنة على فشل فيروز من دونهما.
مرت الجولة في القارة الأميركية بسلام، وعادت فيروز إلى بيروت مُكللة بنجاح تحدثت عنهُ ضمن بضعة لقاءات إعلامية.
أما لناحية الأغاني فقد اعادت فيروز الحياة إلى صوتها الملائكي في تلك المرحلة عبر التعاون طبعاً مع أبنها زياد ومع الراحل جوزف حرب شعراً، وفيلمون وهبي تلحيناً، ومع المُلحن والموسيقار المصري الراحل رياض السنباطي.
فيلمون وهبه…شيخ الاغنية اللبنانية
بالنسبة إلى التعاون مع فيلمون وهبه، فتجربة فيروز الغنائية معهُ كانت ناجحة وأسفرت عن أبداع موسيقي هام تجلى في أغنيات خالدة: “ليليي بترجع يا ليل” و”يا دارة دوري فينا” و”يا مرسال المراسيل” و”من عز النوم ” وغيرها كثير… جاءت كمحطات فنية أستوعب فيها فيلمون أبعاد الصوت الفيروزي جيداً وتقدم منهُ بما يُناسبهُ ويسمو بهِ.
الفنان الراحل وفيلمون وهبه (1916-1985) كان يُعتبر شيخ الاغنية اللبنانية، وفهمَ عن كثب، صوت فيروز من خلال التعاون معها على اصدار اغنيات ثلاث هي: “يا ريت منن”، “ورق اصفر”، و”طلعلي البكي”.
الحان رياض السنباطي…لم تُبصر النور
الموسيقار المصري الراحل رياض السنباطي (1906-1981) يُصنف كأحد أعلام الموسيقى الرائدين في العالم العربي، ونتاجهُ شديد الأهمية، أحبهُ الجمهورالعربي وأحترمهُ من خلال صوت السيدة أم كلثوم وغيرها من المطربين والمطربات المصريين الكبار الذين غنوا لهُ، وهو شخصية مُبدعة توهّجت بعطاءات من الصعب مرور الزمن عليها، وفتحت أبواباً على الموسيقى العربية الأصيلة التي ترتبطُ بجذور تراثية شرقية الملامح والسمات.
في عام ١٩٧٩، عَرضت فيروز على الموسيقار الراحل رياض السنباطي التعاون فنياً؛ عرضٌ سُرَّ بهِ الموسيقار المسحور بصوتها الملائكي، وقالَ بعد لقائهِ الشخصيّ الأوّل بها: “ما تبقى من عمري لفيروز“، كلماتٌ صدق بها بقدر ما أتاحَ لهُ العمر. حين جاء موعد حفل الأغنية الأولى التي جمعتهما تفاقمت الحرب الأهلية في لبنان وأوقفت كل شيء، ثم رَحلَ رياض في 10 أيلول 1981 تاركاً ثلاثة ألحانٍ أعدّها لفيروز دون أن يتحقق حلمهُ بسماعها بصوتها، وهو ما تسبب في ألا يأخذ الأمر حيزاً أكبر من ذلك، خاصةً أن من تحدث عن الأغاني هو نجلهُ أحمد السنباطي (1945-2012)، الذي ظل لفترةٍ يُخاطب فيروز من أجل طرح الأغاني، ولكنها رفضت طرحها.
مرت أكثر ثلاثة وأربعين سنة حتى اﻵن والمُستمعون ما زالوا ينتظرون بشوق، ومنذ عقود، سماع فيروزيّات السنباطي التي ظلَّلَ عليها التحفظ الإعلامي المُرافق لمسيرة فيروز الغنائية منذ بدايتها، مما يتركُ علامة أستفهام من المُستمعين الشغوفين حول سبب عدم صدور الأغاني المُنتظرة.
التعاون مع رياض السنباطي شَملَ ثلاث أغنيات وذلك بواقع قصيدتين للشاعر الراحل جوزف حرب، وأخرى كتبها الموسيقار محمد عبد الوهاب باللغة العربية الفصحى، وهو أمرٌ نادر الحدوث، أن يكتب محمد عبد الوهاب أغنية بالفصحى.
قالَ بعض النُقاد الفنيين عن كون الرفض التام يعودُ إلى خشية فيروز أن تظهر بشكلٍ يُشبه “كوكب الشرق” أم كلثوم، فقد تبينَ لاحقاً أن هذا القراءة غير دقيقة، خاصةً أن رياض السنباطي ظل الاتهام يُطاردهُ بأنهُ يُحوِّل أي صوت يُلحن لهُ إلى صوت كلثومي، وهو اتهام غير صحيح، خاصةً أنهَ قَدمَ ألحاناً لعددٍ كبير من النجمات، أبرزهن ليلى مراد وشادية ولم يكن هناك تشابه مع أم كلثوم.
التكهنات والتحليلات النقدية تفرضُ نفسها أحياناً، لأن تجربة فيروز الغنائية مع المُلحنين المصريين لم تُعطِ النتائج الايجابية القوية التي أعطتها أعمال الرحابنة وفيلمون وهبي، فهي حين غنّت من الحان الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب “سَكنَ الليل” و”مر بي” و”سهار بعد سهار” تبينَ أن النمط الموسيقي الذي لبسهُ صوتها طوال سنوات المسرح الغنائي الرحباني لم يرتح للنمط الوهابي بنسبة ما أرتاح إلى ما تعودَ ونشأ عليهِ رحبانياً، أو أنهُ نَجحَ من الوجهة الفنية وأخفقَ من حيث التجاوب الجماهيري، فبقيت هذه الأغنيات للنخبة وغابت عن التداول العريض.
جوزف حرب…شاعرٌ بنفسٍ رحباني
بعد أن تعرفَ على الموسيقار زياد الرحباني في عام 1976 فُتحَ الباب للشاعر الراحل جوزف حرب (1943-2014) ليتعرف شخصياً على فيروز، التي غنّت من قصائدهِ أكثر من عشرين قصيدة عشقها الملايين من حول العالم ومنها “لبيروت”، “حبيتك تنسيت النوم”، “زعلي طوّل انا وياك”، “لما عالباب يا حبيبي منتودع”، “خليك بالبيت”، “اسامينا” ، “عيد الدني” ، و”هللو هللويا”.
موافقة فيروز على التعاون مع جوزف حرب، شعرياً على الأقل، بعد أنفصالها الشخصي والفني عن الرحابنة، يعود لكونه شاعر يكتبُ بنفسٍ رحباني ومُفردات رحبانية، وينهل من الخزّان اللغوي الذي أطلقهُ الرحابنة، فأمنت لنفسها بذلك حائطاً واقياً، ووفرت على نفسها مشقة الدخول إلى عالم فني لم تدخل اليه من قبل.
ريما الرحباني تؤكد: “مش هيي انفصلت”
صفاء ونقاء الحُب لا يدومُ حتى بين الكبار والمُبدعين، فقد بزغت الخلافات والمشاكل بين فيروز وعاصي الرحباني، حتى وصلَ الأمر إلى الأنفصال التام في العام 1979، وأكمل عاصي ما تبقى من عمرهِ مريضاً يرعاه أقرباؤه، حتى توفي يوم 21 حزيران 1986، ورُغمَ الانفصال، فخبر رحيل عاصي صَعقَ فيروز، وفي إحدى حفلاتها الغنائية غنت فيروز وسالت الدموع بغزارة منها، وهي تُغني مقطع أغنية “سألوني الناس” و”بيعز علي غنى يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا” .أشارة الى أن آخر تعاون فني بين الأخوين رحباني وفيروز كان في حفلة الأولمبيا الشهيرة في باريس في العام 1979.
“زوروني حرام، حرام، حرام!” صدحت فيروز مُختتمة حفلها في مسرح الأولمبيا الباريسي في أيّار ١٩٧٩. أنحنت قليلًا تحيي الجمهور، ثم أخذت خطوة للخلف بعيداً عن الميكروفون. عندما استدارت لتحية الجوقة والفرقة الموسيقية، كان زوجها عاصي الرحباني لها بالمرصاد: “روحي، روحي!”، تمتمت شفتاه، فمضت فيروز عائدةً إلى الكواليس على وقع تصفيق وهتاف الحاضرين. أُسدل الستار على خشبة المسرح، وأَسدلت تلك الأمسية ستاراً آخر على ربع قرن من الشراكة الفنية: كان ذاك آخر حفل يجمع فيروز وعاصي الرحباني.
بعدها قدمَ الاخوان رحباني مسرحيتين غنائيتين هما “المؤامرة مُستمرة” (1980) و”الربيع السابع” (1984)، وهما آخر عملين للأخوين رحباني دون مُشاركة فيروز.
بخلاف بقية مسرحيات فيروز، لم يرتكز هذان العملان على البطولة المُطلقة، على الأرجح خوفاً من إحداث رد فعل عكسي لدى الجمهور المُتعلِّق جداً حتى الثمالة بفيروز، بل لجأ الأخوان إلى أسلوب البطولة المُشتركة بين أصوات نسائية ورجالية، مع رونزا وفاديا طنب وميريام وملحم بركات ويوسف شامل وجوزف عازار، إلّا أن المُغنيات في هاتين المسرحيتين وقعن جميعاً ضحايا المُقارنة مع عظمة فيروز، حتى وإن ظهرن بأدوار ثانوية. نالت هاتان المسرحيتان ردود فعلٍ مُتفاوتة، كان أغلبها فاتراً، من كلا الصحافيين والجماهير. (https://utopiamanagement.com/)
وعند سؤال ريما الرحباني في أحدى المُقابلات عن الأسباب التي دفعت بوالدتها فيروز إلى الأنفصال عن والدها عاصي في العام 1979 أجابت: “مش هيّي أنفصلت، فيروز غادرت المنزل الزوجي في الرابية إلى بكفيا أولاً ، وعندما طالت حال الأنفصال أكثر من خمسة أشهر، وطالتها ضغوط لمُغادرة بيت بكفيا، أنتقلت فيروز إلى بيت الروشة. وعندما غادرت البيت، خرجت مع حقيبتها فقط، ولم تعد”.